بعد آخر غزوةٍ للإرهاب(غزوة الأطباء) استهدفت كلٍّ من لندن وغلاسكو سكوتلندا، خططَ ودبّر لها أمراء مفخخات جدد، وأصحاب شهاداتٍ من درجة quot;التفخيخ العاليquot;، أطباء مسلمون على سنة الله ورسوله(على حد قناعتهم)، طلع علينا المسلمون (المجاهدون جداً)، كعادتهم، بحججهم وتبريراتهم الجاهزة الصنع: quot;لو لم تكرّم بريطانيا عدو الإسلام سلمان رشدي، لما وقع ما حصلquot;!!!
من المعروف قبل quot;الغزوة الطبيةquot;، هو أن تكريم الكاتب الروائي، الهندي الأصل سلمان رشدي، بحصوله على لقب فارس من ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، قد قوبل في العالمين العربي والإسلامي، على المستويين الرسمي والشعبي، بردود أفعالٍ جداً عنيفة، هذا فضلاً عن تخصيص جهات إعلامية عديدة، تغطياتٍ(استنكارية الطابع) خاصة للموضوع.
حسب وكالة رويترز(20.06.07)، فإن وزير الشؤون الدينية الباكستاني محمد إعجاز الحق، قال في البرلمان الباكستاني(الذي طالب بريطانيا مرتين بسحب تكريم الكاتب سلمان رشدي الذي منحته لقب quot;فارسquot;، وبالاعتذار عن الإساءة لمشاعر المسلمين) إنه quot;إذا قام شخص بعملية تفجير انتحارية من أجل الحفاظ على شرف النبي محمد فإن تصرفه مبررquot;.
ووفقا ل البي بي سي(20.06.07) فإن quot;المفوض البريطاني قد أوضح من جانبه، بجلاء، قلق الحكومة البريطانية العميق، مما قاله وزير الشؤون الدينية الباكستاني، وأن الحكومة البريطانية واضحة حول موقفها من أنه لا يوجد شيء يبرر عمليات التفجيرات الانتحارية quot;
من جهتها، كانت إيران قد صعّدت من وتيرة احتجاجها على تكريم رشدي، حيث استدعت وزارة الخارجية السفير البريطاني في طهران، جيفري آدامز، وأبلغته أن منح رشدي اللقب كان quot;تصرفا استفزازياquot;.
أما رئيس برلمان إقليم البنجاب شودري محمد أفضل ساهي فقال: quot;سأقتل رشدي لو التقيته وجها لوجه، فمثل هذا الكافر يستحق الموت، إن الاسلام لا يسمح بالهجمات التفجيرية الانتحارية ولكنها تصبح مبررة في حالة كافر يستحق الموتquot;.
ورداً على منح ملكة إنكلترا لقب quot;فارسquot; لرشدي، منحت مجموعة من علماء الدين الباكستانيين، الخميس 21-6-2007 لقبها الأرفع إلى زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن. وأعلن مجلس العلماء الباكستانيين، وهو منظمة خاصة تضم نحو الفي عضو، أنه منح زعيم تنظيم القاعدة لقب quot;سيف اللهquot;(العربية نت amp; أ ف ب، 21.06.07).
كان هذا بعضاً قليلاً من التحريض العلني الصريح على العمليات الإنتحارية، من خلال quot;تشريع التفخيخ والقتل بالجملة، أو تبريره، أو تكريمه، أو تأليههquot;.
فماذا يعني، أن تمنح منظمة دينية إسلامية تضم نحو 2000 عالم دين إلى صانع القتل الأول ورأس الجهاد الأول، بإسم quot;الله ورسوله وآله وأمتهquot;، لقب quot;سيف اللهquot;؟
وعليه أوليس من حق صحيفة quot; النيويورك بوستquot; أن تتساءل: quot;ان رئيس الوزراء البريطاني الجديد غوردن براون يواصل التأكيد على أن الهجمات هذه ليست لها علاقة بالإسلام، وفي الوقت ذاته يحرص على دعوة قادة المجتمعات الاسلامية إلى داونيغ ستريت لمناقشة كيفية ايقاف مثل هذه الهجمات، فإذا كانت الهجمات لا علاقة لها بالإسلام، لماذا ندعو قادة المسلمين ولماذا لا ندعو قادة المجتمع البوذي مثلا؟quot;(نقلاً عن إيلاف 05.07.07/ ترجمة زيد بنيامين)
التفجيرات الإنتحارية المحتملة(الجاهزة) تحت الطلب، بُررَ لها، إسلامياً، على أكثر من مستوى، قبل أن تقع، كما أشرت إليه آنفاً. أما بعد الوقوع، فكان السكوت الذي هو علامة الرضا، هو سيد الموقف على مستوى الإسلام الرسمي، أما على مستواه الشعبي، فكان quot;الأسف الشديدquot; هو العنوان العريض لردود أفعاله؛ الأسف على القتل لأنه لم يحصد الأرواح البريئة؛ الأسف على الأطباء المفخخين لأنهم لم ينجزوا quot;القتل المرتجىquot; بنجاح، ولم يعودوا بعده، إلى quot;عياداتهم التفخيخيةquot; سالمين غانمين. وما نشر من موتٍ قادم كلامياً، لquot;لندنquot; ولكل quot;مخادع الصليبيينquot;، على المنتديات الإسلامية(وما أكثرها)، هو دليل على هذا quot;الأسف الشعبيquot; الذي يعيش ليقتل!
المشكل الأساس في ثقافة الشرق المسلم، هو أن العالم كله يُفهم ويُنظر إليه، من خلال ثنائية الله/ الشيطان، الله الأكبر/ الشيطان الأكبر، رأس الإيمان/ رأس الكفر، مؤمن/كافر، مسلم/مرتد، أولاد الأصول/ أولاد البدع والقردة والخنازير، معي/ ضدي، دار السلم/دار الحرب، خير أمة/ شرّ أمة، أمة الله/ أمة الشيطان، جنة/ جهنم...الخ.
مشكلة الشرق المسلم، هو أن الدين يشرّع، ويحكم، ويحرّض الجمهور، ويسخِّن الشارع، ويحمّي الرؤوس، ويجند النصوص، ويدافع عن الله نيابةً عنه، ويكفّر من يشاء، ويشيطن من يشاء، ويفصّل الحاضر على مقاس الماضي، أنى وأين يشاء.
الشرق المشكل، في بعضه، هو الشرق الممنوع من التعبير، والممنوع من الإختلاف، والممنوع من التغريد خارج السرب، والممنوع من الخروج على القطيع.
على خلفية الرسوم الكاريكاتورية للفنان الدانماركي quot;مارتين روزينكارد كنودسينquot; التي نُشرت في صحيفة quot;يولاندس بوستنquot; الدانماركية، قامت الدنيا ولم تُقعد، سحبت بعض الدول سفاراتها من دولة الدانمارك وقوطعت منتجاتها، دخلت أوربا في حالة استنفار قصوى، جدد المجاهدون وأمراء حروبهم ويلهم وثبورهم،بالثأر لشرف النبي، وذلك بضرب quot;الصليبيين الكفارquot; وquot;المتحالفين مع الشيطانين الأكبر والأصغرquot;، في عقر دارهم...الخ.
ولكن، من سمع من هذا الشرق المسلم، الغيور على الله ونبيه، بالفنان البولندي دوروتا نيزنالسكا Dorota Nieznalska في 2003 الذي رسم صورة العضو الذكري على الصليب؟
ماذا يعني ركوب العضو الذكري على الصليب، بالنسبة للمؤمن المسيحي؟
أليس الصليب هو الرمز الأقدس، لتحيين المسيح ومعاناته؟
أليس الصليب هو بعضٌ من تحضير الله رمزياً، لإعتقاد أتباعه، بأن يسوع هو الإبن النوراني لله؟
ثم مَن من أتباع الصليب ويسوعه، أصدر فرماناً من الكنيسة، بضرورة قتل هذا الفنان أو التعرض لحياته بأذى أو مكروه؟
مَن من القائمين على شئون الكنيسة، في عموم العالم المسيحي، حاول القفز على القانون المدني والدولة، لصك قانون ديني كنيسي، بهدف حكم الفنان(الذي عَبَر صليبهم بعضوٍ ذكري) أو إدانته به؟
ألم يسيء الصحفي جيرزي أوروبان، سنة 2005، إلى البابا يوحنا بولس الثاني، بإعتباره رأساً للكنيسة الكاثوليكية في العالم؟
ماذا كان رد فعل البابا والعالم المسيحي، عليه، آنذاك؟
من كان الحَكَم آنذاك، القانون أم الكنيسة، عالم القانون أم عالم الدين/اللاهوت؟
عام 1960 طبعت رواية quot;آخر وسوسة للمسيح The Last Temptation of Christquot; للمؤلف اليوناني نيكوس كازانتزاكس (1883 - 1957) وتحولت الرواية فيما بعد إلى فيلم سينمائي في عام 1988 وفيه يصور المسيح كنجار يصنع الصليب الذي كان الرومانيون يستعملونه لإنزال العقاب بالمخالفين للقوانين. ويصور أيضا شخصية المسيح كإنسان عادي، عاش بشراً ومات. وفي النهاية، يتزوج المسيح من مريم المجدلية بدلا من صلبه، كما هو معهود، حسب العهد الجديد.
صحيح أن الزعماء الدينيين في بعض الكنائس الغربية، قد شنّوا حملةً واسعةً ضد الفيلم، إلا أن القانون، كان له، في النهاية، الكلمة الفصل. وأثارت القضية، في حينه، جدلاً فكرياً وفلسفياً كبيراً.
الفنان الأمريكي quot;اندريس سيررانو Andres Serranoquot; في عام 1987 بال على لوحةٍ له سماها بquot;البول على المسيح Piss Christquot; واللوحة هي عبارة عن صورة للمسيح المصلوب، مغموسة في بول الفنان، حسب النقاد والمختصين في الشأن. أحدثت لوحة quot;المسيح المغموس في البولquot; هذه، آنذاك، جدلا كبيرا بين أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، ولكن كل الجدال حُسم آخر المطاف والأخذ والرد، في حدود quot;حرية التعبيرquot;، وquot;الرأي والرأي الآخرquot;.
كل هؤلاء كانوا مواطنين من بلادٍ مسيحية، وعبّروا عن آرائهم في حدود ثقافة زمانهم ومكانهم، quot;ضدquot; أو مخالفين للمسيح، وصليبه، وللكتاب المقدس وقصصه، وللمسيحيين المؤمنين ومعتقداتهم. ولكن كنيسةً واحدةً لم quot;تحللquot; دم هؤلاء quot;المخالفينquot; لهم ولدينهم.
هل يعلم الذين هللوا لهدر دم سلمان رشدي، أن فيلم quot;حياة برايان Life of Brianquot; الذي يروي قصة برايان/ المسيح بصورة كوميدية ساخرة، قد اختير عام 2000 (رغم إسلوبه النقدي اللاذع لشخصية المسيح) من قبل المجلة الفنية البريطانية Total Film كأحسن فيلم كوميدي بريطاني في التاريخ.
والحال، أليست بريطانيا التي سمحت، في حدود قوانينها، وأعرافها، وتقاليدها، وحرياتها، لصالاتها السينمائية بعرض ذاك الفيلم الذي quot;يبهدلquot; المسيحquot; كوميدياً، هي ذات بريطانيا التي كرّمت رشدي، بمنحه لقب quot;فارسquot;؟
ثم أيهما أخطر على الله وعلى البشر، على حدٍّ سواء، حدود حرية التعبير والتمثيل، أم حدود حرية القتل والتنكيل؟
أي طريقٍ هو أقرب للوصول إلى الله: طريق الكتاب، أم طريق الإرهاب؟
ألم يأمر الله عباده، بالقراءة لأنها أول الرسالة، وأول الكتاب، وأول الله؟
لماذا كل هذا الخوف من القراءة، والله ذكر في كتابه: quot;إقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. إقرأ وربك الأكرم.(العلق:1ـ3)
أخيراً، أقول أن لسلمان رشدي، ولكل من يسعى إلى التعبير أو quot;التنفيسquot; عن رأيه، حدود قصوى هي الكتاب، ولكن هل من حدودٍ للإرهاب؟