تمر هذه الأيام الذكرى الثالثة للحرب التي قادتها الولايات المتحدة على نظام البعث الصدامي وأسقطته وجعلت عودة الدكتاتورية، وتحت أية يافطة، في العراق مستحيلة وإلى الأبد. أهمية هذه الحرب تنبع من كونها أسقط أسوأ نظام جائر في التاريخ ودشنت دخول منطقة الشرق الأوسط في الحداثة والديمقراطية وزلزلت جميع الأنظمة الاستبدادية فيها. لذا فهذه الذكرى هي مناسبة مهمة لمراجعة الحسابات ومقارنة التضحيات بالمنجزات والآمال، وهل هذه وتلك تتناسب مع التوقعات والغايات المرجوة. أجل، من المفيد، بل ومن الواجب مراجعة أحداث السنوات الثلاث لاستخلاص الدروس والعبر منها.

قبل كل شيء، أود أن استرعي انتباه الفريقين من مناهضي ومؤدي الحرب، أن هذه الحرب لم تقع بإرادة المؤيدين لها من العراقيين والعرب، كما ولم يكن بمقدور مناهضيها أن يمنعوا وقوعها. فدورنا جميعاً لم يكن أكثر من دور المشجعين لمتصارعَيْن في حلبة الصراع، جورج بوش وصدام حسين، والنتيجة كانت تعتمد فقط على مهارة وقوة المتصارعَيْن في الحلبة. بطبيعة الحال، نحن مؤيدي الحرب، كنا وما زلنا نريد الهزيمة لجلاد شعبنا صدام حسين وحزبه الفاشي، وهذا ما حصل. أما أولئك الذين يصورون المشهد بهزيمة بوش بسبب تعقيدات الوضع في العراق، فنقول لهم إنها مجرد تمنيات وأفكار رغبوية، فالمعركة لم تنتهِ بعد، ونظام البعث قد سقط وإلى الأبد وصار صفحة سوداء في التاريخ، و صدام قابع الآن وراء القضبان يحاكم من قبل ضحاياه.
نعم، التضحيات كبيرة، وبالنسبة للشهداء وعائلاتهم والذين فقدوا الأمن والخدمات واضطرت عشرات الألوف منهم الهجرة والعيش في المنافي، تعتبر المنجزات صفراً والحديث عن الديمقراطية نكتة بائسة. فعلى أقل تقدير دفع الشعب العراقي زهاء 30 ألف شهيد منذ سقوط النظام. وهذا الرقم بحد ذاته يشكل كارثة وطنية مرعبة حتى بالمقاييس العراقية، ولكن مناهضي الحرب كانوا يطبلون بقتل مليونين وفرار خمسة ملايين على الأقل خلال الأسابيع الأولى من الحرب، والحمد لله لم تتحقق نبواتهم السوداء.
بعد ثلاث سنوات من الأحداث الدامية، هناك أسئلة ملحة وعديدة تبحث عن إجابات منصفة وصحيحة صادرة عن العقل، بدون إطلاق العنان للغرائز البدائية والعواطف المشبوبة. فكوارثنا هي نتيجة عدم بلوغ مجتمعاتنا مرحلة العقل، إذ مازالت أفعالنا وردود أفعالنا هي أفعال انعكاسية reflex actions صادرة عن الأجزاء السفلية (الحبل الشوكي) وليست أحكاماً عقلانية صادرة من الأجزاء العلوية المختصة بالتفكير من الدماغ. ولا فرق في ذلك بين القطاعات الواسعة من الجماهير التي تعاني (60%) منها من الأمية الأبجدية، وأولئك الذين يدَّعون الثقافة. فمن السهل جداً إطلاق الصراخ والعويل والشتائم على هذا وذاك، ولكن المطلوب في هذه الحالة إعمال العقل بهدوء والبحث عن إجابات عقلانية مقنعة قدر الإمكان لإيجاد الجواب الصحيح للمحنة العراقية، بدلاً من الصراخ وجلد الذات.
والأسئلة التي يجب طرحها في هذه المناسبة هي: هل كان نظام البعث مستبداً ظالماً وقام بتدمير حياة الشعب العراقي أم لا؟ هل هكذا نظام يستحق السقوط أم لا؟ وهل كان بإمكان الشعب العراقي إسقاطه دون اللجوء إلى دعم العامل الخارجي؟ وهل كان ممكناً إسقاط هكذا نظام قمعي ودموي بدون تضحيات؟ وماذا سيكون مصير الشعب العراقي لو استمر هذا النظام يحكم العراق لعشر سنوات أخرى مثلاً؟ وهل كان بالإمكان تجنب الكوارث التي حصلت بعد سقوط النظام؟ وهل ما حصل من تداعيات له علاقة مباشرة بطبيعة الشعب العراقي أم مخطط له من الخارج؟ ولاشك هناك أسئلة كثيرة أخرى، وأي تقييم لهذه الحرب يعتبر ناقصاً ما لم تتم الإجابة العقلانية على هذه الأسئلة.

هل كان نظام البعث جائراً؟
نعم، هناك شبه إجماع من قبل الجميع وحتى من معظم مناهضي الحرب (عدا فلول النظام الساقط ومرتزقته من مثقفي الكوبونات النفطية) يعتقدون بدون أدنى شك أن نظام البعث كان جائراً إلى أبعد الحدود، وقد تبنى الآيديولوجية النازية بنسختها المتطرفة ونفذها بأبشع الوسائل الستالينية شراسة وهمجية. وبلغت همجية النظام البعثي إلى حد أنه حتى المدافعين عنه لم يجرءوا نفي جوره، ولكنهم يبررون دفاعهم عنه بأنه لم يكن الجائر الوحيد في المنطقة، كما وإن معظم أنصاره يدافعون عنه تحت أسماء مستعارة خوفاً على سمعتهم، وهذا دليل على أنهم يعرفون في قرارة نفوسهم أنهم يدافعون عن نظام جائر وقضية خاسرة. فالنظام البعثي دمر العراق بحروبه الداخلية على الشعب العراقي، والخارجية على دول الجوار، وتسبب في قتل ما يقارب مليونين عراقي ومليون إيراني، ودمر الكويت وشرد شعبها، وترك الملايين من الأرامل واليتامى والمعوقين، وشرد ما بين 4 إلى 5 ملايين من العراقيين في المنافي، وهجَّر وأسقط الجنسية عن مليون عراقي في عملية تطهير عرقي وطائفي غير مسبوقة في العالم، وعطل التنمية البشرية ودمر ما بنته الأجيال السابقة وزج البلاد والمنطقة في حروب عبثية، وبدد الثروات الهائلة في عسكرة المجتمع، وأضاع مستقبل عدة أجيال والقائمة تطول. وعليه فإن إسقاط هكذا نظام جائر لا يستحق السقوط فحسب، وإنما إسقاطه واجب ومسئولية إخلاقية على المجتمع الدولي، لأن زواله ليس من مصلحة الشعب العراقي فقط، بل والبشرية جمعاء.
لذا فالحرب على صدام كانت ضرورية ولا بد ولا مناص منها. أما تجنبها خوفاً من انتقام فلوله للشعب فغير مقبول، إذ كما يقول ونستون تشرشل عشية الحرب الكونية الثانية ضد دول المحور quot;إذا رضينا بعار التنازلات باسم منع الحرب فسوف نجلب الحرب والعار معا.quot; وهذا ما كان يعيشه الشعب العراقي في عهد صدام، الحرب والعار والتشرد والمقابر الجماعية وأحواض الأسيد معاً.

وهل كان بإمكان الشعب العراقي إسقاط النظام؟
هذا الموضوع أشبع بحثاً وسجالاً قبل الحرب وبعدها، وتوصل الجميع إلى قناعة أن صدام حسين حكم الشعب العراقي خلال ما يقارب الأربعة عقود فدمر القوى السياسية وأباد كل من يتوسم فيه خطراً على نظامه، وكما قال مرة في أنهم جاءوا ليحكموا العراق لثلاثمائة عام وليس لثلاثين عاماً. وباختصار شديد لم يكن بمقدور الشعب العراقي التحرر بقواه الذاتية من الاحتلال البعثي الداخلي مطلقاً بدون تدخل خارجي. ولو بقي النظام لعشر سنوات أخرى لهلك الحرث والنسل، وتضاعفت خسائر الشعب العراقي البشرية والمادية أضعاف ما حصل خلال العقود الماضية. لذا فليس من العدالة ولا الحكمة ترك هكذا نظام يعيث في الأرض فساداً ويبيد شعباً بحجة الخوف من عواقب الحرب.

تداعيات الحرب
نعم، فوجئ الجميع من الذين أيدوا الحرب على النظام وحتى الذين ناهضوها، بشراسة الإرهاب البعثي الذي يواجهه العراق الجديد. وأصيب الجميع بذهول ودهشة من هول هذا الإرهاب وشراسة ووحشية فلول البعث والسلفيين التكفيريين، وما يدفعه الشعب العراقي من خسائر رهيبة في الأرواح والممتلكات، الأمر الذي جعل الكثيرين يفقدون الأمل في تحسن الأوضاع. ونتيجة لهذه الفوضى التي يعاني منها أبناء الشعب، غيَّر البعض من مؤيدي الحرب قناعاتهم من جدوى الحرب وحتى فقدوا إيمانهم بالشعب العراقي، متمنين لو لم تقع هذه الحرب ولو بقي النظام الجائر، لأن هكذا شعب منقسم على نفسه لا يصلح له سوى نظام مستبد. إن هؤلاء السادة رغم قناعاتهم الجديدة وتغيير مواقفهم، إلا إنهم يعرفون ويقرون أن هذه الخسائر هي نتيجة أعمال الإرهابيين من فلول البعث وحلفائهم السلفيين المتطرفين. ولذلك يعتقدون أنه كان من أفضل بقاء نظام صدام حسين، إذ على الأقل كان هناك أمن وبعض الخدمات، ولأن الاستبداد الجائر أفضل من الفوضى المنفلتة!! فبسقوط صدام تم فتح عش الدبابير ودون أن تتمكن قوات التحالف أو الحكومة العراقية من السيطرة عليها، وأن الشعب العراقي بسلوكه هذا كشف عن خلل رهيب في تكوينه وحقيقة لا يمكن التستر عليها وهي أنه شعب غير متصالح مع نفسه، لا يفيد معه سوى حكم القوة والقبضة الحديدية مثل حكم الحجاج وصدام حسين!!!!!
والغريب أن هؤلاء السادة، بدلاً من لوم الجناة الإرهابيين فإنهم يلومون الضحايا والذين أسقطوا النظام ويفضلون حكم هؤلاء البعثيين الإرهابيين تجنباً لانتقامهم. فهل من العدل والإنصاف التسليم والإذعان للإرهابيين وتركهم يحكمون شعباً إلى ما لا نهاية خوفاً من الانتقام و إثارة غضب ونقمة الإرهابيين؟ وإلى متى كان يجب ترك هذا الشعب يدمره البعث؟
وماذا عن الحرب على هتلر وموسليني؟ هل ارتكبت قوات الحلفاء خطأ جسيماً عندما تصدت لطموحات حلف المحور وشنت عليه الحرب والقضاء على النازية والفاشية؟ فتلك الحرب الكونية كلفت البشرية 65 مليون قتيلاً، ناهيك عن الدمار الشامل للممتلكات وإزالة مدن بكاملها وحتى استخدام السلاح النووي ضد اليابان. فهل كان من الأفضل السكوت عن جرائم الفاشية والنازية والعسكرية اليابانية لكي يتجنبوا الخسائر؟
أيها السادة، التاريخ لا يسير وفق هذه المنطق، فكما قال خوسيه مارتي جني الحائز على جائزة نوبل للسلام: quot;مجرم من يخوض حربا يمكن تفاديها. ومجرم من لا يخوض حربا لا يمكن تفاديهاquot;. إن الحرب على صدام حسين ما كان بالإمكان تفاديها، لأن تلك الحرب كانت ومازالت في صالح الشعب العراقي وخلاصه العذاب والفناء ومهما بلغت الخسائر. فهذه الخسائر كان الشعب سيدفعها في جميع الأحوال حتى ولم لم تقع هذه الحرب، لأن نظام صدام حسين بحد ذاته كان حرباً ضروساً على الشعب العراقي كما أسلفنا، وصدام حسين ونظامه كانا بحد ذاتهما سلاح الدمار الشامل على الشعب العراقي وشعوب المنطقة.

جسامة المشكلة
لقد غير البعض قناعاتهم ومواقفهم من الحرب لأنهم يغفلون حجم وضخامة وجسامة المشكلة التي عاشها الشعب العراقي وربما كانوا يتوقعون أن يتحول العراق إلى جنة عدن بمجرد إسقاط النظام الفاشي، يعني (كن فيكون). لذا أو توضيح الأمور التالية:
أولاً، يبدو أنهم لم يدركوا حجم الدمار الشامل الذي أحدثه النظام البعثي خلال ما يقارب الأربعة عقود على تركيبة الشعب العراقي ومكوناته وبناه الأساسية في المجال الفكري والإخلاقي وتفتيت نسيجه الاجتماعي وما عاناه هذا الشعب من الظلم والجور والقهر والاستلاب والإذلال والفقر والبؤس، وإعادة المجتمع العراقي إلى العهود الجاهلية السحيقة وإحياء القبلية المتصارعة في عصر الغزوات العشائرية والقضاء شبه التام على الولاء الوطني.. الخ. فلهذه الأمراض الاجتماعية تأثيرها المدمر على الشعب وسلوكه لا يمكن معالجتها بين عشية وضحاها وبعصا سحرية بمجرد إسقاط النظام.
ثانياً، صعوبة التغيير، فكما ذكرت أعلاه، أدرك الجميع أن تغيير النظام كان مستحيلاً بدون تدخل خارجي، وكان المجتمع العراقي يائساً وأمل الجميع هو الخروج من الوطن بلا عودة. وقد بلغ عدد الذين غادروا البلاد زهاء خمسة ملايين، وكان الرقم في تصاعد على الدوام، ولو ترك النظام على حاله لفرغ العراق من شعبه، عن طريق الهجرة وإبادة الجنس والموت البطيء.
ثالثا، يغفل البعض حجم التغيير الذي طرأ على العراق. فنظام متغطرس ومتجبر ميئوس من تغييره، انهار فجأة تحت ضربات قوات التحالف وصار كعصف مأكول. ولذلك كاد الشعب لا يصدق هذا الحدث العظيم بأنه تحرر من أبشع نظام جبروت جائر. وشعب هذه معاناته وعداءه للدولة، لا بد وأن يعتبرها فرصة للانتقام من الدولة التي أذلته. وكما ينقل لنا الدكتور سليم الوردي عن النهب (الفرهود) الذي أغقب سقوط النظام، قول أحدهم: (أن الدولة فرهدتنا لعدة عقود فلنفرهدها لعدة أيام). لذا فتغيير النظام كان شبه معجزة. وسقوط هكذا نظام جائر وشعب مدمر لا بد وأن يمر بزلازل خطيرة ومرحلة صعبة من عدم الاستقرار.
لذا فإن ما حصل بعد الحرب من شراسة الإرهاب هي مرحلة لا بد منها وهي نتيجة الخراب البشري الذي اعتمده النظام البائد بشكل ممنهج ليجعله غير قابل للحكم من قبل غيره. ولو ترك لعشر سنوات أخرى لانقرض هذا الشعب عن آخره. إن الخراب البشري الذي مارسه البعث ضد الشعب يحتاج إلى مقال مستقل، ولكن يكفي في هذه العجالة أن نقول أن الذين يطالبون الشعب العراقي بالتصرف الهادئ كما تتصرف الشعوب المتمدنة المستقرة ذات التاريخ العريق في الديمقراطية فإنهم واهمون وعلى خطأ كبير.

ومع ذلك فقد تحدى هذا الشعب تهديدات الإرهابيين وتوجه إلى صناديق الاقتراع ثلاث مرات في عام واحد، كما وإن الحياة في 14 محافظة من مجموع 18 تتمتع بالهدوء النسبي، حيث ألوف المدارس ومئات المستشفيات وغيرها من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، تعمل أفضل مما كانت في العهد البائد، ولكن الإعلام لا يهتم إلا بالسلبيات. نعم هناك صعوبات يواجهها الشعب بسبب الإرهابيين ولا أحد يقلل منها ولكن غالبية الشعب تنظر إلى المستقبل بأمل وإيجابية بتحسن الأوضاع وحياة أفضل لهم وللأجيال القادمة ولا تريد عودة النظام البعثي الجائر.

خلاصة القول، إن الخراب البشري الذي يعاني منه الشعب العراقي هو من تركة الاستبداد البعثي. وليس من الحكمة ترك البعث يواصل حكمه للشعب واضطهاده إلى ما لا نهاية خوفاً من الانتقام، فالعلاج يكمن في إزالة حكم الاستبداد وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي، فالديمقراطية هي الحل والعلاج. وما يعانيه الشعب العراقي الآن هو أشبه بمعاناة المريض التي أجريت له عملية جراحية كبرى لاستئصال سرطان خبيث، ومازال يمر في دور النقاهة. العراق يحتاج إلى حكومة قوية تقف بوجه الإرهاب بحزم شديد، فكما قال باسكال: (العدالة اذا لم تكن مدعومة بالقوة لا معنى لها ما دام هناك أشرار على سطح الأرض). ولو وافقنا الذين يقولون بخطأ الحرب على صدام خوفاً من الانتقام، لصار العالم كله غابة يحكمها الجلادون وتحولت البشرية إلى قطعان مطيعة من الأغنام، وهذا ليس منطق التاريخ.