ليست الصّورة الكاريكاتوريّة الّتي يرسمها فنّان هي صورة طبق الأصل للشّخص المرسوم. فمن أجل أخذ صورة طبق الأصل لشخص ما، هنالك آلات أخرى تقوم بهذه العمليّة على أفضل وجه، كالكاميرات مثلاً. أمّا الصّورة الكاريكاتوريّة فهي رسمة تُركّز على سمة معيّنة ظاهرة في الشّخص، يقوم الرّاسم كما يحلو له بإبرازها والتّركيز عليها بمقاييس غير طبيعيّة بغية التّنبيه إليها. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فالأنف الطوّيل والمعقوف في الرّسوم الكاريكاتوريّة الشّهيرة ليس هو أنف الشّخص في الحقيقة. ومثلما هي الحال في الأمور الجسديّة، كذلك هي الحال في الرّسوم الكاريكاتوريّة الّتي تتطرّق إلى فكرة ما، أو وضع ما، أو موضوع ما إلى آخره. وإذا ما ابتغينا الولوج في هذه المسألة، فالرّسم الكاريكاتوري، على العموم، لا يأتي من فراغ. إنّما هو تصوّر شائع في ذهنيّات النّاس حول شخص، أو فكرة أو موضوع. أمّا قوّة الكاريكاتير فقد تزيد أو تنقص، وهي منوطة بمهارة الفنّان الّذي يقوم بتنفيذ هذا الرّسم ووضعه أمام القارئ المشاهد في الصحيفة أو في الكتاب أو على الشّاشة. والقوّة المنوطة بالكاريكاتير هي قوّة مردّها إلى اختزال ما يدور في خلد أكبر عدد من النّاس من أمور تشغل بالهم، وذلك من خلال لفتة ما، أو في جملة ما تصنعها ريشة الفنّان.

***
وعلى العموم، يمكننا القول إنّ اللّغة البشريّة هي أساس معرفتنا بالعالم المحيط بنا. لا توجد معارف بدون هذه اللغة، أي مجموع الأصوات الّتي يُجمع البشر على ما ترمز إليه هذه الأصوات الّتي تشكّل اللّغات البشريّة على اختلافها. فمثلاً، لا نستطيع أن نفهم مصطلح quot;شجرةquot; عندما نمرّ عليه في كتاب أو صحيفة، دون أن تتصوّر في ذهننا تلك الصّورة القريبة منّا والّتي صارت هذه الحروف والأصوات ترمز إليها. كذلك الأمر في ما يخصّ مصطلحات مثل: بيت، أو بحر، أو سفينة إلى آخر ما تحمله لغات البشر من أصوات المفردات المختلفة. وبكلمات أخرى، فإنّنا عندما نسمع أو نقرأ مصطلحات لغويّة فإنّنا نقوم بتصويرها في ذهننا على شاكلة ما أجمع عليه النّاس في لغتنا البشريّة على اختلاف رموزها وأصواتها، منذ طفولتنا المبكّرة وحتّى المراحل المتقدّمة في مسيرة حياتنا. واللّغات الّتي تختزل المعارف البشريّة، لو تفكّرنا فيها قليلاً لوجدناها مليئة بهذه الرّسومات والتّصاوير الذّهنيّة. ولولا قدرتنا العقليّة على تصوّرها وتصويرها في ذهننا لما وصلنا إلى المدارك والمعارف أصلاً، ولما قامت اللّغة البشريّة بوظيفتها في دفع الشّعوب قدمًا في فهم العالم وفي اعتلاء ركب العلم والتّطوّر.

***
من هذه النّقطة بالذّات، دعونا ننظر في ما تحمله لنا بعض الرّوايات من تراثنا العربي. لنقرأ معًا هذه الرّواية، كما يوردها ابن كثير: quot;لما فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم خيبر أصابه من سهمه أربعة أزواج بغال وأربعة أزواج خفاف ، وعشر اواق ذهب وفضة ، وحمار أسود ، ومكتل ، قال: فكلم النبي صلى الله عليه وسلم الحمار فكلمه الحمارُ، فقال له: ما اسمُك، قال: يزيد بن شهاب، أخرج الله من نَسْل جَدّي ستين حمارًا، كُلّهم لم يركبهم إلا نبيّ، لم يبقَ من نَسْل جَدّي غيري، ولا من الانبياء غيرك، وقد كنتُ أتوقّعُك أن تركبني، قد كنتُ قبلك لرجلٍ يهودي، وكنت أعثر به عمدًا ، وكان يُجيعُ بَطْني ويَضْربُ ظَهْري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سميتك يعفورًاquot;، يا يعفور، قال: لبيكَ، قال : تشتهي الإناثَ؟ قال: لا. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يركبه لحاجته، فإذا نزل عنه بعثَ به إلى باب الرجل فيأتي الباب فيقرعه برأسه، فإذا خرج إليه صاحبُ الدّار أومأ إليه أن أجبْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلمquot;، يعني إلى الإسلام (عن البداية والنّهاية لابن كثير. ويمكن مراجعة الخبر باختلافات طفيفة في: تاريخ دمشق لابن عساكر، إمتاع الأسماع للمقريزي، قصص الأنبياء للرّاوندي، بحار الأنوار للمجلسي، الشّفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض، وغيرهم)
ولنقرأ معًا على سبيل المثال رواية أخرى من تراثنا العربيّ، ألا وهي رواية الأعرابي والضبّ الّذي يتحدّث بلسان عربيّ مُبين، كما يوردها الطّبراني في المعجم الصّغير: quot;عن عبد الله بن عمر عن أبيه عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في محفل من أصحابه إذ جاء أعرابي من بني سليم قد صاد ضبًّا وجعله في كمّه يذهب به إلى رحلة، فرأى جماعةً فقال: على من هذه الجماعة فقالوا على هذا الذي يزعم أنه نبي فشقّ الناس. ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد ما اشتملت النساء على ذي لهجة أكذب منك وأبغض إلي منك... فقال واللات والعزى لا آمنت بك أو يُؤمنَ بك هذا الضبّ، فأخرج الضبّ من كمّه وطرحه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن آمن بك هذا الضب آمنتُ بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ضبّ! فتكلمَ الضبُّ بلسان عربيّ مُبين يفهمُه القومُ جميعًا: لبيكَ وسعدَيْك يا رسول رب العالمين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تعبد؟ قالَ الذي في السماء عرشُه وفي الارض سلطانُه وفي البحر سبيلُه وفي الجنة رحمتُه وفي النار عذابُه. قال: فمن أنا يا ضبّ؟ قال: أنتَ رسولُ رب العالمين وخاتم النبيين قد أفلح من صدقك وقد خاب من كذبكquot;. (عن: الطبراني، المعجم الصغير، ج ٢، وكذلك يرد هذا الخبر لدى أبي نعيم الأصبهاني في دلائل النّبوّة).

كما يمكننا أن نذكر ما رواه البخاري مثلاً في صحيحه: quot;عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: التثاؤُب من الشّيطان فإذا تثاءبَ أحدُكم فليرده ما استطاعَ، فإنّ أحدَكم، إذا قالها ضحكَ الشيطانquot;. أو ما روي مثلاً في سنن أبي داود في كتاب الطّهارة عن وفد الجنّ الّذي قدم إلى رسول الله وطلب منه أن ينهى أمّته أن يستنجوا بالعظام لأنّ الله تعالى quot;جعلَ لنا فيها رزقًاquot;، فنهى رسول الله عن ذلك.

***
إذن، وبعدما عرضنا هذه الرّوايات العربيّة التّراثيّة، فإذا ما قام الواحد منّا مثلاً بقراءة هذه النّصوص فما من شكّ، ولطبيعة التّصوير الّتي تفرضها علينا اللّغة كما أشرنا لها آنفًا، أنّ حقيقة هذه الرّوايات لن تصل مداركه إلاّ من خلال تصويرها في ذهنه. وهذا التّصوير هو بلا أدنى شكّ أيضًا أشدّ وقعًا وأسوأ بكثير من من تلك التّصاوير الكاريكاتوريّة الدّنمركيّة الّتي أثارت العرب والمسلمين. فإذا كانت تلك الرّسوم الكاريكاتوريّة تستثير هؤلاء، كيف ذا لا تستثيرهم هذه الرّوايات التّراثيّة الكاريكاتوريّة الّتي يصوّرونها في أذهانهم لدى قراءتها.
إذن، وبعد عرض هذا النّزر اليسير من روايات تراثيّة، وتراثنا يعج بمثلها،، لنذهب إلى قراءة تراثنا قراءة ثاقبة، ولنضحكْ قليلاً. وليضحكْ العالم معنا، وعلينا، أيضًا. أليس كذلك؟

[email protected]