كأن طبخة الشرق الأوسط تنقصها توابل لاذعة، فجاءت حادثة الطائرة الروسية لتضفي عليها مذاقا يلسع اللسان ويحرق الحلق. لكن طبخة المنطقة لها طهاة كُثر غير متفقين على مكوّنات غير متوافقة. لك أن تشبّهها أيضا بالمازات اللبنانية عددا، التي إذا أصيب متذوق أطباقها بمغص، عسر عليه أن يحدّد مصدر الأذى.


عبداللطيف الزبيدي من دبي: مشهد الطبخة قد يبدو تبسيطا، لأن الإعداد يكون في المراحل التمهيدية في كواليس الدبلوماسية والسياسية. بعد ذلك تنتقل كاميرا الأحداث، لتظهر مسارح وملاعب وحلبات، تدور المباريات فيها لعباً بالبلدان، بالتراب السياديّ، بكتل الجغرافيا البشريّة الضخمة.

يغدو إجبار الملايين على النزوح أو الهجرة أسهل من نقل بيدق أو حصان من مربع إلى آخر.

حتى منتصف القرن العشرين، كانت الدول العظمى تهوى لعب الشطرنج. واللاعبون الكبار يحسبون حسابات سبع نقلات إلى الأمام، ما يجعل الاحتمالات بالآلاف، لذلك تأخذ كل حركة وقتا طويلا. لكل خطوة بحوث للأبعاد ودراسات استشرافية لردود الفعل.

النموذج الأبرز هو مقدّمات احتلال الهند على أيدي بريطانيا العظمى، سبقته دراسات لكل ذرّة وبعثات لا حصر لها. لذلك كانت الخطط لا تنكشف إلاّ بعد نصف قرن وربما أكثر.

لكن تسارع الزمن في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات، جعل المخططين الاستراتيجيين الأمريكان بخاصة، يضيقون ذرعا بلعبة الشطرنج وإهدارها الوقت مع ضآلة النتائج أحيانا. أصبحوا يفضلون لعبة البولينغ. بكرة واحدة تضرب عشر قوارير، من دون أن تسمع من الرأي العام العالميّ: "رفقا بالقوارير".

الأمثلة على تطبيق لعبة البولينغ في التخطيط الاستراتيجيّ كثيرة. كرة احتلال الكويت ضربت قوارير البلدان العربيّة، وجعلت كل أحلام العمل العربيّ المشترك أوهاما غير قابلة للتحقيق، وأصابت الجامعة العربية بهشاشة العظام، ثم بالكساح. وهل نسي العالم الحادي عشر من سبتمبر، أيلول الأشدّ سوادا من أي أيلول أسود؟لقد جرّت كرة البولينغ هذه على الدنيا "بركات" جعلت بلدانا عدّة تبرك كالبعير وتخرّ متهاوية، تاركة لشعوبها البكاء على الأطلال.
&
من نصب الفخ؟

لكن ألعاب التخطيط الاستراتيجيّ لا تعرف القديم والحديث. هي كالموضات، تختفي زمنا وتعود تطلّ كآخر صيحة، وهذه متتاليات الشرق الأوسط ترينا كيف تتعايش لعبة البولينغ مع الشطرنج، بعد حادثة الطائرة الروسيّة، فتتشابك الحسابات ويكثر الطهاة واللاعبون، وتستولي الحيرة على المحللين والمراقبين.

إذا كان في إسقاط السوخوي 24 فخّ، فمن نصبه للرئيس أوردوغان؟ وإن كانت نظرية المصيدة مستبعدة، فكيف غابت كل الحسابات الدقيقة المتروّية عن أذهان قيادة تألقت في البداية بشعار صفر مشكلات، وباتت اليوم تواجه مصير صفر اليدين. في التحليل السليم كل شيء محتمل، فالانطلاق ممّا يريده المحللّ في النهاية كارثة خالية من أيّ إبداع، إلاّ إذا كان الأمر "فلاش باك" في فيلم سينمائي.

في هذه الحادثة يمكن القول: "يجوز الوجهان"، لأن كلا الاحتمالين في قوّة الآخر، إن لم يكن أقوى منه. الأوّل أن حلف شمال الأطلسي قد يكون أغرى الرئيس التركيّ بإسقاط الطائرة لإغراق نظيره الروسيّ في مأزق قد يكون منزلقا بقشرة موز على جليد في قمة جبل. فيغدو الأمر مواجهة متعددة الجوانب أشدّ صراحة. والآخر أن يكون الروسيّ بوتين قد استعاد استراتيجيّات بدأت في الشطرنج وانتهت بدمار جيوش بونابرت وهتلر. فقد كان نابليون لاعب شطرنج، وقد سجّل التاريخ لعبة له مع كونتيسة دامت ثلاث عشرة حركة، استدرج فيها ملك السيدة إلى صفوفه بتضحيات قاسية بقطع ثمينة، إلى أن استفرد به بعيدا عن دفاعاته وقضى عليه. وأعاد التاريخ نفسه في الاستراتيجيّة نفسها التي طبّقها بونابرت على الرقعة، ونسيها في صحارى ثلوج روسيا، فهلك مئات الألوف من جنوده تحت ضربات ما صار يعرف بالجنرال ثلج. لم يتعلم الإمبراطور من نفسه، ولا هتلر أخذ العبرة من مصير بونابرت، فقد هاجم الاتحاد السوفييتي، وانهارت جيوشه في الثلوج نفسها.

فهل ألقى الدبّ الروسي الطعم للسلطان إبراهيم فابتلع الشصّ؟ لا جزم في الأمر. لقد كان أوردوغان على الأرجح ينتظر تصفيقا طويلا من قبل الناتو، ولكن ردود الفعل لم تكن في المستوى الذي يرجوه. ولهذا غيّر النبرة من الجواب إلى القرار، معبّرا عن عميق الحزن للحادثة، وأنه لو كان يدري بجنسيّة الطائرة ما كان فعل. على أي حال "سبق السيف العذل"، وفتح الحادث ملفّا من شبه صفر مشكلات مع روسيا إلى واحد وعدة أصفار معضلات.&
&
الضرب في المليار

لا حاجة إلى العجلة في شأن التطورات المحتملة، فالسياسة فن المحال لا فن الممكن فحسب. ولكن الفخ المشكوك لا ينفي بعض العقوبات اليقينيّة الرامية إلى جعل تركيا تثوب إلى رشدها وتعيد النظر في أمور كثيرة، والندم برهان، "وعلى المكتوب ما يفيدش ندم".

يقول الأستاذ الجامعي في الشؤون التجارية "أوميت إرول" في تصريح نشرته "عين الشرق الأوسط التركية": "لا أحد من بلدان المنطقة، وتركيا خاصة، يجرؤ على المجازفة باستفزاز بلد مثل روسيا". ويضيف: "روسيا تستطيع أن تؤثر في قرارات دول آسيا الوسطى والقوقاز، فتجد تركيا صعوبات في تلك المناطق، لأن أنقرة في حاجة سنويا إلى 50 مليار دولار لسدّ عجزها، فتجاهل هذه القضايا جنون".

بالأرقام: كان التبادل التجاري بين أنقرة وموسكو 33 مليار دولار في العام الماضي. وكانت تركيا تتوقع أن يصل الرقم إلى 100 مليار بحلول سنة ثلاث وعشرين. وتعتمد على ستين في المئة من حاجتها إلى الغاز واثني عشر في المئة من النفط. وقد يذهب المفاعل النوويّ الذي ستنشئه روسيا في تركيا في مهب الريح، وكلفته 22 مليار دولار. إضافة إلى قرابة ستة مليارات دولار من السياح الروس. وهلّم عقوبات محتملة. أمس صفر مشكلات، اليوم الخوف من صفر حلول.

اصطفافات على المكشوف

على رغم كثرة المشتبكين وتشعب الاشتباكات في معمة الشرق الأوسط، فإن اصطفافات الأضداد تزداد خروجا من الكواليس إلى المسرح يوما فيوما. فالأحداث والحوادث المتلاحقة، تسلّط المزيد من الأضواء على الجوانب التي في الظل. ويتضح أن المنطقة خارجة عن سيطرة أهلها، رهينة صراع عالميّ استراتيجيّ، لا نزاعات محليّة محدودة.&
&
حقائق ماذا بعد

ما يريد العالم العربيّ تجاهله وعدم رؤيته، هو أن مسمّى العالم العربيّ فقد وزنه وثقله في الموازين الدولية أكثر من أيّ وقت مضى. وهذا يمثل مجموعة أخطار مصيرية مدمّرة، إذا غفل العرب عن عواقبها على الأجيال المقبلة، لا على مستقبل النظام العربيّ فقط.

لنرسم الصورة التالية: عالم عربيّ بلا جامعة عربيّة، فوجودها كعدمها، وهي مهذّبة لا أحد يسمع صوتها لحسن الحظ، ولكننا لا نسمح لأحد بأن يصفها بالنعامة. والسيد بان كي مون شخصية باردة الأعصاب، يصلح حقا لأن يكون مسؤولا عن جليد القطب الجنوبيّ. ومجلس الأمن صار متفرّجا جيّدا في أغلب الأحيان، إلاّ إذا تعلّق الأمر بالعرب فإن الفصل السابع أقرب إلينا من حبل الوريد.

وسط هذا الإطار الذي هو انعدام الإطار، تتفكك السيادة الترابية في بلدان عربيّة عدّة، وتهترىء مقوّمات الأوطان، ما يشكل خطرا على أيّ بلد عربيّ. لأن الخطر هو أن الدول العربية لا تعرف أصلا إلى أين تسير المنطقة والعالم. المواقف القائمة باستمرار هي ردّ الفعل. لكن على ماذا؟ ما الذي يراد بالبلدان العربية التي تتهاوى، من دون أن يملك أحد القدرة على تجنيب نفسه في الأقل إقحامه طوعا أو كرها في سلسلة انهيارات لا تنتهي. والسبب الذي يرفض الجميع الاقتناع به هو أن ما خططه الكبار الأقوياء للشرق الأوسط لم ينجز بعد، فنحن في المقدمة، وإن كانت أطول من مقدمة ابن خلدون. والواضح أننا لا نملك الرغبة في القراءة، فمنذ المقدمة أصابنا الملل، في حين أن كتاب العالم العربيّ هو كتاب حياتنا وحياة الأجيال المقبلة. وطوبى للأعداء، فإنهم لن يجدوا من هم أطيب منّا.