&

بقلم أسماء الجلاصي

أخيرا انتهت البطولة الحادية والعشرين لكأس العالم بعد شهر من الحماسة والمتعة والتحاليل والمفاجآت... بطولة أسالت الكثير من الحبر والكثير من الرقن الالكتروني، استيديوهات تحليلية ومقالات طرحت الكثير من المواضيع حول كرة القدم وعلاقتها بالسياسة والاقتصاد والمجتمعات إضافة إلى الأمور التقنية والعلمية الأخرى فهذه الرياضة التي باتت تقاس بالمسطرة وتحسب بالثانية تتطلب خططا على المدى القصير والمدى الطويل.
والحقيقة أنني عندما جلست لأكتب هذا المقال لم يخطر ببالي أن أتطرق لهذه المواضيع ولا على التنظيم الرائع للمونديال الذي أقيم بروسيا والذي أشاد به الجميع ولا عن الاتحاد الدولي لكرة القدم هذه الهيئة التي غدت دولة ثرية ولا عن تساقط المنتخبات الكبرى وخروجهم من البطولة مثل اسبانيا والأرجنتين والبرازيل كما أنني لست من محبي هواية جلد الذات الجماعية التي لطالما أبدع العرب في ممارستها إثر كل فشل أو خيبة أمل دون أي محاولة لتقييم منطقي أو محاولة جدية للتغيير.
جلست اليوم لأرقن هذه الكلمات وفي ذهني العديد من التساؤلات حول هذه "اللعبة"، هذه الساحرة المستديرة المثيرة للجدل، ما الذي يجعل هذا المسرح الصامت والصاخب في آن واحد بهذه الجاذبية وما الذي يغرينا بمشاهدة فريقين كلٌّ بلباسه الموحّد يركضون حول كرة لمدة تسعين دقيقة وأكثر؟ حتى أصبحنا نعدل ساعاتنا على أوقات مبارياتها ونعجز عن غض الطرف لحظة عند مشاهدة اللاعبين على شاشة التلفاز وسرعان ما ننسجم معها ونتفاعل بالصراخ والفرح والحزن.
هل لأنها "مجاز الحياة" على تعبير الفيلسوف الفرنسي "بول سارتر" أو لأنها محاولة لنحت الحياة حيث باتت فسحة أمل، جرعة صغيرة من الفرح أو قطنة تمسح على جراح الشعوب المنهكة من المعارك اليومية؟&
كرة قدم أم طير سلام& أبيض يحلق بين القارات كل أربع سنوات في منافسة سماها محمود درويش "أشرف الحروب" كيف لا ونحن نرى جموع المشجعين يقفون كتفا بكتف يهتفون ويصرخون أحيانا ويتعانقون أحيانا أخرى وفي عيونهم شغف وحب عميق وصاف كالأنهار الخالدة.&
فعندما تلتقي هذه الجموع على مدرجات الملعب تبدو كأنها لوحة موحدة متموجة تفيض كل ثانية وتتداخل فيها المشاعر حد التماهي الإنساني وتهتف الحناجر حد الذوبان مشجعة لوناً لقميص محدد وتحولهُ إلى رمز عبر أغنية ترقص على أنغامها القلوب قبل الأجساد. ليست الوطنية فقط ما تحركهم فكم من مشجع كاد يجن من شدة فرحته لفوز فريق بلد غير بلده وكم انفطرت قلوب لخسارة فريق من بلد لم تتنفس هواءه.
& لكن البداية الأولى لممارسة هذه اللعبة كانت بشعة ووحشية فقد كتب المؤرخون أنه منذ قرون مضت قام الجنود الانكليز بركل رؤوس القتلى من الفايكينغ تحت أنظار الجماهير التي كانت تصفق فرحا وغبطة احتفالا بالنصر حيث قام الانكليز بطرد الفايكينغ من أراضيهم بعد عناء طويل& ثم تحولت هذه الذكرى إلى ظاهرة فرجوية، أشخاص يلبسون زي الجنود يَركلون كُرة من جلد وقماش في كرنفال للتذكير بيوم النصر. رغم هذا التاريخ الفظيع أصبحت هذه الكرة الساحرة اليوم حمامة سلام وطائر فرح يرفرف على قمصان اللاعبين وفي عيون المشجعين وإن دلّ ذلك على شيء فهو يدل على أن جانبا كبيرا من الإنسانية كان ولا يزال يسعى لتحويل كل ماهو فظيع ووحشي إلى فن وفلسفي وانساني بل وثقافة تورطنا حد الإدمان.
لطالما نظرت إلى كرة القدم كقطعة فنية، مسرح صامت وصاخب في آن واحد لوحة متعددة الألوان والأبعاد، نص مفتوح على فنون جمالية متعددة& يضم العديد من الأجناس قابل للقراءة والتأويل.
&أقف أمام بلاغتها محاولة توصيفها من وجهة نظر فنية جمالية فنحن في كل مرة أمام نص مستفيض ومتعدد بحالاته المختلفة المتوترة والضاربة في الأعصاب ومشهديته غير الثابتة حينا والمطنبة في الضجر أحيانا أخرى، هذا النص المكتوب جماعيا يطول للبعض في لحظاته العصيبة ويقصر للبعض الآخر في لحظات الفرح تكتبه أقدام متضامنة حد التطابق حيث تُمحى الأنا وتخطّ لعبة جماعية متكاملة. ولا يغيب عن هذا النص الغموض والتشويق فهو قصة قصيرة جيدة الحبك تلفها ألغاز لا تحلّ إلاّ مع صافرة الحكم النهائية.
&قصة تفلت في الكثير من الأحيان أحداثها من يد المؤلف وتفلت معها أعصاب المشجعين.ولا تستمد هذه اللعبة جماليتها مما تقدمه من متعة خارجية تسبب ارتفاع نسبة الأدرينالين في دمائنا نراها على الميدان فحسب بل هي أعمق وأسمى من ذلك فهي نتاج تخطيط دقيق وتوزيع محكم للمهام حتى يقوم كل عنصر بدوره الفني والتقني عندما تحين ساعة الحسم .. فلطالما كان العلم والفن شريكان متكاملان .
وللشعر كذلك نصيب في هذا النص أوليست قدما “هازارد “البلجيكي وهي تهز عشب الملعب صورة شعرية لا بد من الوقوف أمامها أوليست تلك المراواغات التي يقوم بها ذات اليمين وذات اليسار حالة سريالية كتلك التي نشاهدها في لوحات الفنان البلجيكي “رينيه ماجريت”. يقف وسط الملعب كلبؤة تختال بشموخ في مملكتها وكأن الكرة صغيرته التي لا يجرأ أحد على الإقتراب منها... وما السحر في عيون المدرب الكرواتي "زلاتكو داليتش" إلا شعر خالص، عيون تشع ذكاء وحنكة انعكست على أداء المنتخب الكرواتي خلال مبارايات المونديال ذلك الفريق الرائع الذي أبهر شعوب العالم وخاصة "المستضعفة" منها ولمس قلوبها، تلك التي حملت الكثير من الآمال وتحمست له ورأت نفسها فيه، "زلاتكو" هذا البطل الذي تجرأ على المنتخبات القوية كما تجرأ حنبعل القائد القرطاجي على روما فكسر حصار دفاعاتها العتيدة وأمطر شباكها بالأهداف، هذا الفنان المبدع الذي تراه في الملعب يتحرك بخفة كقائد أوركسترا يوجه فريقه ويدفعه ويحمّسه... فهو ليس قائدا فحسب بل لاعبا أساسيا أيضا تلمحه في كل أرواح اللاعبين وهم يجوبون الملعب بحثا عن قفلة فنية جميلة تنتهي بها السيمفونية.
&المهارات العالية لللاعب الفرنسي “مبابي” أيضا تمثل قصيدة هايكو مشعة وعميقة فببعض اللمسات السحرية وبطريقة السهل الممتنع يحرز الهدف المنشود، فرغم صغر سنه هو مدرسة في الفنيات الكروية قد يمضي غيره سنوات في تعلمها لكنه لا يتمكن منها. لاعبون آخرون كثر لا تكفي بعض الكلمات في وصفهم ووصف ما يحدثوه في قلوب المشجعين من إثارة وحماس هم أنصاف آلهة مثل أولئك الذين قرأنا عنهم في الأساطير الاغريقية ، هرقل وأخيليوس خلدهم التاريخ كما سيخلد التاريخ بيليه ومارادونا وبعده رونالدو وميسي وغيرهم… والجيل الجديد كذلك مليء بالأبطال التي ستكتب تاريخ الفن والمتعة.
انها كرة القدم يا سادة تحوَل المشاهدين إلى عشاق يسهرون الليالي للحديث عن معشوقتهم التي يترقبونها كل ليلة بعيون لامعة ودماء ملتهبة إنها شعر، إنها نثر، إنها لوحة متعددة المدارس والألوان.&
انتهى حلم المونديال الجميل وسنعود مجددا إلى مشاكل الحياة والنقاشات السياسية الحادة وأخبار الحروب والصراعات التي لا تنتهي.
&انتهى البارحة الحلم في انتظار حلم جديد يحلم به كل العالم بقلب واحد وروح واحدة، انتهى المونديال / الحلم وكانت مشاهدة مبارته الأخيرة كمشاهدة الأشجار من نافذة قطار سريع وهارب كالعمر.
كاتبة من تونس