سبق ابن خلدون في كتابه المقدمة ما انتهى إليه آدم سميث وكارل ماركس حول قضية القيمة، إذ تكلم عن الثبات النقدي والمبادلة والادخار، كما كان الفقهاء المسلمون أول من تنبه إلى دور العرض والطلب في تحديد القيمة.

بيروت: الاقتصاد نظريات، رأسمالية واشتراكية، رأسمالية جديدة واشتراكية إنسانية... وإسلامية. لا عجب في ذلك، خصوصًا أن الفقهاء المسلمين يذكرون دومًا بمقولة "الاسلام دين ودولة".

كل نظرية اقتصادية تقوم، في ما تقوم عليه، على نظرية القيمة السلعية وتحديدها، مهما اختلفت المفاهيم. ويبدو أن الباحثين في مفاهيم الاقتصاد الإسلامي يعثرون على ما يؤكد أسبقية الفقهاء في التعرف إلى مظاهر عديدة للنشاط الاقتصادي وتحديد القيمة، قبل آدم سميث وكارل ماركس.

أجيال متعاقبة من المفكرين

فالدكتور عبدالعظيم إصلاحي، أستاذ قسم الباحثين في معهد الاقتصاد الإسلامي في جامعة الملك عبدالعزيز في السعودية، اصدر كتابًا بالإنكليزية، تناول فيه إسهام العلماء المسلمين في مجال الفكر والتحليل الاقتصاديين، فقال: "ظهرت نظرية القيمة عند فقهاء الإسلام الذين استفادوا من ترجمات اليونانيين لتطوير نظريات كانوا قد أسسوا لها قبل ذلك بفترة زمنية طويلة".

واضاف إصلاحي قائلًا إن عالم الاقتصاد المعروف، آدم سميث هو من طرح نظرية القيمة بشكلها المعاصر، وهو عاش بين العامين 1723 و1790، "لكن مفهوم القيمة لديه اختلط بمبدأ قيمة كلفة الإنتاج، وحاول بعد ذلك عالم الاقتصاد ريكاردو، الذي عاش بين العامين 1772 و1823 تصحيح تلك الأخطاء، لكن نظرياته كانت أيضًا مثار جدل".

وأتى المفكر الألماني كارل ماركس بعدها ليدرس نظريتي سميث وريكاردو حول القيمة، ولينتهي به المطاف الطبيعي إلى نظرية استغلال العمال. ثم درس علماء الاقتصاد الحديث القيمة بدمج مفاهيم عدة، يلعب فيها العرض والطلب دورًا اساسا لتحديد قيمة الشيء الحقيقية.

ما قاله الفقهاء

بحسب إصلاحي، افترض العلماء غياب نظريات واضحة حول القيمة قبل سميث، "لكن الواقع هو أن الكثير من عناصر تلك النظرية تظهر في كتابات علماء الاقتصاد والفقهاء في الحضارة الإسلامية، بل إن نظرياتهم سارت بعكس الاتجاه الغربي، إذ بدأت في ما انتهى إليه الغربيون لجهة القول إن القيمة تتحدد على أساس عاملي العرض والطلب، رغم أن الذين كتبوا في هذا المجال لم يحددوا ما إذا كان مفهومهم للقيمة متعلقا بقيمة السلعة في السوق أو بقيمتها الذاتية".

كان الإمام العز ابن عبدالسلام هو من أسس نظرية المنفعة الحدية، التي تقول إن منفعة السلعة تكمن في قدرتها على إشباع من يحصل عليها، لتتراجع قيمتها بعد اكتفائه منها، ناقلًا قول الإمام الشافعي: "إن الفقير ينظر إلى الدينار نظرة مختلفة عن نظرة الثري له لتباين نظرتهما إلى قيمته"، وهو رأي ايده الإمام الجويني أيضًا.

ويتابع إصلاحي: "وتناول الفقهاء المسلمون ايضًا ما يعرف بانعدام المنفعة، فكتب العالم محمد ابن الحسن الشيباني وابن الجوزي أن كمية ما يتناوله المرء من طعام أو شراب يعتمد على مدى جوعه وعطشه، وللمبالغة في الأكل والشرب نتيجة عكسية تسبب الألم.

سبق ابن خلدون

كان ابن خلدون الأكثر وضوحًا في الكلام عن القيمة في كتاب المقدمة، الذي حمل خلاصة نظرياته الاجتماعية والاقتصادية. ففي فصل بعنوان "نقصان الدفع يؤدي إلى نقصان الإيراد"، يقول ابن خلدون: "إذا حجب السلطان البضائع والأموال والإيراد، أو فقدت فلم يصرفها في مصارفها قلَّ ما بأيدي الحاشية والحامية، وقلَّت نفقاتهم، وهم معظم المشترين، وهجرت الأسواق وقع الكساد وضعفت أرباح المنتجات فقلت الجبايات، لأن الضرائب تأتي من الزراعة والتجارة والتبادل التجاري".

وبذلك، يكون ابن خلدون سبق سميث في نظرية القيمة والأثمان. فللنقود عند ابن خلدون خاصية ووظيفتان، الخاصية هي الثبات النقدي، والوظيفتان هما أداة مبادلة وأداة ادخار. ويقول ابن خلدون إن الأموال أداة مبادلة لأنَّها مستودع القيمة، وإلاَّ لم يحصل أحد من اقتنائها على شيء. وهي عنده أيضًا أداة ادخار، "فالذهب والفضة هما الذخيرة والقنية لأهل العالم غالبًا".