&

أقام "متحف الملكة صوفيا" بمدريد معرضاً عن الكاتب البرتغالي المتعدد الشخصيات فرناندو بيسوا، حيث يستمر حتى السابع من مايو/ آيار المقبل.
&
كتب فرناندو بيسوا في 1961، واصفاً الفن من خلال منظوره الخاص"الفن هو وسيلة إعجاب بأنفسنا. لذا، المفروض أن يكون الفن العفوي نابعاً من الناس البسطاء. التفكير هو مرآة الروح، لذلك فأن التعبير عن مشاعرنا، والتي يشكلها الفن، لكونها تمثل تفسير الأحاسيس عبر التفكير، هي أن ننظر روحياً إلى أنفسنا في المرآة. وما يسمى ب (الحاجة إلى الخلق)، لا يتجاوز الحاجة إلى الإعجاب بالنفس".
لم تكن تلك مجرد تأملات عرضية، ولم تأت رداً على سؤالٍ غير متوقع. والشاعر البرتغالي الذي إخترع العديد من الشعراء الأنداد له، وفقاً لروبرت هاس، " لم يكن ذلك الإنسان الذي كرّس ذاته حصرياً للأدب، كما يقول هو بنفسه، أن يكون الواحد منا شاعراً وأديباً لا يشكل ذلك مهنة، بل هواية". وإلى جانب عمله بصفة "مراسل أجنبي في مكاتب تجارية"، فقد كان بيسوا أيضاً أحد أبرز الرموز الرئيسية للطليعة الفنية في مطلع القرن العشرين في البرتغال.
وبغية الإطلاع أكثر على هذا الجانب الحياتي غير المعروف كثيراً للمتابع، كما هي صورته الأدبية، فقد نظّم "متحف الملكة صوفيا" معرضاً بعنوان "بيسوا. الفن شكل من أشكال الأدب". حيث يحاول هذا المعرض تسليط المزيد من الأضواء على المشهد الطليعي البرتغالي للعقود الأولى من القرن العشرين، وكيفية تدخّل الشاعر في حيثياته، عبر كتاباته وطروحاته الفنية، هذا الجانب الذي بالكاد يعرفه الجمهور. وهي طروحاتٍ شملت أهم الحركات الفنية في ذلك الوقت، ساهم فيها كبار الفنانين، أمثال أنتونيو كارنيرو، وأماديو دي سوزا كاردوسو، وغيليرمي دي سانتا ريتا، أو إدواردو فيانا، وغيرهم.& &
ويأتي تقرّب فرناندو بيسوا من المشهد الطليعي البرتغالي نتيجة تأملات ومفاهيم تحمل خصوصيته، منذ محاولة الكاتب تحليل ظهور الحداثة في المشهد الفني البرتغالي. ذلك المشهد الطليعي والذي تأثرمن حمل رايته بموجاتٍ مثل التكعيبية، والمستقبلية،& سعياً من أجل النأي بالنفس عن غيرها، ولترسيخ خصوصيتها الثقافية.
وتعد قصيدة "مذكرة عشوائية أخرى" لألفارو دي كامبوس بمثابة نقطة إنطلاق بدأت بإعتبار "الفن شكل من أشكال الأدب"، وقد تبناها المعرض للحديث، من خلال 160 عملاً فنياً، عن قدرة بيسوا والفنانين البرتغاليين، للبحث عن إسلوبٍ إبداعي يميّزهم عن غيرهم، ومحاولة عدم الإنجرار خلف التيارات المهيمنة آنذاك. وهذه الإبداعات تجلّى فيها الميل إلى ما هو شعبي و مجسداً الخصوصيات البرتغالية. أن الإختلاف، في حالة فرناندو بيسوا، إدى به إلى خلق وتثبيت تياراتٍ خاصة به ضمن النظرية الشعرية. يوضح بيسوا، في لقاءٍ أجرته معه "مجلة البرتغال" عام 1923، مفهومه حول الجمالية، وأساليب التكنيك التي تبناها معظم الفنانين البرتغاليين آنذاك.
وقد نشر بيسوا تأملاته وأفكاره في ما هو معاصر في مجلة "أورفيو" الأدبية في عام 1915، التي تحولت إلى الناطقة الرئيسية بإهتماماته الفنية، رافقه في ذلك الشاعر ماريو سا-كارنيرو. ورغم أنه لم يكن صدر منها سوى عددين لأسباب مالية، إلآّ أن هذه المجلة كانت قادرة على "توجيه ضربة قاسية للوعي الفني البرتغالي، والكشف بشكلٍ كبير عن شعر عميق وإفتراضي، واعٍ لتجديده الراديكالي"، وفقاً لكلمات الدكتور في الأدب البرتغالي فرناندو كابرال مارتينز.& & وفي مجلة "آ ريناسثينكا" الصغيرة الحجم، نشر بيسوا أولى قصائده التي أدت إلى ما أُطلق عليه "الباوليسمو". ومع قصيدة "باويس" أو "الأراضي الرطبة"، يكون بيسوا قد وضع اللبنات الأولى للتيار الحزائني، وجهة نظر معاصرة حول الرمزية. وبعدها، بفترة قليلة، ظهر تيار "التداخلات"، الذي يضمّ سلسلة من الأعمال الأكثر إلتصاقاً بلغة الرواد، والذين يتفقون على خطط معينة، ويحتفظون بعلاقة مع "المستقبلية". وبالنسبة لبيسوا، أن هذا التيار كان يمثل التزامن العقلي للصورة الموضوعية والذاتية، النابعة من تداخل الأحاسيس بالتصورات. وعلى الرغم من ذلك، تبقى أكثر الإنجازات تميّزاً للفلسفة الجمالية الخاصة بالكاتب البرتغالي هي التأثير، نظراً لأن "أساس كل فن هو التأثير". وهي حركة لعبت دوراً في غاية الأهمية ضمن الطليعة البرتغالية، لكنها بالكاد إنعكست على الجمهور. أن دائرة الكتّاب والفنانين الضيقة والتي راهنت على تأملات بيسوا إنحصرت في خوسيه دي آلامادا نيغريرو، العضو الأكثر نشاطاً ضمن هذه الدائرة.
في عام 1917، ومن خلال واحد من أشهر أسمائه البديلة، ألبرتو كايرو، أكد الكاتب البرتغالي على "أن التأثيرهو كل شئ، والتفكير مرض. وعبر ذلك يحس كايرو بالأشياء كما هي، دون إضافة أدنى عنصر للتفكير الشخصي، والإحساس أو في اي مكانٍ آخر من الروح". وبالنظر لقلّة أهميته، إلاّ أن عنصر التأثير كان السبب في إحتفاظ الفنانين، في ذلك الوقت، على روح التحاور مع أقرانهم المهتمين بالأجناس الأدبية الأخرى، ومن ثم إبراز الرغبة في طروحات وأساليب بلدانهم، إضافة إلى الإستعانة بلغاتٍ أخرى. وتشمل قائمة العلاقات الفنية المتينة والمؤثرة، والتي نشأت بين أسماء مثل إدواردو فيانا، وألامادا نيغريروس، وأماديرو دي سوازا، عائلة ديلاوناي أيضاً، والهاربة من أجواء الحرب الدائرة آنذاك في أوربا الوسطى . وقد إستقر كل من روبرت وسونيا ديلاوناي في شمال البرتغال، ليطرحا أفكارهما حول تيارات مثل الأورفية، والتكعيبية، حيث شكلا قطباً مهما فيهما. وتضيف المواد الثقافية المعاصرة إلى القسم المخصص للفنون المسرحية في المعرض أهمية خاصة، من خلال ضخه بمعلوماتٍ ذات صلة بعمليات الإنتاج الأكثر إثارة للإهتمام في ذلك الوقت، في المسرح والرقص، وكذلك بالنسبة للجزء المخصص للمرحلة الثانية من الحداثة البرتغالية. تلك المرحلة التي نُشرت أيديولوجيتها عن طريق "المجلة البرتغالية"، وغيرها من المنشورات، إلاّ أنها لم تبلغ مستوى الذين سبقوها، بسبب سلسلة محن إعترضت مسيرتها. وقد أدى موت أماديو دي سوازا – كادوسو وإنتحار سانتا ريتا بينتور وماريو دي سا – كارنيرو إلى تشتت المشهد الطليعي. وجاءت الضربة المميتة على يد أنتونيو دي أوليفيرا سالازار، بعد تشديد قبضته على السلطة ودعم الجيش لنظامه، الذي قضى على أية إمكانية لظهور تياراتٍ طليعية جديدة.
وبعد مضي عدة سنوات من حكمه، تقلّد سالازار في 1932 منصب رئيس الوزراء في البرتغال، بينما كان فرناندو بيسوا يعيش الأيام الأخيرة من حياته. وفي عام 1934، نشر بيسوا، قبل وفاته، كتابه الوحيد في البرتغال، والذي حمل عنوان "رسالة". ويتوفى بيسوا في المستشفى، بعد مرور 364 يوماً على ذلك، بسبب إصابته بإلتهاب الكبد، ولجوءه الشديد إلى الخمر.&
ويموت الشاعر المتألم في أعماقه، دون الإلتفاتة إلى أهميته ودوره في الحياة الأدبية في البرتغال. لكن مع مرور الوقت، ومن خلال الترجمات، يُكشف النقاب عن أعمال العديد من الكتب الشعرية العظيمة خلال القرن العشرين.&
اليوم، وبعد مرور أكثر من 80 عاماً، يكون بمقدور عشاق الشعر، وبفضل "متحف الملكة صوفيا"، إكتشاف وتمضية أجمل اللحظات والإطلاع على النواحي الأكثر فنية، والجوانب المجهولة وغير المعروفة من حياة الشاعر ذو الألف إسم.& & & &
&