عكس المؤتمر الخامس للتجمع الدستوري الديموقراطي، الحزب الحاكم في تونس، الرغبة الواضحة في المحافظة على المكاسب التي تحققت في البلد منذ السابع من نوفمبر من العام 1987، تاريخ وصول الرئيس زين العابدين بن علي ألى السلطة. كان هناك بحث واضح في كيفية الدفاع عن هذه المكاسب التي تؤكدها الأرقام الحقيقية المثبتة دوليا وليس الشعارات الفارغة التي لا تطعم جائعا ولا تبني مدرسة أو ترفع مستوى البرامج التعليمية في كل الحقول أكان ذلك عند المستوى الأبتدائي أو في الجامعات نفسها. تلك الجامعات التي يفترض أن تخرج مثقفين حقيقيين وليس مجرد أشباه أميين يختطفهم الفكر الأرهابي الذي يستخدم الدين لأغراض سياسية بعيدا عن كل ما له علاقة بالحضارة والتقدم والتطور وحقوق المرأة والأتكال على العنصر الشاب في المجتمع.
في سياق البحث عن كيفية الدفاع عن المكاسب التي تحققت وتطويرها، كان طبيعيا أن يترشح الرئيس بن علي في السنة المقبلة لولاية جديدة وذلك في أطار أنتخابات ترتدي طابعا تنافسيا بين الأحزاب القائمة. كان ترشيح الحزب الحاكم للرئيس التونسي طبيعيا وذلك لسبب في غاية البساطة يتمثل في ان الرجل لا يزال قادرا على متابعة تنفيذ البرنامج الطموح الذي يحمله والذي يستهدف نقل تونس من مصاف الدول الصاعدة ألى مصاف الدول المتقدمة. لماذا التخلي عن قائد السفينة متى كان ناجحا، خصوصا في ظروف دقيقة تمر بها دول المنطقة والعالم؟ لماذا التخلي عن قائد السفينة في بلد تواجه تجربة التحديث والتطوير فيه عواصف عاتية في مقدمها الأرهاب المتستر بالدين الذي يهدد كل دول شمال أفريقيا؟ في النهاية لا شيء ينجح مثل النجاح. وما قد يكون أهم من النجاح ذلك الأعتراف بأن المرحلة المقبلة تحمل تحديات كبيرة لا مفر من مواجهتها. هذه التحديات ليست سرا. ولذلك ورد في البيان الختامي الصادر عن مؤتمر الحزب الذي أنهى أعماله السبت الماضي والذي يسمى في تونس quot;اللائحة العامة للمؤتمرquot;: quot;أن المؤتمرين أذ يدركون دقة الظرف الذي ينعقد فيه المؤتمر وما يتميز به من تقلبات عالمية من أبرز سماتها الأزمة المالية العالمية وأحتدام المنافسة في ضوء عولمة الأقتصاد وتحرير التجارة الدولية والأرتفاع غير المسبوق لأسعار المحروقات والمواد الأساسية في الأسواق العالمية، فأنهم يؤكدون بكل قوة وأصرار عزم المناضلين والمناضلات على بذل قصارى الجهد لرفع التحديات المطروحةquot;.
هناك أنجازات وهناك تحديات. وهناك طموحات. هناك وعي تام لماهية التحديات المرتبطة بالظروف الأقليمية والدولية التي تستوجب بقاء تونس متأهبة في الدفاع عما تحقق بما في ذلك متابعة التنمية. ولكن من كان يصدق أن تونس ستتمكن من مضاعفة حجم الناتج المحلي ست مرات بين العامين 1986 و2007 وستحافظ على نسق نمو متواصل تجاوز الخمسة في المئة سنويا على الرغم من الموارد الطبيعية المحدودة؟
لدى الحديث عن تونس والوضع الراهن فيها، لا بدّ من العودة قليلا ألى خلف، ألى العام 1987 والأعوام القليلة التي سبقته. كانت الجمهورية في تلك المرحلة على كف عفريت. كانت السنوات الأخيرة من عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة بمثابة كارثة على البلد الذي أستقل في العام 1956. كان رجلا مريضا يمتلك تاريخا مجيدا يحكم البلد. كان الخيار واضحا بين الفوضى التي سعى المتطرفون ألى أستغلالها ألى أبعد حدود من جهة وبين أعادة الأمور ألى نصابها من جهة أخرى. أنقذ بن علي الجمهورية عندما قام بحركته وأنقذ بورقيبة من المحيطين به الذين كان يمكن أن يودوا بالبلد وبالأنجازات ذات الطابع الحضاري التي حققها بورقيبة على رأسها حقوق المرأة.
في النهاية، قاد بن علي تونس ألى شاطئ الأمان. تحولت تونس واحة سلام وأمان وأستقرار فيما الحرب الأهلية دائرة في الجزائر وفيما كانت الجماهيرية الليبية تتعرض لعقوبات دولية نتيجة حادث لوكربي الأرهابي الذي سيتبين يوما أنها غير مسؤولة عنه. كان من السهل أمتداد الحالة الجزائرية ألى تونس. كان هناك من يخطط لذلك لولا الأدراك التام لضرورة التصدي الباكر لظاهرة الأرهاب والأحزاب التي تتلطى بالدين للأنقضاض على السلطة والأطاحة بكل ما تحقق بدءا بالقوانين التي تحفظ للمرأة حقوقها وأنتهاء بالبرامج التعليمية المتطورة مرورا بعملية تطوير النظام السياسي على نحو تدريجي بما يكرس التعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة بناء على الرغبة الشعبية في ذلك. والملفت هنا أن الدستور، والتعديلات التي أدخلت عليه، يؤكد مبدأ التعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة. صحيح أن بن علي يترشح بناء على رغبة حزبه لولاية خامسة، لكن الصحيح أيضا أن الباب مفتوح أمام منافسيه للتقدم بترشيحاتهم من دون عوائق تذكر.
يبقى أن هناك ثغرات في تونس. من يعمل لا بدّ أن يخطئ. من بين الثغرات عدم قدرة الأعلام على أن يكون في مستوى التجربة في بعض الأحيان. ولكن لا مفر في النهاية من الأعتراف بأن تونس يمكن أن تكون قابلة على مزيد من التطور والأنفتاح بفضل نمو الطبقة المتوسطة الكبيرة فيها. صارت هذه الطبقة ذات وجود طاغ وصارت تمتلك مصلحة في المحافظة على الأنجازات التي تحققت بما في ذلك ضبط النمو السكاني وتملك المواطن لمنزله. هذا ليس مجرد كلام، الأحصاءات تظهر أن نسبة ثمانين في المئة من التونسيين ينتمون ألى الطبقة المتوسطة. لا خوف على بلد فيه طبقة متوسطة كبيرة. لم تتقدم دول أوروبا ألا بعدما صارت فيها مثل هذه الطبقة المتوسطة. الطبقة المتوسطة تعني الأعتدال والأنفتاح والليبيرالية والحرية والتطور والأستقرار على كل الصعد. كلمة الأعتدال هي التي تتردد أكثر من غيرها في الخطاب السياسي التونسي. الأعتدال بمعنى الأبتعاد عن كل ما من شأنه جرّ تونس ألى خلف. ربما كان الرقم الذي يدل على التطور الذي تشهده تونس ذلك المتعلق بأستخدام شبكة الأنترنت. في العام 1997، كان عدد مستخدمي الأنترنت لا يتجاوز العشرة آلاف شخص. عددهم الآن مليون وثمانمئة ألف مستخدم. ولذلك ليس بعيدا اليوم الذي يمكن أن تصبح فيه تونس دولة متقدمة. أنه طموح قابل للتحقيق بعدما أختارت تونس التطور في ظل التمسك بالأستقرار... والمحافظة على الأعتدال. الأعتدال في كل شيء لا أكثر ولا أقلّ.