&
عنوان هذا النص هو في الحقيقة عنوان فيلم سينمائي مشهور لعب دور البطولة فيه الممثل الأمريكي القدير جاك نيكلسون. وهو مستوحى من رواية للكاتب الأمريكي رايمون برادبوري الذي كتب العديد من الروائع في مجال الخيال العلمي. وقد شاهد هذا الفليلم أكثر من مرة من دون أن أشعر بالضجر. وفي كلّ مرة أكتشف أشياء جديدة لم أكن قد إنتبهت إليها في المرات السابقة. وهذا ما يميز كل عمل فني فريد سواء كان فيلما سينمائيا،أم رواية،أم مسرحية،أم عملا شعريا،أم لوحة،أم غير ذلك. ومثلما يقول الشاعر البريطاني فيتسبان هوغ أودن فإن العمل الفني الحقيقي والأصيل هو ذاك الذي يدنبنا الشعور بالملل. ويروي الفيلم قصة رجل يجد نفسه ذات يوم في مصحة للأمراض العقلية. وفي البداية يرتاع أمام المشاهد المقززة والمرعبة التي تطالع يوميا، فيشعر بالر غبة في الفرار من ذلك العالم الرهيب الذي تعيش فيه كائنات معذبة فقدت العقل والذاكرة،وباتت غير واعية بوجودها. إلاّ أن المريض الجديد يتمكن في النهاية من المحافظة على شيء من صفائه الذهني، ومن قدراته العقلية. وهذا ما يتيح له إحداث "ثورة" حقيقية داخل المصحة العقلية التي يتحكم فيها أطباء متمرّسون يتعاملون مع مرضاهم ك"حالات طبية" وليس كحالات إنسانية. وإذا بأولئك المجانين الميؤوس من شفائهم يستعيدون تحت تأثير المريض الجديد حبهم للحياة .وها هم يمرحون ويضحكون ويرقصون ويغنون وكأنهم أطفال في عيد من الأعياد السعيدة. وعليّ أن أشير إلى أن فيلم"طيران فوق عش الوقواق" يقفز إلى ذهني كلما وجدت نفسي أمام،أو في قلب مشهد ثقافي موسوم بالإبتذال والرداءة . عندئذ أودّ أن يبرز واحد له خصال ذاك الذي أعاد للمجانين في الفيلم إنسانيتهم وحيويتهم وحبهم للحياة. و"المجانين" الذين أعنيهم هنا هم المثقفون والمبدعون الذين وجدوا أنفسهم غرباء في مشهد ثقافي وفني يتحكم فيه أعداء الفن، ومدمرو القيم والأصول، ومشرّعو الجهل والأمية الثقافية،والمشوهون لكل ما هو جميل ونبيل.
&
**
&
عشت خارج بلادي قرابة ربع قرن. وخلال فترة الغربة الإختيارية كنت أزورها باستمرار متابعا كلّ ما يجدّ فيهات على جميع المستويات، خصوصا على المستوى الثقافي. إلاّ أن تلك المتابعة الدائمة لم تكن كافية لكي أتعرف على التحولات الحقيقية التي كان يعيشها المجتمع التونسي. وعندما عدت ، كانت أمنيتي أن أجد الحياة الثقافية قد تغيّرت نحو الأفضل. لكن خيبتي كانت كبيرة وموجعة. وأول ما صدمني هو استمرار الإحتفاء بالأموات على حساب الأحياء من المثقفين والمبدعين.وهذه بليّة ورثناها عن عهود وحقب تاريخية سابقة. فنحن نعلم مثلا ما تعرض له العلامة ابن خلدون من ضيْم ومن قهر لما عاد إلى موطنه تونس بعد عقود طويلة أمضاها مُتنقّلا بين المغرب والأندلس والمغرب الأوسط(الجزائر اليوم). وحين أدرك إبن خلدون أن البعض من علماء وفقهاء موطنه مُصرّون على إيذائه والإساءة إليه، ركب البحر إلى بلاد الشرق فلم يعد منها أبدا. كما نعلم أنه لم يعد الإعتبار للشابي وللمفكر الإجتماعي الطاهر الحداد ولجماعة"تحت السور" أمثال علي الدوعاجي ومحمد العربي إلاّ بعد مرور عقد طويلة على رحيلهم. أما في حياتهم فقد لاقوا صنوفا من المظالم ،ونعتوا بأبقبح النغوت وأبشعها. وكذا كان حال البشير خريف، والناقد الألمعي فريد غازي. والعجيب في الأمر أن ظاهرة إهمال الأحياء من المثقفين والمبدعين ظلت قائمة الذات إلى حد هذه الساعة. وهذا ما نلاحظه من خلال الدراسات التي يعدها الجامعيون الذين لا يهتمون في أغليهم إلاّ بالأموات. أما الأحياء فلا حظ لهم في ذلك. بل أن الجامعة التونسية لا تزال حريصة على غلق أبوبها في وجوههم. كما أن الصحافة الثقافية لا تولي هؤلاء الإهتمام الذي يستحقونه عن جدارة. والمشرفون على الصحافة الثقافية سواء كانت مكتوبة أم مسموعة أم مرئية، غالبا ما يكونون من المتقنين لفن العلاقات العامة. لذا هم يعيرون اهتماما كبيرا للعلاقات الشخصية، وللإخوانيات.أما الإبداع الحقيقي فلا نصيب له عندهم. بل هو يغيظهم، وفيهم يثير نزعات الشر والعنف. من هنا ندرك لماذا تسند الجوائز إلى غير مستحقيها،ولماذا يرفع من شأن صغار الكتاب والشعراء على حساب المبدعين الموهوبين، ولماذا تتجاهل الأ عمال الإبداعية الجيدة ، في حين يتمّ الإختفاء بالأعمال الرديئة. كما نفهم لماذا ينصدر المشهد الثقافي كتاب كفوا عن الكتابة منذ أزيد من ثلاثين عاما لبنصرفوا لحبك المؤامرات الخسيسة ضد المبدعين الحقيقين. وهذا هو حال واحد مثل عز الدين المدني. فهذا الرجل الذي ليس في رصيده سوى مجموعتين قصصيتين، وبضع مسرحيات ، وبضع مقلات سطحية بائسة، وسيرة ذاتية كتبت بلغة هزيلة وركيكة، لا يزال يتحكم في جائزة أبي القاسم الشابي التي أنشئت في السبعينات من القرن الماضي. وهو لا يمنحها إلاّ لمن يخدم مصلحة من مصالحه،و أو غرضا من اغراضة الدنيئة. وفي دورتها الأخيرة لعام2017، منحها للجامعي حمادي صمود الذي لا علاقة له بالإبداع الأدبي لا من قيريب ولا من بعيد. والكتاب الذي أصدره تحت عنوان" طريقي إلى الحرية" ، والذي مُنح بموجبه الجائزة المذكورة كتاب سطحي، ومنتفخ بالإدعااءت والأكاذيب ،وممل إلى درجة الغثيان. والواضح أن قرار منح الجائزة تمّ اتخاذه عند إعلان الترشح لها. فقد حرص عز الدين المدني على أن يكون أعضاء اللجنة من طلبة الجامعي المذكور المخلصين،وأيضا من أصدقائه الذين لا يردون له طلبا. والغرض الآخر من إستاد جائزة أبي القاسم الشابي هو أن "بيت الحكمة" ،وحمادي صمود أحد أعضاء هيئتها الإستشارية، نفخت في ّجنون عظمة" عز الدين المدني رافعة تقريرا للأكاديمية السويدية تشرّعُ من خلاله ترشحه لجائزة نوبل للآداب هو الذي لم يصدر طوال مسيرته الأدبية أي عمل ترجم إلى لغة أخرى ! وهكذا يظلم الشابي حيّا وميّتا.
&
الظاهرة المفزعة الأخرى التي يتوجب التوقف عندها هي أن نسبة عالية من المحسوبين على الثقافة وعلى الإبداع الأدبي والفني أعداء للقراءة. وهو لا يقرؤون حتى الكتب التي تهدى إليهم،أو يحصلون عليها مجانا. وأعرف شعراء لا يعرفون من الشعر العربي والعالمي إلاذ ما ندر. وكذا الحال بالنسبة لقصاصين وروائيين .وأعتقد أن القراءة هي أحد الحوافز الأساسية للإبداع في أيذ مجال من المجالات. من دونها لا يمكن للمبدع، شاعرا كان أم روائيا، أم فنانا ، أن يطور تجربته، ويعمقها. من هنا نفهم أسباب السطحية والإبتذال اللذين يطغيان على مجمل ما نقرأ سواء في تالشعر أم في القصة أم في الرواية أم في النقد.
&
ومن خلال إقامتي الطويلة في أوروبا تبيّنت مدى الترابط الوثيق بين مختلف أنواع الإبداع. فالشعراء لا يهملون الرواية، ولا السينما، ولا المسرح، ولا الموسيقى، ولا الفنون التشكيلية. بل من كل هذه الفنون هم يتغذون. وكذا الحال بالنسبة للروائيين . ويحرص السينمائيون والمسرحيون على أن يستوحوا من الرواية ومن القصة ومن الشعر ومن الفنون التشكيلية ما يرتقي بأعمالهم إلى مستوى فني رفيع. لهذا لم يتردد كبار المخرجين في تحويل أعمال روائية مثل"الموت في فينيسيا" لتوماس مان، و"طبل الصفيح" لغونتر غراس، و"إمرأة من روما" لألبرتو مورافيا"،و"تحت البركان" لمالموم لاوري، و"أنّا كاريننا" لتولستوي إلى أفلام لاقت نجاحا هائلا في جميع أنحاء العالم. وهناك رسامون استوحوا أعمالهم من خلال قصائد شعرية. وثمة شعراء كتبوا نصوصا رائعة عن فنانين كبار. وهذا ما فعله جان جينيه مع رامبراندت، ومع جياكوموتي. وهذا ما فعله أيضا رني شار مع بيكاسو، وبراك، ومالرو مع العديد من الفنانين الكلاسيكيين والمحدثين. أما في تونس فإن مثل هذا الترابط بين مختلف أنواع الإبداع نادر إن لم يكن منعدما أصلا.
&
**
&
لقد اعتقد الكثيرون أن المشهد الثقافي التونسي سيشهد تغيرات هامة بعد "إنتصار ثورة الكرامة والحرية"،وسقوط نظام بن علي. إلاّ أن الأوضاع ازدادت سوءا وتعفنا . فقد برزت على السطح عقلية "ثورجية" متخلفة ينسب أصحابها لأنفسهم بطولات نضالية وهمية لإخفاء أكاذيبهم واداعاءاتهم. وأغلب هؤلاء لم يصبهم أي سوء سواء في عهد بورقيبة أو بن علي، بل كانوا من المستفيدين الكبار من النظامين، وهذا هو حال عز الدين المدني على سبيل المثال لا الحصر. مع ذلك هيمن هؤلاء من جديد على المشهد الثقافي التونسي ليرسموا تضاريسه وملامحه بحسب ما تقتضيه مصالهم وأغراضهم. لهذا السبب تعددت مظاهر الإقصاء والتهميش والإلغاء ليكون ضحيتها مبدعين أصيلين وحقيقيين يعملون صمت بعيدين عن الصخب والعنف . وأما النقد في تونس راهنا فليس ذاك الذي ّيرجّ الأسس ذاتها"،وإنما هو ينحصر في الهجاء والذم والشتيمة والتحقير والنبذ. وفي جوذ موسوم بمثل هذا المواصفات، ينعدم الخوض في القضايا الكبيرة والجوهرية المتصلة بواقع تونس في الماضي والحاضر. وتعويضا عن ذلك، يقوم المسيطرون على المشهد الثقافي راهنا بإقصاء المبدعين الحقيقين رغما عنهم من المحيط الذي فيه يعيشون ويعملون ويفكرون ويتأملون ليرمى بهم في محيط آخر لا يكادون يعرفون عنه شيئا ،إلاّ أن الخطب والشعرات الإيديلوجية توهمهم بأنه يمكنهم الإلمام بمعطياته وخقاياه وأسراره . وبما أن التاريخ علمنا ويعلمنا أن المثقف الحقيقي لا يمكن أن يكون فاعلا في الواقع إلاّ عندما يكون متجذّرا في تربة وطنه ، فإن مثل هذا الإنسلاخ عن الواقع تحت تأثير الأوهام الثورجية والإيديولوجية لا يكون إلاّ مضرا ومفسدا .
&
**
&
أعود إلى فيلم"طيران فوق عش الوقواق" لأقول إن ما نستنتجه من هذا الفيلم البديع هو أن الخيال يمكن أن ينتصر على العقل الجامد والبارد والمتحجر متى توفرت له الفرصة. لذا باستطاعة من يوصفون ب"المجانين" أن يحافظوا على عافيتهم وصفائهم الذهني ليكون الخيال محلقا في الأعالي دائما وأبدا. وقديما مجد الجاحظ، وابن خلدوون، وأراسموس، حكيم أمستردام، المجانين ، مؤكدين أن هؤلاء قادرون على أن يأتوا بالعجائب في مجال الحكمة. و"المجانين" في بلادنا هم أهل الخيال،وأصحاب المواهب الحقيقية الذين فرض عليهم أشباه المثقفين، أن يعيشوا على هامش المشهد الثقافي لكي يتسنّى لهم أن يفعلوا ما يشاؤون. غير أم هذا الوضع لن يطول، بل سيأتي اليوم الذي ينتصر فيه الخيال على العقول المتحجرة والجامدة لتشهد تونس ثورتها الثقافية الحقيقية...