هذه الأيام ، تم نشر بعض الصور التاريخية على بعض صفحات الفيس بوك. ويبدو أن الصور مأخوذة من بعض المواقع الأوربية عن التاريخ الاستعماري& لمنطقة البجا التاريخية (وهي المنطقة التي تمتد من جنوب أسوان في مصر حتى مدينة مصوع في إريتريا ، مروراً بالسودان)& ، حيث& تبين أنها صور قديمة ترجع إلى إلى أكثر من ثمانين عاماً (العام 1933) ، وتم التقاطها في بعض مناطق الحباب الساحلية . وهي المناطق التي تمتد خلالها تخوم قبيلة الحباب بين حدود كل من السودان وإرتيريا.
&ويظهر في تلك الصور ؛ صور جديدة وواضحة بشكل لافت ، لبعض الشخصيات التاريخية المعروفة في منطقة الحباب ، مثلاً ، كشخصية الناظر كنتيباي " عثمان هداد " ناظر الحباب في إريتريا على مدى أكثر من خمسين عاماً.&
وفي تقديرنا ، تكمن أهمية تلك الصور في كونها نماذج حية ووثائق مصورة ، تعكس وتفسر كثيراُ& من النواحي التي قد تساعدنا اليوم على تفسير طبيعة الحياة في ذلك الزمن ، ورصد بعض ملامحها التاريخية .&
فإلى جانب ما يفسر لنا الكثير مما كنا نسمعه ، مثلاً ، عن طريقة مجالس القبائل البجاوية التي تعقد خلالها جلسات القضاء والأحكام والسمر والعديد من الحلول للمشكلات ، يبدو في الصور& ما يسمى لدى مجتمع الحباب بـ " محبر" كنتيباي " أي مجلسه العام (هناك صورة واضحة لذلك المحبر ويبدو أن الوقت كان ضحى للوضوح الشديد للصورة من ناحية ، ولقلة الحاضرين مما يفسر خروج أغلب الناس في ذلك الوقت لأعمالهم في الرعي والزراعة ، من ناحية أخرى). لكل ذلك ؛ فإن القيمة التوثيقية لهذه الصور هي أول ما يبرر الحديث عنها ، بوصفها اليوم العلامة الأوضح لبعض ملامح تلك الحياة.&
الصور ناطقة جداً ومعبرة للغاية . ويبدو أن المصور الماهر كان مدركا للخطاب البصري الذي توخاه عبر العديد من اللقطات المعبرة عن تلك الحياة " القديمة ". وبطبيعة الحال ، لا تخلو الصور الملتقطة من عكس إرادة هيمنة استعمارية& & & & & &(ايطالية تحديداً) من خلال احتكار موضوعات الصور& ، واختيار الحالات التي يتم فيها التصوير. ففي ذلك الوقت كان التصوير شأناً خاصاً بالحكومات الاستعمارية ، بحيث تكون موضوعات الصور مختارة بعناية ، وبحيث لا تظهر فيها إلا الشخصيات العامة ، أو الموضوعات المعبرة عن طبيعة البيئة ، والزينة ، واللباس والرقص ، في تلك المجتمعات (وفي هذه الحالات تكون الصور الفردية& إما لشخصيات " موديل / نموذج " وغير معروفة إلا من ناحية دلالتها العامة ، وإما صوراً جماعية تعكس طبيعة الموضوع ، لا الأفراد).&
هذه الصور اليوم ، تعطينا فكرة مثلا عن طريقة تصفيف الشعر البجاوية ، وهي طريقة تخلصت منها معظم القبائل البجاوية الناطقة بلغة " التقراييت "& في زمن أبكر& من القبائل البجاوية& الناطقة بلغة " البداويت "& مثلاً ، مما يعكس لنا الطبيعة البجاوية الواحدة لنمط الحياة عبر هذه الصور التي نرى فيها أشخاص من الحباب ، مثلا ، برؤوس مصففة على الطريقة البجاوية " تصفيفة رأس الأسد " كما تسمح لنا الصور بمساحة واسعة من التأويل والفهم والاستدراك الذي يمكن أن نعرفه من تلك اللقطات سواء ما أتصل منها بالشخصيات العامة ، أو ما عبر عن أنماط الحياة في ذلك الوقت أو غير ذلك.
ولعل مما يكون مهما في هذه الصور ، هو أن منطقة ساحل الحباب ، كما يقول الكاتب الإيطالي/ الأمريكي " أنتونيو دو فراي " في كتابه عن الحباب : " لوردات البحر الأحمر" أن هذا الساحل ، رغم قربه من مواقع العالم الاستراتيجية في البحر الأحمر ، إلا أن أرض الحباب والأراضي البجاوية المتصلة بها ، ظلت قرونا طويلة في شيه عزلة تامة عن مجريات الأحداث التاريخية في العالم الخارجي . وهو ذات الرأي الذي كتبه الكاتب والإداري الانكليزي مستر"& بول " في كتابه تاريخ القبائل البجاوية ، الذي ذكر فيه أن نمط الحياة البجاوية ظل متصلا على مدى 5 آلاف سنة. لا يعني أن ظهور هذه الصور ، مؤخراً ،& عن تلك الحقبة القديمة نسبيا ـ ثلاثيات القرن العشرين ــ أنه لم تكن& هناك صور لبعض الشخصيات العامة كشخصية " كنتيباي عثمان هداد " مثلا. ولكنها كانت صورة شبه نادرة ، من ناحية ، وليس فيها وضوح كافِ كمثل هذه الصور التي وجدت مؤخراً .&
إن الأهمية التوثيقية لهذه الصور حين ننظر إليها اليوم من الزاوية التاريخية، تعكس لنا حقائق تاريخية ربما لا يعرفها الكثيرون اليوم عن أرض الحباب وتاريخ هذه الأرض. وإذا ما عرفنا مثلا أن هذه الصور لا تعكس فقط المحتوى البصري والموضوعي لها ، وإنما أيضاً كانت تعكس بحساب ذلك الزمان ، هويتها وحيثيتها فإن الحقائق التي ستتجلى ، بحسب تلك الصور الناطقة ، وستفرز لنا امكانية لقراءات أخرى أقرب إلى الموضوعية& بالتأمل فيما كانت تعنيه من ثيمات وحقائق ونمط حياة أوان التقاطها ذاك. وهنا فإن من الأهمية بمكان تأمل تلك الصور وما يختزنه خطابها البصري والتاريخي من معاني ودلالات قد تعيد تعريف الكثير من الحقائق التاريخية ، فقط ، عبر تأمل معطياتها البصرية الناطقة.&
كاتب سوداني& &&