حسونة المصباحي: تعرفت على الكاتب الأميركي شارل بوكوفسكي من خلال البرنامج الثقافي الشهيرAPOSTROPHE الذي كان ينشطه بمهارة وأناقة مبهرة برنار بيفو. وكان يدعى إلى هذا البرنامج مشاهير الكتاب والمفكرين والشعراء من فرنسا، ومن جميع أنحاء العالم.&

وأذكر أن شارل بوكوفسكي جاء إلى الاستوديو وهو يترنح من السكر. ورغم ذلك اشترط على برنار بيفو أ ن يأتيه أثناء الحوار معه بقنينة من النبيذ الفرنسي المعتّق، فما كان من هذا الأخير إلاّ أن امتثل لطلبه. وفي نهاية البرنامج بدا شارل بوكوفسكي وكأنه فقد الوعي تماما.&

بعدها قرأت البعض من كتبه لأجده من فصيلة الكتاب الذين يجترحون من حياتهم، ومن تجاربهم الخاصة، مادة لإبداعاتهم. وكانت حياة هذا الكاتب الذي هاجرت عائلته الألمانية إلى كاليفولانيا وهو في الثانية من عمره مثيرة للإهتمام، ومليئة بالثقوب، والإحبطات، والمرارات، وحافلة بالأحداث والمغامرات، لذا جاءت جميع كتبه عاكسه لشخصيته، ولأطوار حياته منذ طفولته الشقية وحتى حصوله على الشهرة.&

وقد أمضى شارل بوكوفسكي سنوات طفولته وشبابه، وجزءا مهما من فترة الكهولة في حيّ من احياء شرق هوليوود حيث يقيم الفقراء والمهاجرون والمنبوذون اجتماعيا. وقد ترك الدراسة الجامعية ليعيش حياة المشردين، والفنانين البوهيميين الذين يقضون جل أوقاتهم في الحانات والفنادق الرخيصة.&

وعندما يتعتعه السكر كان ينصرف إلى الكتابة. وكان عليه أن ينتظر سنوات الكهولة ليلفت انتباه النقاد والقراء. ومع اقتراب الشيخوخة، أصبح من مشاهير الكتاب لا في بلاده فحسب، بل في جميع أنحاء العالم. وكان دائما يتباهى بأنه من سلالة الكتاب الكحوليين أمثال جاك لندن، ويوجين أونيل، ووليم فوكنر، وإرنست منغواي الذين "تطلق الكحول العنان لأقلامهم، وآلاتهم الكاتبة، وتمنحهم الألق الفريد، والجرأة النادرة".&

وكان يقول أيضا بإن الكتابة مثل الملاكمة، تحتاج إلى الموهبة، والجرأة، والحالة النفسية التي هي "تناغم غريب بين العقل والروح". ويضيف شارل بوكوفسكي قائلا: "إني أكتب عن الحياة، لكن ما يُذْهلني هو الشجاعة الجبارة التي يبديها الناس في حياتهم، التي تقيهم أحياء". ولك يكن شارل بوكوفسكي يكف عن السخريه من معاصريه من الكتاب. وكان يصفهم بأقبح النعوت. فهم مُضجرون، وثرثارون كالعوانس العجائز، يعضّون بعضهم بعضا، يطعنون بعضهم بعضا، ويملؤون أناهم بالغرور".


وفي روايته" هوليوود" الصادرة عن دار مسكيلياني التونسية أواخر عام 2017، في ترجمة من إنجاز عبد الكريم بدر خان، يروي لنا شارل بوكوفسكي بطريقة بديعة قصة دخوله إلى عالم السينما في هوليوود بعد أن عرض عليه المخرج الفرنسي باربت شرودر( في الرواية يدعى جون بنشو) كتابة سيناريو مستوحى من حياته في زمن الصعلكة والتشرد. وقد قام هو بكتابة سيناريو لفيلم سيكون بعنوان" بار فلاي" وسيلعب دور البطولة فيه ميكي روك( في الرواية يدعى جاك بليدسو)، ونجمة هوليوود فاي دوناوي (في الرواية تدعى فرانسين باورز).&

وفي هذا الفيلم يروي شارل بوكوفسكي فصلا من فصول حياته في سنوات الشباب عندما أصبح مدمنا على الكحول. وكان يقضي أيامه ولياليه مع المشردين والعاطلين عن العمل في الحانات الحقيرة حيث تكثر المشاجرات، واللكمات. ومصحوبا بزوجته الثانية ليندا لي بييل ( في الرواية تدعى سارة" هو يأخذنا إلى عالم نجوم السينما في هوليوود ليصف لنا بدقة، ويسخرية لاذعة ما يدور هناك، من دون أن يرحم لا مشاهير المخرجين ولا الممثلين والممثلات. فالمخرجون" مصاصودماء"، و"منافقون"، و"لصوص" و"دجّالون محترفون". والممثلون يفقدون شخصياتهم الحقيقية بسبب تعدد الأدوار التي يقومون بها. فبعد أن يتحول الممثل إلى عشرات الأشخاص الغرباء عنه، سوف يكون من الصعب عليه أن يتذكر من هو، وأن يجد صوته الخاص. ويضيف شارل بوكوفسكي قائلا:» إن كثيرا من المشاهير هم مجرد حمقى وجبناء وأوغاد.ربما ربحوا صفقة ما أو مقامرة ما، رفعتهم إلى الأعلى، أو أصبحوا أغنياء بسبب غباء الجماهير، فهم أشخاص عديمو الموهبة، وعديمو الأرواح.إنهم روث يسير على قدمين، لكنهم في نظر الجماهير أنصاف آلهة!».

وفي البداية كان شارل بوكوفسكي يفضل أن يلعب دور البطولة النجم الشهير شون بين، إبن كاليفورنيا. لكن في النهاية تمّ اختيار ميكي روك، إبن نيوورك. وقد أغاضه ذلك كثيرا لكنه استسلم في النهاية، بل سمح لنفسه بعد تردد بمدح ميكي روك أثناء تأديته للدور. أما اختيار النجمة فاي دوناوي فقد أبهجه كثيرا. فهي بالنسبة له "أخر النجمات الكبار". لذا هو لم يكون قاسيا معها مثلما كان حاله مع ميكي روك، ومع آخرين. بل أنه استجاب لطلبها عندما أصرت على أن يضيف مشهدا تظهر فيها ساقاها عاريتين بالكامل قائلا: "أنت تعلم جيدا أن لي ساقين في غاية الإثارة والجمال..ألا تتذكرهما وأنا انزل المدارج في فيلم بوني وكلايد؟".&

ويصف شارل بوكوفسكي وصول فاي دوناوي إلى إحدى الحفلات قائلا:»فجأة وقفر كل من الحفل، وراحوا يصفقون بحرارة. كانت فرانسين باورز (يعني فاي دوانوي) قد وصلت إلى الحفلة، لم تكن كبيرة في السن، لكنها محسوبة على ممثلي الجيل القديم. وقفت باستقامة وشموخ كأنها مكلة تطل على شعبها".

ومن البداية إلى النهاية، يروي شارل بوكوفسكي الأحداث في الماضي والحاضر من دون أن يكف عن الشراب. يشرب وهو يقود السيارة، ويمشي في الشارع، ويتحدث مع الناس، ويشاهد أفلاما، ويحضر الإجتماعات بشأن الفيلم، ولا يكاد يكف عن ذلك. وهو يشرب في نفس الوقت أنواعا مختلفة من الكحول. وأثناء تصوير الفيلم، يتذكر الحانة التي كان يتردد عليها. وكانت حانة حقيرة للغاية بحيث كان عليه أن يطلب كأسا تلو الأخرى ليقاوم الرائحة الكريهة المنبعثة من المبولة. كمايتذكر روّاد الحانة بأجسدهم ووجوههم وأصواتهم. فمن ذلك العالم الجحيمي هو أتى، ومنه استمد مواضيع كل القصص والروايات والقصائد التي كتبها.

ومعلوم أن فيلم"بار فلاي" ترشح للسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي. وترشحت فاي دوناوي لجائزة"غولدن غلوب" كأفضل ممثلة. وقد حقق الفيلم نجاحا كبيرا في جميع أنحاء العالم لأنه جاء مختلفا عن معظم أفلام هوليوود. وبعده، بدأت صحة شارل بوكوفسكي تتدهور بسرعة إلى أن توفي بسرطان الدم في 9 مارس-آذار 1994.