لا تريد ألمانيا أن تتزعم أوروبا، لكن قوتها الاقتصادية تجعل منها سيدة أوروبا بلا منازع، فلأنها تقرض الجميع، على الجميع أن يطيعها.


لندن: بدا بعد الحرب العالمية أن عودة ألمانيا إلى هيمنتها السابقة في اوروبا مستحيلة. لكن أزمة اليورو جعلت المانيا قوة مهيمنة رغمًا عنها. اليوناني مانوليس غليزوس أصبح بطلا في بلده لأنه أنزل علم القوات النازية من ساريته في اثينا 1941 حين كان مقاتلا في حركة المقاومة ضد الاحتلال النازي لبلده. وبعد 74 عامًا، أصبح غليزوس عضوا في البرلمان الاوروبي يناهز الثالثة والتسعين من العمر.&

مستبد وعبيده
يعرف غليزوس ما يمكن أن يحدث عندما يسعى الألمان إلى الهيمنة في اوروبا وهو يقول إن هذا ما يحدث مجددًا الآن. ولكن الذين يضيقون الخناق على اليونان ليسوا جنودا بل رؤساء شركات ومؤسسات مالية وسياسيون. وتنقل مجلة شبيغل عن غليزوس قوله: "ان رأس المال الألماني يتسيد على اوروبا ويربح من بؤس اليونان. لكننا لسنا بحاجة إلى مالكم".&
ويرى غليزوس أن حاضر المانيا يرتبط مباشرةً بماضيها الفظيع رغم تأكيده بأنه لا يقصد الشعب الالماني بل الطبقات الحاكمة واصفًا علاقتها باليونان كعلاقة "المستبد بعبيده". &وبعد سنوات من هوس الالمان بماضي بلدهم النازي، انضمت اليهم الآن بلدان اخرى في اوروبا. ونُشرت في اليونان واسبانيا وبريطانيا وبولندا وايطاليا والبرتغال في الأسابيع الأخيرة رسوم تظهر فيها المستشارة انغيلا ميركل بشارب هتلر ودبابات المانيا تندفع نحو جنوب اوروبا.&
وبدأ اوروبيون يتحدثون حتى عن ظهور "الرايخ الرابع" في اشارة إلى رايخ هتلر الثالث. وقد يبدو هذا غير معقول إزاء ديمقراطية المانيا الوطيدة دون أي اثر فيها للنازية. ولكن التوقف عند مفردة "رايخ" أو امبراطورية قد لا يكون خروجًا كاملًا عن السياق. وتشير المفردة إلى السطوة بوجود قوة مركزية تبسط سيطرتها على شعوب مختلفة. وبحسب هذا التعريف قد لا يكون من الخطأ الحديث عن رايخ الماني في المجال الاقتصادي. &
&
ظل على الحاضر
خطأ الاعتقاد بأن ماضي المانيا طُوي إلى غير رجعة. فهو يعود المرة تلو الأخرى ليلقي بظله على الحاضر. وأطلق البعض في اليونان واسبانيا وفرنسا وحتى في بريطانيا والولايات المتحدة اتهامًا قويًا ضد المانيا، إذ يرى نمط من السياسيين والصحافيين والاقتصاديين أن ازمة اليورو أتاحت لألمانيا أن تهيمن على جنوب اوروبا وتخنق هذه المنطقة لفرض مبادئها، حتى في وقت يعني اقتصادها اتصديري أن المانيا حققت ارباحًا أكبر من أي بلد آخر، بسبب أزمة اليورو.
وأصبح لألمانيا في بعض البلدان صورة محتل اقتصادي على جانبيه دول في شمال اوروبيا تنتمي إلى المدرسة نفسها.&
والمؤكد أن الاستطلاعات التي تجري في الخارج تبين أن المانيا موضع احترام واسع ولكن في اوروبا يسارعون إلى اطلاق صفة النازية حين تصبح السياسة الالمانية غير مريحة. وتتسم التهمة الموجهة إلى المانيا بديالكتيك غريب يقول إن ألمانيا تهيمن لكنها لا تقود. وكان المؤرخ سيبستيان هفنر كتب أن المانيا كبيرة جدًا وصغيرة جدًا، وهناك من يقول إن هذا قد يكون صحيحًا اليوم. &
&
دبابات من الماضي
المتظاهرون اليائسون وانصار المنظمات الراديكالية ليسوا وحدهم الذين يعقدون مقارنات مع الماضي، بل مثقفون محترمون ومواطنون لا يعانون ضائقة مالية مثل الصحافيان والكاتبان الايطاليان فيتوريو فيلتري وغينارو سانغليانو. فهما ينظران إلى اليورو على انه وسيلة لغاية المانية وان العملة الاوروبية المشتركة تعيد التذكير بفرق الدبابات القادمة من بعيد. ويعتقد الاثنان في كتابهما "الرايخ الرابع: كيف تمكنت المانيا من اخضاع اوروبا"، بأن اليورو أداة لتأمين أراض تحت السيطرة الالمانية، ويكتبان عن المستشارة "ميركافيللي" قائلين انها تستكمل انجاز خطة فشل هتلر في ترجمتها إلى واقع.&
وتشترك في هذا الرأي شريحة واسعة من الطبقة السياسية في ايطاليا. إذ كتب الديمقراطي الاجتماعي ورئيس المفوضية الاوروبية السابق رومانو برودي "ان بلدا واحدا كان يحدد الاتجاه في بروكسل خلال السنوات الأخيرة بل أن المانيا رأت من المناسب تلقين آخرين دروسا غير مقبولة في الأخلاق". واعلن الخبير الايطالي بالشؤون الالمانية لويجي ريتاني في مؤتمر اواخر العام الماضي أن البعض في ايطاليا بدأوا يرسمون "خطًا من غزوات البرابرة مرورا ببسمارك وهتلر إلى ميركل".&
ويبدو المشهد مماثلا في فرنسا ايضا بعض الأحيان. ففي عام 2011 قال ارنو مونيبورغ الذي اصبح وزيرا للاقتصاد في ما بعد: "بسمارك وحَّد الامارات الالمانية لتسيد اوروبا، وبطريقة مماثلة تسعى انغيلا ميركل إلى حل مشاكلها الداخلية بفرض نظام اقتصادي ومالي يتمسك به المحافظون الالمان على باقي اوروبا".
&
دماء شعبنا
قد لا يكون الخوف من الهيمنة الالمانية كبيرًا كما هو في فرنسا التي احتلت المانيا اراضيها ثلاث مرات خلال 80 عاما. وفي السنوات الأخيرة تصاعد العداء لألمانيا عبر الوان الطيف السياسي الفرنسي، من الجبهة الوطنية إلى يسار الحكومة الاشتراكية. ويحذر الكاتب الفرنسي اليساري ايمانويل تود من أن المانيا "تنتهج بصورة متزايدة سياسة القوة والتوسع الخفي". وتنقل مجلة شبيغل عن تود أن اوروبا تحكمها المانيا التي منذ اعادة توحيدها أخضعت منطقة شاسعة من اوروبا الشرقية تحت سيطرتها لاستخدامها من اجل تحقيق اهدافها الاقتصادية.&
&
وفي اثينا، تحدث بلغة مماثلة نيكوس زيداكيس نائب وزير الثقافة في حكومة حزب سيريزا اليساري قائلا: "اليونان فقدت ربع اجمالي ناتجها المحلي وربع سكانها عاطلون". واضاف: "اليونان لم تطلب قروض طوارئ بل فُرضت عليها مع برنامج خفض الانفاق". ونقلت مجلة شبيغل عن زيداكيس قوله: "نحن الآن ندفع بدماء شعبنا".&
وحذر نائب وزير الثقافة اليوناني من أن المانيا اصبحت قوية للغاية في اوروبا معترفا بقيادتها سياسيًا واقتصاديًا، لكنه أكد أن من يريد أن يكون قائدًا عليه أن يتصرف كقائد. وعلى المانيا أن تكون أكثر سخاء والكف عن النظر إلى البلدان الأضعف منها في اوروبا وكأنها أدنى منها منزلة.&
وقال زيداكيس "أشعر وكأننا في لايبزغ أو درسدن تنهمر علينا القنابل" لكن الفارق الوحيد أن قنابل اليوم تأتي متنكرة كإجراءات تقشفية. &
&
سياسة تجارية اقتحامية
بلغ فائض الميزان التجاري الالماني 7 بالمئة من الانتاج الاقتصادي عام 2014. ويعني هذا الفائض أن المانيا في تجارتها مع البلدان الأخرى تبيع لها أكثر مما تشتري منها. ويكون الفارق مالا وفيرا يتدفق إلى المانيا. بكلمات أخرى أن البنوك في المانيا تقرض الشركات الأجنبية مالا تشتري به بضائع المانية.&
ومنذ بداية الألفية الثالثة تضاعف الفائض التجاري الالماني نحو اربع مرات ليبلغ الآن 217 مليار يورو. وبلغ هذا الفائض مع فرنسا وحدها 30 مليار يورو في 2014. وقال الاقتصادي الالماني هنريك ايندرلاين لمجلة شبيغل: "لهذا الفائض التجاري سبب بسيط، فالمانيا بعد اعتماد اليورو لم يكن أمامها سوى أن تصبح أشد تنافسية، ومن الخطأ الاعتقاد بأن المانيا فعلت ذلك لايذاء بلدان أخرى".&
ويعتقد ايندرلاين أن المانيا لم تسع إلى هذا الموقع المهيمن اقتصاديًا بصورة واعية بل حدث بسبب بنية منطقة اليورو وان البنك المركزي الاوروبي يتحمل قسطا من المسؤولية لأنه ابقى اسعار الفائدة منخفضة بعد اعتماد اليورو وأدى هذا في جنوب اوروبا إلى ارتفاع الرواتب والأسعار. ولكن اسعار الفائدة هذه كانت في المانيا مرتفعة ولم يكن أمام ارباب العمل من خيار سوى إبقاء الأجور منخفضة لتكون اسعار منتجاتهم معقولة. وشكت بلدان جنوب اوروبا قائلة أن المانيا تُبقي الاجور متدنية بطريقة مفتعلة.&
وجاء رد المانيا من خلال وزير المالية فولفغانع شويبله الذي قال: "اليونان بلد عاش طيلة عقود فوق امكاناته بسبب فشل نخبته وليس بسبب اوروبا أو بروكسل أو برلين بل بسبب فشل نخبته حصرا وعليها أن تعود شيئا فشيئا إلى الواقع". واضاف: "عندما يكذب المسؤولون على شعبهم لا يكون من المستغرب أن يأتي رد فعل الشعب على النحو الذي أتى به".&
&
رايخ ميركل
ميركل بالطبع لن تتحدث بهذه اللغة الانتصارية الشامتة وستكون تصريحاتها مبهمة احيانا بحيث يتعذر فهم ما تحاول أن تقوله. ولدى المستشارة مشروع كبير يمكن أن يسفر عن قيام "رايخ ميركل". وفي حين أن تفكير ميركل يركز على الداخل فانها تدرك أن المانيا المنكفئة على نفسها لن يكون لها نفوذ كبير في العالم. وان الدول التي تريد أن تكون لها كلمة يجب أن يكون عدد سكانها كبيرًا واقتصادها قويًا.
بالمقارنة مع الصين أو الولايات المتحدة تفتقر إلى الشرط الأول. ولهذا السبب تحتاج المانيا إلى اوروبا بعدد سكانها الكبير. ولكن يجب أن تكون اوروبا ذات قدرة تنافسية وقوية اقتصاديا. وهذا ما تعمل ميركل من اجله، بحسب مجلة شبيغل.&
وفرضت المانيا مشيئتها بحكم قوتها الاقتصادية مانعة دول جنوب اوروبا من تحفيز النمو عن طريق زيادة الانفاق العام ودافعة اياها إلى التوجه بدلا من ذلك نحو خفض المصروفات واجراء اصلاحات بنيوية، مع ما يترتب على ذلك من اجراءات تقشفية قاسية على مواطني هذه البلدان.&
ولوضع هذه البلدان على السكة الصحيحة، او بالاحرى السكة الالمانية، جندت المانيا صندوق النقد الدولي لتحريرها من ممارسة دور الشرطي الصارم. ولكن هذا لم يغير شيئا من حقيقة أن برلين هي الآمر الناهي ولم يجرؤ احد من القادة الاوروبين الآخرين أن يحتج علنا. &

مدام "لا"&
حين درس المسؤولون الالمان وضع اوروبا، وما آلت اليه منطقة اليورو، خلصوا إلى أن للدولة القومية دورًا كبيرًا في التعامل مع ازمة اليورو. فالحكومات الوطنية وحدها التي كانت قادرة على توفير المال اللازم لحزم انقاذ الشركاء الاوروبيين الآخرين. يضاف إلى ذلك انه كلما تراجع الاقتصاد الفرنسي زادت قوة المانيا.
ويشار احيانًا إلى ميركل على انها "مدام لا". ويُقال إن الزعماء الاوروبيين عندما ينتهي احدهم من القاء كلمته في القمم الاوروبية يلتفتون إلى ميركل اولا لمعرفة رد فعلها.&
&
ويرى هانز كوندناني، رئيس قسم الأبحاث في المجلس الاوروبي للعلاقات الخارجية، وهو مؤسسة ابحاث اوروبية في لندن، أن قوة الاقتصاد الالماني التي جعلت الجميع ينظر إلى صانعي القرار الالمان بانتظار ما يقولونه، مقترنة بالاعتماد المتبادل للدول الأعضاء في منطقة اليورو، أوجدت عدم استقرار اقتصادي مماثل لانعدام الاستقرار السياسي في فترة بسمارك. &ويلاحظ كوندناني وجود تناقض الماني قائلًا إن المانيا "لا تريد أن تقود وهي تقاوم تقاسم عبء المديونية ولكنها في الوقت نفسه تريد اعادة صنع اوروبا على صورتها لزيادة قدرتها التنافسية".&
وتعني القيادة في هذا السياق، كما يراها وزير المالية اليوناني يانيس فاروفاكيس، أن تكون القوة القادة هي من يدفع في احيان كثيرة ويريد من ميركل اطلاق خطة على غرار مشروع مارشال لاعادة بناء اوروبا.&
ويؤكد كوندناني أن القوة القيادية الحقيقية الحقيقية لا تحدد معايير فقط بل تقدم حوافز لمن تقودهم كي يبقوا جزء من النظام. ولتحقيق ذلك عليها تقديم تنازلات على المدى القريب لضمان مصالحها على المدى البعيد.&

امبراطورية
في عالم اليوم المحكوم بالقضايا الاقتصادية، تنازل الحكام والمحكومون عن ادوارهم التاريخية للمقرضين والمقترضين. والمانيا أكبر المقرضين في اوروبا. وللمقرض سلطة على المقترض وهو يريد أن تكون له هذه السلطة لأنه يخاف ألا يرى المال الذي أقرضه. والمانيا تستطيع أن تسدد ديون اليونان لكنها لا تستطيع أن تسدد ديون ايطاليا واسبانيا.&
قد تكون المانيا قوية لفرض قواعدها على اوروبا، كما يكتب كوندناني، لكنها اصغر من أن تكون قوة مهيمنة حقيقية. ومثلما كانت المانيا خائفة قبل الحرب العالمية الأولى، فانها تخاف أن تطوقها دول أصغر. ومن اوجه هذا الخوف أن تتمكن بلدان جنوب اوروبا من السيطرة في النهاية على البنك المركزي الاوروبي وتنتقل السطوة إلى البلدان المقترضة.&
ولاحظ كوندناني وجود اتجاه بين الالمان للنظر إلى أنفسهم على انهم الضحية الحقيقية لأزمة اليورو، على النقيض من نظرة الدول المقترضة إلى الوضع. والعدوانية هي النتيجة التي نراها في اللهجة السياسية الالمانية أو في صحيفة بيلد الالمانية التي لا تكل من وصف اليونانيين بالطماعين.&
&
اشارات للحقبة النازية&
إذا كانت المانيا بسطت هيمنتها على اوروبا خلال أزمة اليورو، فانها ظلت قزمًا في السياسة الدولية. وبلغ رفض المانيا القيام بدور سياسي كبير على الساحة الدولية ذروته في امتناعها عن التصويت في العام 2011 على قرار مجلس الأمن بشأن تدخل حلف الأطلسي في ليبيا. ورأت دول اوروبية مثل فرنسا أن هذا الموقف خطوة إلى الوراء من جانب المانيا لا سيما وانها شاركت في الغارات الجوية ضد القوات الصربية في كوسوفو وفي حرب افغانستان ايضا.
تأتي الدعوات إلى دور الماني أكبر، لا سيما من دول أوروبا الشرقية، على نقيض حاد مع الاحتجاجات على هيمنة المانيا الاقتصادية. لكن الاثنين مرتبطان. فالمانيا تريد أن تكون قوة اقتصادية ولكنها لا تريد أن تكون قوة عسكرية. وان نزعتها القومية تقوم على الانتاج الاقتصادي وارقام التصدير وليس على الرغبة في أن تصبح قوة جيو سياسية.&
لكن هناك امبراطورية المانية في المجال الاقتصادي. فالمانيا تتسيد منطقة اليورو بشكل واضح رغم أن سيطرة برلين ليست بلا منازع. ولها كلمة كبيرة في مصائر ملايين من بلدان اخرى. وتترتب على مثل هذه القوة مسؤولية كبيرة، ولكن الحكومة وصانعي السياسة الالمان الآخرين يتصرفون احيانًا وكأنهم يقودون بلدًا صغيرًا، على حد تعبير شبيغل، مضيفة أنه من المهم احيانًا أن تبدي المانيا قدرًا من العظمة من خلال الكرم بعض الأحيان. وسيكون من الأسهل تحقيق تقدم في اوروبا دون لهجة الاستقطاب الجديدة التي تُسمع من ميونيح وبرلين. ويمكن احيانًا ابداء القوة والعظمة بتجاهل المقارنات غير المناسبة أو بدحضها بلباقة.&