في هذا الكتاب مذكرات يكتبها سفير أميركي في روسيا تحت حكم فلاديمير بوتين، يقدم فيه فسيفساء العلاقات الأميركية – الروسية، التي تتنازعها صورتان: حرب باردة أو سلام ساخن.

إيلاف من بيروت: في مايو 2012، رافق مايكل ماكفول، السفير الأميركي في روسيا، مسؤولًا كبيرًا في البيت الأبيض إلى اجتماع مع فلاديمير بوتين في الملكية الريفية التي كانت للرئيس المنتخب آنذاك.

حرب بارة أو سلام ساخن بين بوتين وأميركا

وفي منتصف المناقشة، استدار بوتين مباشرة نحو ماكفول ووبّخه بقسوة لمحاولته تدمير العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا. في كتابه "من الحرب الباردة إلى السلام الساخن" From Cold War to Hot Peace (نسخة مع صور؛ 506 صفحات؛ منشورات هوتون ميفلين هاركورت؛ 30 دولارًا)، يتذكر ماكفول متسائلًا: "لماذا كان أحد أقوى الرجال على هذا الكوكب مهووسًا بدبلوماسي أميركي؟".

رؤيتان متناقضتان
على الرغم من أن هذه هي المواجهة الشخصية الوحيدة بينهما التي يتكلّم عنها، فإنّ المعركة الأوسع نطاقًا بين رؤيتهما المتعارضتين للشؤون الدولية تهيمن على الكتاب. هذه المذكرات تحكي قصة سياسية، وشخصية في الوقت نفسه: قصة رجل يشاهد مساعيه الخاصة لتعزيز التعاون والتكامل بين أميركا وروسيا، يتمّ محوها بيد بوتين شخصيًا.

اكتسب ماكفول خبرته السياسية ناشطُا مؤيدًا للديمقراطية في موسكو خلال السنوات الأخيرة من السلطة السوفياتية قبل أن يصبح طالبًا في جامعة ستانفورد في شؤون روسيا المعاصرة. في عام 2008، انضم إلى حملة باراك أوباما الرئاسية، وتم تعيينه لاحقًا مديرًا أول للشؤون الروسية في مجلس الأمن القومي، قبل أن يعمل سفيرًا في موسكو بين عامي 2012 و2014. يجمع ماكفول بين وجهات النظر التحليلية والشخصية لتقديم كتاب رائع وملائم عن الأزمة الحالية في العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة.

في أعقاب حرب روسيا مع جورجيا في عام 2008، حاولت إدارة أوباما إعادة إحياء العلاقات مع الكرملين. كان ماكفول صاحب ما صارت تعرف باسم "إعادة التشغيل"، لذا فإنّ روايته تجعل القارئ يغوص عميقًا في موجة الوثائق الموجزة والمفاوضات والمصافحات والمعاهدات التي تم حسابها لتقريب روسيا من مدار الأجندات والقيم الغربية. يشدد على أن الكيمياء الشخصية بين الرئيسين الجديدين، أوباما وديمتري ميدفيديف، دفعت بحزمة من السياسات إلى الأمام، من نزع السلاح النووي إلى الجهود الرامية إلى حرمان إيران من السلاح النووي، بنجاح ملموس.

هدية من السماء
يأتي المحور الدراماتيكي في قصة ماكفول في أواخر عام 2011، عندما توترت العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة بسرعة. السبب الرئيس هو، بحسب ماكفول، السياسة الداخلية الروسية. كانت شروط بوتين السابقة بوصفه رئيسًا، مدعومةً باتفاقية اجتماعية قدّم فيها الكرملين رفع المستويات المعيشية في مقابل الحصول على دعم سياسي أو على الأقل قبول ذلك. بحلول عام 2011 تحت حكم ميدفيديف، حين ضربت الأزمة المالية روسيا بقوة، كانت تلك الصفقة قد بدأت في الانهيار.

في سبتمبر، غضب العديد من الروس المتعلمين من أخبار "حركة التبييت" التي أعلن فيها ميدفيديف وبوتين تبديل منصبي الرئيس ورئيس الوزراء. تظاهرات حاشدة ضد تزوير الناخبين في الانتخابات البرلمانية في ديسمبر ملأت المدن الروسية وأقلقت الكرملين. ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في مارس 2012، بحث بوتين عن الأعداء في الداخل والخارج لإعادة إثبات نفسه مدافعًا عن الشعب الروسي.

كان السفير الأميركي الحديث هو الضحية المثالية للكرملين –كأنّه هدية من السماء لمجهود بوتين الانتخابي، كما قال أحد المسؤولين الروس. كان دبلوماسيًا ذا تاريخ طويل من الدعم الشخصي للحركات الديمقراطية في روسيا، ومؤلفًا لكتاب بعنوان "ثورة روسيا غير المكتملة". بعد أيام فقط من تولي ماكفول منصبه في يناير 2012، كرّس المضيف التلفزيوني المهم ميخائيل ليونتيف برنامجه كله لمهاجمة ماكفول، موحيًا بأنّ المهمة الحقيقية للسفير كانت إسقاط الحكومة الروسية... "لإنهاء الثورة".

عداء رسمي
أخضع الكرملين ماكفول وموظفيه في السفارة للمضايقة ولنقد لاذع مزّق اتفاقات الدبلوماسية الدولية. وشنّ الناطقون بلسان الحكومة في الصحافة وفي التلفزيون هجومًا على ماكفول بأنه "أخصائي الثورات الملونة الذي بعث به أوباما من أجل تنظيم تغيير النظام".

نشر حساب تويتر مزيّف، قيل إنه للسفير، تغريدات تنتقد الانتخابات الروسية. وكذلك عُرضت مقاطع فيديو على يوتيوب تشير إلى أنه كان يستغلّ الأطفال جنسيًا؛ وكثيرًا ما قام عناصر من ناشي، منظمة للشبيبة الموالين للكرملين، بمهاجمة ماكفول في الشارع ورميه بالاتهامات والإهانات. حتى أبناؤه كانوا يتعرّضون لملاحقة أجهزة الأمن الروسية وتطفلها.

بذل ماكفول قصارى جهده للسباحة عكس هذا التيار من العداء الرسمي. فاستعان بتويتر وفايسبوك للتواصل مباشرة مع الشعب الروسي، وهذا نهج غير تقليدي نال، كما يزعم، بعض النجاح، لكنه أثار الإزعاج في موسكو. استضاف حفلات الاستقبال والحفلات الموسيقية والمحاضرات المصممة، لا لتمجيد الثقافة الأميركية فحسب، بل أيضًا لاحترام أوسع للقيم الديمقراطية. أمام حملة القمع المستمرة لحركة الاحتجاج، رفض العديد من زعماء المعارضة مجرد لقاء ماكفول حتى، خوفًا من أن يتم تصويرهم دمى تابعة لوزارة الخارجية الأميركية. وأقرّ ماكفول لإمبراطورية الإعلام البوتينية قائلًا: "لم تكن تغريداتنا وحفلات الجاز متطابقة".

إذا كانت إعادة انتخاب بوتين في عام 2012 قد أوقفت عملية إعادة التشغيل، فغزو روسيا لأوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم في عام 2014 دفن هذه العملية إلى الأبد. يعتقد ماكفول أن هذا الخرق الصارخ للأعراف الدولية دليل على أن مساعيه الخاصة في تعزيز الديمقراطية في روسيا وتأمين التكامل مع الغرب فشلت بشكل قاطع. وتُوّجت مأساته الشخصية بحقيقة أنه أصبح الآن شخصًا غير مرغوب فيه في روسيا، وهو أول سفير أميركي تم حظر دخوله البلاد منذ جورج كينان في عام 1952.

شراكة مستحيلة
من الواضح أن بوتين هو الشرير في هذه القصة. استنتج ماكفول أن الرئيس الروسي كان مصابًا "بجنون العظمة"، وهو رجل ذو "آراء ثابتة ومعيبة"، "يعتبرنا أعداءه"، وأنّه طالما يحكم روسيا، "فالشراكة الاستراتيجية مستحيلة". وهو يثبت وجهة نظره بكلّ طاقة وقناعة. ومع ذلك، فإنّ تركيزه الدؤوب على دور بوتين الفردي يميل إلى حجب التطور الأوسع للمواقف تجاه الغرب داخل المؤسسة السياسية الروسية. فهناك مقاطع عابرة عن السيلوفيكيين المتشددين الذين لديهم خلفية في الأجهزة الأمنية وكانوا يشعرون بعدم الارتياح حيال دعم ميدفيديف إعادة التشغيل.

في الواقع، بوتين ليس وحيدًا في معاداة ما يعتبره توسعًا عدوانيًا لحلف الناتو، وتهديدًا لبرامج الدفاع الصاروخي الأميركية. ولا هو وحده في اعتقاده أنّ الولايات المتحدة دبرت إطاحة حكومة فيكتور يانوكوفيتش الأوكرانية في عام 2014.

ماذا عن رأي عام أوسع؟ يقرّ ماكفول أن شعبيّة بوتين "تشير إلى وجود حاجة مجتمعيّة عميقة لهذا النوع من القادة الأوتوقراطيين، وهذا النوع من العلاقات العدائية مع الولايات المتحدة والغرب". لكن، بدلًا من التوسّع في الكتابة عن هذه الرؤية، يتركها ماكفول معلقة.

إنّ إلقاء مسؤولية التدهور السريع في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا بشكل مباشر على الرئيس الروسي له جاذبيته. إنه يحمل وعدًا بأنّ سياسة الكرملين تجاه الغرب تنطلق مرة أخرى عندما يتقاعد بوتين أو يتم إبعاده. ربما يكون الأمر كذلك، لكنّ النظرة الأكثر تشاؤمًا هي أن بوتين يمثل القومية الانتقامية الراسخة الآن والتي ترى أن النظام الدولي الليبرالي هو مجرد ستار دخاني لتقدّم الأجندات السياسية الغربية. قد تستمر العداوة المتأصّلة تجاه الولايات المتحدة بعد فترة طويلة من رحيل بوتين. وكما يشكي ماكفول: "يبدو أن السلام الساخن، سيبقى هنا، بشكل مأساوي، لكن ربما ضروري".


أعدّت "إيلاف" هذا التقرير عن "نيويورك تايمز".