يبقى المشهد العراقي مالئ الصورة في الشرق الأوسط لسنوات وعقود قادمة بحسب ما يتجلى في الأفق من نذر لا تبشر بالخير وليس أدل على ذلك مما يراه المرء ويسمعه عن أخر وأحدث القيود التي تريد واشنطن تقييد بغداد بها إلى اجل غير مسمى عبر الاتفاقية ألامنية التي لم تبارح مكانها والتي لجات معها واشنطن مؤخرا الى صيغة التهديد المباشر للعراق والعراقيين.. ماذا عن تلك الاتفاقية وماذا عن ابعادها وجوانبها ما خفي منها وما ظهر؟
بداية نجيب بالقول أن ما يتوافر لدينا ولدى الأعلام شرقا وغربا من معلومات يستند إلى ما سربته صحيفة الاندبندنت البريطانية عن مسودة تلك المعاهدة والتي مدتها 100 عام،ما يعني ارتهان أجيال عراقية ـ عربية لم تولد بعد لجيل وجيلين للاحتلال الأمريكي الصريح وهنا فان الأمر يحتمل القول بأنه ربما كان ما خفي أسوا وأبشع سيما وان ما يتسرب عادة لا يمثل في الواقع حقيقة كل ما هو موجود في تلك الاتفاقيات إذ يبقى الجانب الغالب منها في إطار quot; سري للغاية quot; بمعنى انه لا يماط عنه اللثام حتى اللحظات الأخيرة للتوقيع وقد توجد بنود سرية لا يعلن عنها ابدا... وهنا نتساءل ماذا عن أهم النقاط التي تسربت عن تلك المعاهدة غير المحمودة والمنشودة أمريكيا؟
يمكن هنا الإشارة إلى بعض من تلك الخطوط العريضة للاتفاقية مثل:
*تختار الولايات المتحدة نحو 400 موقع عسكري داخل العراق وتكون تلك المواقع مغلقة تماما على العراقيين والمراقبين ما يعني تأسيس 400 جزيرة أو إمارة أمريكية معزولة داخل العراق وترفع العلم الأمريكي فقط أي تكون ارض أمريكية وحتى يقبل اللجوء والهروب لها.
*يحق للولايات المتحدة إنشاء 12 قاعدة أمريكية دائمة في العراق وبجميع المواصفات العسكرية والترفيهية والتكنولوجية وتكون 5 منها في الوسط و 7 موزعة في الجنوب والشرق والشمال ومن المؤكد أنها تحتوي على مكاتب لجميع الدوائر الأمريكية وخصوصا الأمنية والاستخبارية والعسكرية والتكنولوجية والنفطية وغيرها.
*تنص الاتفاقية الأمنية على شرط الحصانة الكاملة والمطلقة للجنود الأمريكيين ولمن يتعامل معهم ويساعدهم وتكون تلك الحصانة غير خاضعة لزمن محدد وغير خاضعة لجرم محدد بل هي حصانة مطلقة ومن كل شئ حتى لو كان جرائم حرب إذ لن يحاسب من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة ولمدة 100 عام.
*تنص الاتفاقية على شرط الحصانة الممنوحة للشركات الأمريكية والشركات الغربية وغيرها والتي تعمل في العراق وبعلم الولايات المتحدة أي أن الحكومات العراقية ليس لها سلطات على هذه الشركات وكذلك أن هذه الشركات لا تخضع للقوانين العراقية مطلقا، وبالتالي لا تحاسب من قبل القوانين العراقية بل هي حرة تفعل ما تشاء.
*يحق للأمريكيين في العراق اعتقال أي مواطن عراقي ومهما كان منصبه وموقعه الاجتماعي والوظيفي ومهما كانت حصانته وفي الوقت الذي يحدده الأمريكيون وليست هناك قوة في العراق قادرة على منع ذلك أو حتى الدفاع عنه وحتى أن كان الاعتقال لمجرد الشكوك في التصرفات والتحركات.
*ولعل اخطر ما في تلك الاتفاقية هو البند الذي يؤكد انه لا يحق لجانب واحد أن يلغي هذه الاتفاقية أي يمنع إلغائها من جانب واحد فهم اخذوا في حسابهم الحكومات العراقية المقبلة في الأزمان اللاحقة وعليه فقد قطعوا الطريق عليها وباختصار وفيما لو مررت تلك الاتفاقية فان هذا يعني أن أي مسئول عراقي وبعد تمرير الاتفاقية مباشرة ولمدة 100 عام سيكون أجير عند الأمريكيين مع ما في الأمر من امتهان للكرامة العراقية.
والشاهد انه اذا كانت الاتفاقية قد تعثرت داخليا ولا تزال فان حظوظها داخل امريكا وبعيدا عن ادارة بوش ليست افضل حالا او اسعد حظا وبخاصة من قبل المشرعين الوطنيين الذين وجهوا اتهامات حادة لإدارة بوش من جراءها... ماذا عن ذلك؟
في رسالة إلى وزيرة الخارجية كونداليزا رايس ووزير الدفاع روبرت جيتس اتهم أربعة أعضاء من لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ إدارة بوش بنقص وعدها بالحفاظ على الشفافية مع الكونجرس فيما يتعلق بعلمية التفاوض وأفادت الرسالة المدعومة من الحزبين أن الإدارة كانت قد التزمت بالتشاور عن كثب مع الكونجرس في كل مرحلة من مراحل العملية ولكن حتى الآن لم تقدم سوى تفاصيل ضئيلة بشان الاتفاقية مع العراق
في هذا الصدد يقول باتريك كلاوسون نائب مدير معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى quot; نحن لدينا عدد كبير من هذه الاتفاقات والعديد منها مبرم مع بلدان لاشك في ممارسة سيادتها الكاملة على شؤونها الخاصة ولكن في الوقت ذاته فان مثل هذه الاتفاقات تكون في اغلب الأحيان محط جدل quot;.
فيما يذهب quot; واين وايت quot; المحلل السابق للسياسات العراقية في وزارة الخارجية الأمريكية للقول quot; إذا كانت المسودة الأولى لهذا الاتفاق تحمل أي تشابه مع ما سمعناه وإذا كان هناك أي إشارة حتى لقواعد عسكرية طويلة الأمد فأنهم quot; أي الإدارة الأمريكية quot; أشخاص صم حقا. ولأخذ فكرة عن كيفية مضي هكذا خطة فان كل ما على الإدارة فعله هو النظر إلى عواقب معاهدة بورتسماوث عام 1948 بين بريطانيا والعراق التي اشتملت على حقوق إنشاء قواعد على حد قوله ويضيف السيد وايت الباحث في معهد الشرق الأوسط في واشنطن قائلا quot; لقد حدث أعمال شغب واسعة وقتل أناس كثيرون فتراجعت الحكومة عن التزامها quot;.
ويبقى التساؤل ما هي الإلية التي ستعمد إليها واشنطن للضغط على العراق والعراقيين للقبول بالاتفاقية؟
الإجابة تعود بنا من جديد إلى ما أشارت إليه الاندبندنت البريطانية في ذات العدد الذي سربت فيه أنباء الاتفاقية الأمريكية الجديدة ويتمحور حول أن الإدارة الأمريكية تحتجز نحو 50 مليار دولار من أموال العراق في بنكها المركزي في نيويورك وتستخدمها للضغط على العراق وإرغامه على التوقيع على معاهدة تحالف امني استراتيجي.
ويرى الكثير من المراقبين أن الإدارة الأمريكية تستخدم ورقة الأموال العراقية المجمدة بموجب قرارات قضائية أمريكية ضد العراق للضغط على العراقيين من اجل القبول ببنود المعاهدة الأمنية والعسكرية التي تقيد العراق وتجعله تابعا لأمريكا باستمرار وتشير الصحيفة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على تهديد العراق بخسارة 40% من احتياطياته من العملة الصعبة لان استقلال العراق مازال مقيدا بميراث الحصار الدولي المفروض عليه منذ عام 1990 بموجب البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من تصريح المستشار الأول لوزيرة الخارجية الأمريكية ديفيد ساترفيلد للمراسلين في العاصمة العراقية بغداد أن الاتفاقية الثنائية طويلة الأمد بين العراق والولايات المتحدة التي يجري التفاوض حولها حاليا ستكون تنفيذية وقانونية دولية بين طرفين ولن تشمل بنودا تتطلب موافقة مجلس الشيوخ الأمريكية الا ان هذا الكلام لا يجد قبولا عند غالبية المحللين السياسيين الأمريكيين الذين يؤكدون على أن مغزى الاتفاقية في الحقيقة هو تكريس النفوذ الأمريكي في العراق والمنطقة ككل وحرمان الشعب العراقي من أي أمل في التمتع باستقلالية حقيقية على المدى البعيد كما أن القول بان الاتفاقية لم تحوي بنودا تتطلب موافقة مجلس الشيوخ الأمريكي عليها هو أمر في حد ذاته مثير للقلق والخوف والسخط حتى عند الأمريكيين إذ يترك الباب مفتوحا على مصراعيه لاحتواء الاتفاقية على بنود تتم بعيدا عن أعين مندوبي الشعب غير أن الرئيس الأمريكي الذي يمضي قدما في إدارة تعجل بالتوقيع على المعاهدة يبدو أن له مصلحة شخصية أكثر من مصلحة الولايات المتحدة ذاتها في إرغام العراقيين على التوقيع... ماذا عن ذلك؟
ربما لا نماري أن قلنا أن الرئيس بوش لم يحقق أي إنجاز في سنواته الثماني اللهم إلا أجادته لإشعال الحروب حول العالم إضافة إلى تكريس وتعزيز كراهية الولايات المتحدة الأمريكية حول العالم ولهذا فانه يحرص كل الحرص على عقد تلك الاتفاقية قبل نهاية العام الحالي لتبدو وكأنها أنجزت قبل نهاية مدة حكمه.
والمقطوع به أن الكاتب الأمريكي quot; وليام فاف quot; قد لخص المشهد الآني ما بين واشنطن وبغداد في قولته quot; أن واشنطن ترغب في أن تكون لها صلاحيات ضخمة في العراق وترغب في الاستئثار بقطعة كبيرة من اقتصاده وتجارته النفطية وامتلاك قواعد ومنشات في المنطقة الخضراء quot; ويشير فاف الى أن حق أمريكا القانوني في البقاء في العراق سينقضي مع نهاية هذا العام بانتهاء التفويض الذي كان ممنوحا لها من قبل مجلس الأمن وهو ما جعل البعثة الأمريكية في ذاك البلد تدفع بقوة على مدى عدة شهور للحصول على قرار جديد من مجلس الأمن، يخول لها البقاء هناك لمدة غير محددة ولان احتمالات استصدار قرار جديد من مجلس الأمن أمر غير مضمون فلهذا كان اللجوء إلى فكرة المعاهدة التي تضمن كما أشار للاستئثار بقطعة كبيرة من اقتصاد العراق وتجارته النفطية وامتلاك قواعد ومنشات في المنطقة الخضراء بحيث تشبه تلك المنطقة في النهاية quot; المنطقة الدولية quot; في الصين في القرن التاسع عشر، والتي كانت عبارة عن منطقة كبيرة لا يطبق فيها القانون الصيني ولها شرطتها الخاصة ومحاكمها وضوابطها الجمركية.
هل سينجح مخطط إدارة بوش في احتلال العراق مائة عام قادمة؟ الجواب عند العراق والعراقيين حكومة وشعبا مللا ونحللا، أطيافا دينية وعرقية وعندهم فقط وليس عند احد أخر فهل سيسمحوا للأمريكيين بعودة الاستعمار المقنع لاحتلالهم من جديد؟
كاتب مصري
[email protected]