-1-

لو تخطينا - ولو بصعوبة - أحزاننا العميقة لرحيل الشاعر الكبير محمود درويش، الذي رحل بالأمس، وكان لا يزال لديه الشيء الكثير

اقرأ أيضا:

محمود درويش: الشاعر الذي خدشته المؤسسة

في رحيل محمود درويش

عباس ينعي محمود درويش ويعلن الحداد في الاراضي الفلسطينية

ليقوله عن فلسطين، لأدركنا أن فلسطين كلها، كانت تعيش في قلب هذا الشاعر، أكثر من أن يعيش هذا الشاعر في قلبها الممزق، الذي مزقته إسرائيل من جانب، ومزقته القيادات الفلسطينية نفسها بخلافاتها، وأطماعها، وتنازعها على الزعامة الفلسطينية، بدءاً بالحاج أمين الحسيني، وانتهاء بمحمود عباس وخالد مشعل.

-2-

قلب محمود درويش؛ أو quot;مجنون الترابquot; كما أطلقتُ عليه في كتابي (مجنون التراب: دراسة في شعر وفكر محمود درويش، 1987) لم يعد يحتمل كل هذا التمزق، وكل هذه الأشلاء الفلسطينية المتناثرة، على كل الكرة الأرضية، من الفلسطينيين المنتشرين، في شتات بقاع الأرض.

لم يعد يحتملُ قلب الشاعر كل هذه المآسي والكوارث والويلات، التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني، في الداخل والخارج، فانتفض، وتوقّف. فليس هناك قلب شاعر، اتسع لمآسي أهله، وكوارث وطنه، كما أتسع قلب درويش.

فدرويش احتوى كل فلسطين في قلبه، بينما لم تحتو فلسطين الشاعر، التي كان يتنازعها الصهيوني من جانب، والسياسي الفلسطيني من جانب، والسياسي العربي من جانب ثالث، والسياسي الغربي من جانب رابع.

كانت فلسطين بمأساتها أكبر وأقوى، من احتمال قلب الشاعر، الذي انفجر فيها. فقد كان رحيل درويش منتظراً منذ زمن بعيد، وقبل أن يبلغ سنه السابعة والستين بكثير.

-3-

معظم السياسيين الفلسطينيين، ومعظم المثقفين الفلسطينيين، انصرفوا عن احتواء القضية الفلسطينية في عقولهم وقلوبهم وضمائرهم، وسلكوا طرقاً كثيرة للمتاجرة بالقضية من قريب أو من بعيد، فكانت فلسطين بالنسبة لهم الدجاجة التي تبيض ذهباً، في حين بقيت فلسطين حجراً صلداً، في قلب الشاعر درويش، منذ أن بدأ يكتب الشعر، قبل نصف قرن من الزمان، ولم يتوقف.

-4-

كان درويش واحداً من الشعراء العالميين القلائل، الذي تخطى فضاءه الفلسطيني، وفضاءه العربي، وأصبح شاعراً عالمياً، وحوّل القضية الفلسطينية من قضية إقليمية، إلى قضية إنسانية عالمية حزينة. فمن خلال علاقة الفن بالحرية والالتزام، ونظرة درويش لهذه العلاقة، وتطبيقاته الشعرية عليها، ندرك إلى أي حد ساهم هذا الشاعر في تعميق هذه العلاقة، من خلال دور فني وفكري مُميز. كما ندرك الدور الذي قام به درويش كشاعر ثوري، رفيع المستوى، استطاع من خلال فنه الراقي، أن يوازن بين الفن والثورة موازنة دقيقة، من خلال وعي راشد لكل منهما.

-5-

لقد كان أدب النضال العربي من خلال شعر درويش أدباً فاعلاً، وليس أدباً متفرجاً، أو مُزيّناً، أو مؤرخاً، أو مُسجّلاً.

كان فعله هو الثورة ذاتها، من خلال جماليات راقية.

فالثورة لا تُثرى إلا بالجمال الفني الراقي الرفيع.

ولا يضرُّ الثورة، قدر ما يضرها الفن الرخيص والسطحي.

والشعر الثوري كان في مفهوم درويش، سابقاً للفعل الثوري، وليس نتيجة له، لأنه كان هو البشير بالثورة.

فالشعر الثوري مستمر في حركة التاريخ، لا يتوقف، ولا ينتهي عند حد، لأن البشرى مستمرة.

والشعر بشارة الغد، وليس تأريخاً للأصل.

وبذا، أصبح الشعر سيفاً، وليس وردة تُعلّق في عروة حامل السيف.

-6-

كان تراب فلسطين هو الشعر، بالنسبة لمحمود درويش.

كانت كلمات درويش تولد من محارات فلسطين.

كانت كل كلمة من كلماته، لها رائحة البرتقال حيناً، ورائحة الياسمين حيناً آخر، والدم حيناً ثالثاً.

كانت كل كلمة شعرية قالها درويش، تأخذ شكل الحجر الفلسطيني، وشكل الصفصافة، وشكل البحر.

كان درويش في قبضة القضية الفلسطينية، يشعر بأنه موجود، وأنه كائن حي.

فقد كانت فلسطين بالنسبة لدرويش تجسيد لكل الأزمنة والأمكنة. ومن دونها، كان الشاعر خارج المكان، وخارج الزمان. وكان يفقد توازنه الروحي والعاطفي. وبدونها يظل الشاعر في قاعة الانتظار.

ويبدو أن تفتيت فلسطين على هذا النحو الذي نراه الآن، هو الذي فتت قلب درويش، وأوقفه عن الخفقان مبكراً.

فرحل مجنون التراب، ولكن بقيت حفنات من تراب فلسطين، متناثرة في الفضاء الإنساني كله.

السلام عليكم.