يرى الفلاسفة وعلماء الاجتماع أن القداسة شعور يتخلل سلوك الإنسان في جميع منظوماته الفكرية والمجتمعية والطبيعة الخارجية، فهي ليست مرحلة عاشها الإنسان. وإنما تتخلل كلًا من بنية الشعور الإنساني والزمان والمكان.

إيلاف: يقدم طه سليمان عبد الجيد في كتابه "قيمة القداسة عند ميرسيا إلياد" رؤية وطرحًا متميزين لفلسفة الدين لدى الفيلسوف والمؤرخ والروائي الروماني ميرسيا إلياد، من خلال تحليل مفاهيمه عن المقدس والأسطورة، والبحث عن التاريخ والمعنى في الدين، مؤكدًا أن قيمة القداسة تعد فكرة جوهرية في فلسفة الدين، بل تكاد تكون الفكرة المركزية التي تدور حولها كل فلسفة تتناول الدين بشكل عام. 

تخترق الزمان والمكان
وقد نالت اهتمام فلاسفة الدين، باعتبارها قيمة دينية عليا، وتطورت دراساتها بداية من القرن التاسع عشر لدى "شلير ماخر 1768 ـ 1834". ثم اهتم بها "رودولف أوتو 1869 ـ 1937" في كتابه "فكرة القدسي"، وهو الكتاب الرائد الذي ترك أثرًا بالغًا في علم اللاهوت وفلسفة الدين، وقد كان له أثر واضح على "ميرسيا إلياد" في كتابه "المقدس والدنيوي"، وعلى فلاسفة الدين الذين تناولوا فكرة القداسة من وجهة نظر فينومينولوجية، مثل "ناتان سودربلن" و"بريد كرستنسن" و"جيرادروس فان دي ليو" و"جواشيم واتش".

وأشار عبد الجيد إلى أن إلياد تميّز عن سابقيه بجوانب عدة، منها الاعتماد على الدراسة التاريخية للأفكار الدينية في تطورها، ومنها التأكيد على نزعة إنسانية عالمية، تتجاوز مفهوم النزعة الإنسانية في عصور النهضة، كما جمع بين المنهج الهرمنيوطيقي والمنهج الفينومينولوجي. وجمع أيضًا بين الفلسفة والإبداع الأدبي في فن الرواية، فكانت رواياته عامة تجسيدًا لتأملاته الفلسفية، وهو في هذا المنوال ينسج على منوال كبار الفلاسفة الوجوديين، مثل "جان بول سارتر" في مسرحياته ورواياته، مثل مسرحية "الذباب" ورواية "الغثيان"، ومثل كذلك "ألبير كامي"، وغابرييل مارسيل وغيرهم.

ورأى عبد الجيد أن آراء الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع تجتمع حول أن القداسة شعور يتخلل سلوك الإنسان في جميع منظوماته الفكرية والمجتمعية والطبيعة الخارجية، فهي ليست مرحلة عاشها الإنسان. وإنما هي تتخلل كلًا من بنية الشعور الإنساني والزمان والمكان. بمعنى آخر أفكارنا المقدسة قوة حدسية تنشأ من أعماق الشخصية.

الأسطورة على مر العصور
وقال إن قيمة القداسة قد تظهر في محاولة التوفيق بين الدين والعقل من خلال إسقاط صفة التقديس على أمكنة وأزمنة وأدوات مختلفة لمحاولة إدراك المقدس، بطريقة غير مباشرة، ولكن لا يمكن أن يخضع المقدس كلية إلى العقل أو الحدس، ولذلك يلجأ الإنسان بطريقة غير ملموسة في الذات من جانب الفرد إلى إخضاع بعض الأزمنة والأماكن لخدمة إدراك المقدس، فيضفي على تلك الأزمنة والأماكن معنى قدسيًا فيحوّل الدنيوي إلى مقدس.

ألمح عبد الجيد إلى أن الأسطورة تعتبر وسيلة لفهم العالم من خلال الرموز، بمعنى أنها حكاية غير محددة من الناحية الزمنية، فتتخطى التاريخ، وتصبح صالحة لكل الأزمنة. وتعد الأسطورة عودة إلى القيم البطولية الأولية الموجودة في كل ثقافة، كما تحكي الأسطورة قصة مقدسة، وتعود بنا أحيانًا إلى قصة واقعية. 

هذا لا يمنع من اختلاف مفهوم الأسطورة وتغيّر احتياجات العصر لها، فالأساطير الحديثة لا تعتمد في روايتها على السرد الملحمي، وإنما على الوسائل الحديثة، مثل الصور المتحركة والخيال العلمي. فأسطورة العلم حلت محل الوحي، وأسطورة الخلود اعتمدت على تجارب حفظ الجثث بالتبريد. وتعد الأساطير التي عرض لها إلياد في مؤلفاته خير دليل على تجسيد قيمة القداسة بين المنهج الفينومينولوجي والمنهج الهرمنيوطيقي. بمعنى أن الأسطورة تتحدد بنمط وجودها.. ولا تتاح لنا معرفتها إلا بمقدار ما تكشف عن شيء معيّن تجلى بتمام، وذلك التجلي هو في آن واحد إبداعي ومقدس، لأنه يؤسس على السواء بنية للواقع وسلوكًا للبشر.

وأكد أن الأسطورة ليست بحد ذاتها ضمانًا لخير أو أخلاق، إنما وظيفتها الكشف عن النماذج البدائية وإضفاء معنى على العالم والوجود البشري، كذلك هي تلعب دورًا كبيرًا في تكوين الإنسان، بفضل الأسطورة تكونت أفكار مثل الواقع والقيمة، كما صار بالإمكان فهم العالم بما هو كون تام الصنع ومفهوم وذي معنى، والأساطير تحكي لنا كيف صنعت الأشياء ومن خلقها؟ ولماذا خلقت؟ وفي أي زمان كان خلقها؟.. إن جميع هذه المكاشفات تهم الإنسان اهتمامًا مباشرًا نوعًا ما، لأنها تشكل تاريخًا مقدسًا.

دعوة إلى أنسنة جديدة
ولفت عبد الجيد إلى أن مفاهيم المقدس وأشكاله تعددت، ففي الطبيعة حجر أو شجرة مقدسة، وفي العالم السماوي آلهة وملائكة وشياطين، وفي التاريخ الاجتماعي سلف مقدس، وعند الفرد صوفي أو قديس، حيث لا يمكن تفسير المقدس وفق معتقد أو ديانة محددة، إنما المقدس يمكن تعريفه بعالمية عاطفية نابعة من أعماق الشخصية، ولم يكن المقدس نقيض الدنيوي بشكل ثابت، وإنما العلاقة بين المقدس والدنيوي علاقة جدلية وتبادلية، حيث يحتل أحدهما مكان الآخر، فيصبح الدنيوي مقدسًا والمقدس دنيويًا.

وأوضح أن إلياد ذهب عكس التيار السائد في زمانه، داعيًا إلى مذهب إنساني جديد، وتاريخ للأديان يأخذ في الاعتبار ثقافة الإنسان الشاملة التي هي ثقافة الإنسان الكوني، حيث إن رد المعتقدات والأفكار الدينية إلى جذورها التاريخية يعتبر سمة خاصة، وملمحًا مميزًا لعصر الحداثة بوصفه جانبًا من جوانب النقد التاريخي للنصوص المقدسة. كما اهتم إلياد بزاوية النظر الجديدة التي قدمها علم نفس الأعماق، وقارن بين فرويد ويونغ مفضلًا يونغ، ومعتبرًا فرويد شخصية انتقالية لا تزال تتعلق بالقرن التاسع عشر بكل ما فيه من منهجيات ونزعات وضعية وإسقاطات سلبية حول تطور الأديان.

وقال عبد الجيد إن إلياد تميز عن المؤرخين المعارضين له في انتقاده لجانب أسماه "الاختزالية التاريخية" لدى المؤرخين الذين أنكروا على الظاهرة الدينية معناها ومقاصدها، ولكن لا يستطيع إلياد تخطي هذه الاختزالية في مؤلفاته، حيث اختزل القيم الدينية في قيمة القداسة. استخدم إلياد المنهج الهرمنيوطيقي أو الاجتهاد التأويلي الذي يقوم على النظر في أن الدين يفترض وجود تجربة دينية أو اختبار ديني يخوضه الإنسان ويعيشه، سواء كان تجربة أو اختبارًا للمقدس أو القداسة ذاتها، فإنها تشكل القوام الذي تتكون به كل ظاهرة كونية.

الحاجة إلى بدايات
درس عبد الجيد ديانات وطقوس الشعوب البدائية. وأوضح أن النماذج البدائية وقداستها ومن ثم إضفاء صفة التقديس على الأفعال الدنيوية دليل على قيمة الحياة عند الإنسان، الذي يحاول دائمًا تكرار فعل النموذج البدائي، وليس معنى تكرار فعل النموذج المثالي إحياء للآلهة، وإنما هو فعل تكرار فحسب.

وأضاف أن تاريخ الأديان بجانب الآلهة العليا الخالقة عرف آلهة أخرى تختفي من على سطح الأرض، ولكنها تختفي، لأن الناس قد قتلوها، ولكن بعد فعل القتل هذا انبعاث وولادة جديدة في مختلف الظواهر الكونية، وهذا واضح في طقوس الأديان الأسترالية.

وتوصل إلى أن الأعياد الدنيوية في العالم الحديث، البعيدة عن أجواء القداسة، ما زالت تحتفظ بالبنية والوظيفة الأسطورية، وهذا واضح في المسرات التي تملأ القلوب عند قدوم رأس السنة، أو الأفراح عند ولادة الطفل، أو عند بناء بيت، أو حتى عند الإقامة في منزل جديد، فكل هذه المواقف تكشف عن الحاجة إلى بداية جديدة مطلقة يحس بها المرء إحساسًا غامضًا، وإلى أن يبدأ حياة جديدة، أي إلى أن ينبعث انبعاثًا شاملًا، مهما كانت المدة الفاصلة بين تلك المسرات وبين نموذجها الأسطوري القديم.

وكشف عبد الجيد عن مظاهر المقدس في فلسفة إلياد خاصة في الزمان والمكان، التي كشفت عن أدلة متشابهة للسلوك الديني عند الإنسان، تعكس في ظاهرها رؤية واحدة للأديان، وتدور هذه الرؤية حول الجوهر البدئي أو وحدة المقدس أو حول عقيدة محورية هي الكينونة الذاتية التي هي في ذاتها المقدس، حيث إن الإنسان في فلسفة إلياد أيًا كان متدينًا أو لا ديني، هو يدين بالديانة الكونية.

بين المنهج والتأويل
ورأى أن الحياة في مجملها مقدسة، حيث إن الدين في وقت ما يكون بالنسبة إلى الإنسان عبارة عن طريقة تفكير، أو عقيدة إيمان، وأسلوب مميز للتأمل في العالم. وفي أوقات أخرى يبدو الدين بمثابة أسلوب للتصرف، والحب، أو نمط محدد للسلوك وتكوين الشخصية، فمن خلال هذه الرؤية أيضًا يرى إنسان المجتمعات البدائية أن الحياة في كليتها قابلة لأن تكون مقدسة، والوسائل التي يمكن من خلالها التقديس كثيرة، لأن الحياة تعاش على صعيدين، باعتبارها تجري بما هي وجود بشري، وفي الوقت نفسه تشترك مع حياة تتجاوز الشرط البشري، وهي حياة الكون والآلهة.

يحتوي الكتاب على مدخل يعرض لفهوم المقدس ومن ثم القداسة، وموقعهما في التجربة الدينية عند الحضارات المصرية وبلاد اليونان وغيرها من الحضارات التي شهدت تطورًا في مفهوم القداسة. ثم بابين الأول عنوانه "قيمة القداسة بين المنهج والتأويل"، ويحتوي على فصلين، الأول منهما بعنوان "قيمة القداسة وتأويلها في الفكر المعاصر"، وتناول علاقة القداسة بالقيم وتفسيرها من الناحية الاجتماعية والنفسية والناحية الفلسفية عند أبرز المفكرين في القرنين التاسع عشر والعشرين. أما الفصل الثاني فبعنوان "الملامح العامة لفكر إلياد الديني وتطوره"، فقد تناول مؤلفات "إلياد" والمنهج الهرمنيوطيقي الفينومينولوجي، الذي استخدمه في معالجة قيمة القداسة، وهكذا تتم في هذا الباب معالجة قيمة القداسة على مستوى التنظير.

أما الباب الثاني وعنوانه"قيمة القداسة بين الهرمنيوطيقا والفينومينولوجيا" فيحتوي على ثلاثة فصول. الأول منها بعنوان "تجليات القداسة وتكرار خلق العالم عند الشعوب البدائية وأثرها على العالم الحديث من منظور فكر إلياد"، وتناول نماذج من ممارسات الشعوب البدائية المقدسة وأثرها على الأفعال الدنيوية والاعتقاد في ضرورة خلق العالم وقيمته المقدسة، من خلال ولادة الزمان. 

طرق الوجد القديمة
كما عالج مفهوم الأسطورة بمعناها القديم والحديث، حيث تعد الأسطورة تجسيدًا لفكرة القداسة بين الهرمنيوطيقا والفينومينولوجيا، ولا تتاح لنا معرفتها إلا بمقدار ما تكشف عن شيء معيّن تتجلى بتمامه. ذلك التجلي هو في الآن عينه إبداعي ومقدس: لأنه يؤسس على السواء بنية للواقع وسلوكًا للبشر. 

أما الفصل الثاني فهو بعنوان "قداسة الطبيعة والدين الكوني"، وتناول رؤية إلياد للوجود الإنساني المفتوح على العالم وتقديس الحياة، وكذا الوجود الإنساني المفتوح على العالم، لأن العالم الحديث يرى الدين من حيث إنه صورة حياة وتصور للعالم. أما الفصل الثالث: فجاء بعنوان "الشامانية وطرق الوجد القديمة" بيّن فيه الباحث كيف أن الشامان يدافع عن الحياة والصحة ويعالج الأمراض والعقم وسوء الحظ ، كما يعد دور الشامان الرئيس هو الدفاع.