كل الذين كتبوا عن محمود درويش كان لا بدّ أن يكتبوا لأنهم اعتادوا أن يكتبوا إليه ويكتبوا عنه بذات الكثافة، كثافة أترك تأويلها لأصحابها أنفسهم، وأتلفّت ذات اليمن وذات اليسار وأضربُ كفّاً بكفّ، أبحثُ عن طريقة أُخرِجُ بها من حلقي تلك الدمعة التي تحجّرتْ وأقذفها في بؤبؤ عين فاجرة لم يخجلها أن تتصل بي لتزفّ بُشراها وتهنئتها بموت درويش، كم صُعقت لتلك الدعابة الوقحة، أيعقل أن نكون أشرارا إلى هذا الدرك؟ ومتى كان الموت مناسبة للتهنئة؟ أسأل بذهول وصمت، لم يكن لدي متسع للرد، وحدها كانت الشهقة التي شقّت تماسك أنفاسي أبلغ من أيّ تعقيب.
ورحت أبحث عن درويش بعيدا عن رغوة الكلام الطافح عبر المحابر والمنابر هنا وهناك.
عن درويش الفارس الذي كنتُ آمل أن تطول معه مناوراتي لأخسره أكثر فأكثر، لأخسره بجدارة، نقيض كل الذين حاولوا أن يقبضوا عليه كوسام فخري، وأن يتواصلوا معه كشاعر شرف، بعدما عرفتْ جلّ الامتيازات طريقها إليه، كنت أسعى دائما لأخسره بصدق خشية أن أكسبه كما غيري بنفاق، لأخسره كي لا أكون رقما زائدا بين جمهوره، أو اسما مضافا في دفتر العناوين، أو وجها عابرا في محطة إقلاع لنجوميّة مُستعارة، أو تظاهرة شعرية لهبوط المتزاحمين.
منذ أسبوع كان أحد الصعاليك بزيارة عابرة لبيروت التقينا للاشيء، إلا ليُفاخر أمامي بصداقة محمود كامتياز لا يُضاهى، وكيف كان لا يحلو لمحمود دخول دمشق إلا ليراه، ويجلس معه ليقاسمه البوح والخمر والشعر والنساء و النميمة، وكأنّ هذا الصعلوك وحده لا سواه ممن عرفهم محمود، ولكن قبل هذا كان هناك سواه هنا في بيروت يتشدّق بذات الحميميّة عن محمود بل يضيف ويفيض ويزبد ويزيد، وقبل سواه كان هناك آخر وآخر وأخرى، وغيرهم كثيرون، يتشدقون عن محمود الذي لم تلد النساء كمثله، وكنت دائما أعيد ذات السؤال، أين كنتم جميعا؟.
حين رحل محمود عن بيروت التي أحبّها بشغف، وأخرِجَ عنوة منها كأي فلسطيني آخر عبر الشاحنات المكتظة بالمُبعدين قسرا والخائبين على الدوام، بمشهد موجع وبقلب كسير؟!!
ودائما لا أحظى بأي جواب.
أقرأ لquot;عبد الباري عطوان quot; في القدس العربي مستشهدا بظرف عصيب من الأوقات عاشه محمود درويش في مغتربه، ولا أعلم في هذا المقطع إن كان ثمّة شهادة أم إشادة بدرويش، فكم منا يعيش أياما وأعواما بحرمان من زيارة ضرورية لعيادة طبيب وليس لمقهى أو مطعم وحسب، ويُعاب عليه مجرّد التفكير في إعلان وجعه أو ضنكه في أسوأ الأحوال، يقول عطوان على لسان درويش:quot;لا أملك ما يجعلنى أخرج إلى القهوة أو المطاعم فقطعاً سيلتف حولي المحبون، ولا استطيع دفع الفاتورة. شعرت بالصدمة، فهذا الشاعر الكبير لا يجد من يهاتفه، وربما أحسَّ بهذا التساؤل في ذهني، وقال: الأمر بسيط جداً: لا نقود.. ولا نفوذ.. ولا يهود.. وشرح لا نقود لأن الرئيس عرفات أوقف مخصصاته، ولا نفوذ أي لم يعد عضواً في اللجنة التنفيذية وقريباً من الرئيس مما يمكنه من حل مشاكل المحتاجين أو توظيف بعضهم، وأخيراً لا يهود.. أي أنه ليس منخرطاً في المفاوضات التي كانت على أشدها، حتى يكون في قلب الحدث الاعلامي والسياسي.quot;.

عندما أصدرت كتابي اللغم quot;إسرائيليات بأقلام عربية quot;، وحمل تلميحات مماثلة وموثّقة للمُدرج أعلاه، انفجرت جميعها بي وحدي، وظلّ بعدها التفجير مستمرّا بهمّة الكثيرين الذين عقدوا العزم لإيذائي، وكان من فضائل هذا التفجير المُتصاعد فَرْز الجميع وغربلتهم دون تميز، فكثيرون جدا ممن همسوا في أذني مباركين مؤيدين، وكانوا يخشون جلّ ما يخشون أن يرشح صوتهم خارج سمعي ويلتقطه أحد الفضوليين ويوصله إلى درويش أو أزلامه البارين في كل مكان، وكثيرون أيضا ممن توفرت لديهم الصلاحية كانوا قد أعلنوا تصفيتي معنويا بدمٍ بارد، وهم يزايدون على غضب درويش التلقائي الآني العفوي الآفل، بغضب متكلّف ومستمر ومزمن كعاهة مستديمة أعاقتهم عن تقبّل حتى تعازيّ الحقيقيّة وليست الحارّة وحسب، داخل خيماتهم المنصوبة على أطلال الشاعر بتكلّف بالغ لتدوين أرصدة الندب وأسهم البكائيات.
أذكر جيدا منذ أكثر من نحو عام تقريبا حاورني quot;باسل الطراونة quot; على النت حوارا طويلا وحصريا لوكالة quot;معا quot; الإخبارية الفلسطينية
http://www.maannews.net/ar/index.php?opr=ShowDetailsamp;ID=78660
تحدّثنا طويلا عن إسرائيليات بأقلام عربية، وفي نهاية الحوار سألني سؤالا من أهم ما سُئلت من خلال عشرات الحوارات التي دارت في فلك ذاك الإصدار ولا تزال، وبلفتةٍ ذكيّة من محرر الموقع أعتمد صيغة السؤال والإجابة عنوانا عريضا للحوار تقدّمته صورتي التي قُرنت بصورة محمود درويش بندّية ساحرة اعتزّ واعتدّ بها حتى اللحظة، قائلا: quot;
س : قلب الشاعر كما هو معروف كبير، وأشعر بوضوح بإجابتك استاذه غادا فمن خلال وكالة معا غادا السمان ماذا تقول لمحمود درويش وهل تعتذري عن إصدارك إسرائيليات بأقلام عربية؟

غادا : قبل كل شيء أنا أدين بالاعتذار لغادا فؤاد السمان معكم وأمامكم
ولا أخفي أنني ككل المخلوقات العربية الصابرة على مضض، أتساءل ترى هل ينبغي أن نواصل عنادنا من أجل العناد فقط أم ينبغي أن نتحوّل مع من تحوّل لنخرج من عنق الزجاجة وزجاجتنا غير قابلة للكسر، لكنها قادرة على تحطيمنا إن أرادت،
المشكلة أنّ النضال الحقيقي لم يفقد مشروعيته لكنه بكل تأكيد قد فقد quot;شرفه quot;، وشرف الفكرة أهم من الحفاظ على الفكرة ذاتها برأي، لأن النضال لم يعد مبنيّا على أسس ومُثُل عليا، بل صار رديف الشوارع، وكل من يحلم بquot;زعامة quot; بوسعه أن يتحول إلى مناضل، يلتقي في يوم من أيام سعده بمموّل كبير في هذا البلد أو ذاك، يضمن له جاذبية خارقة تلملم كل من هبّ ودبّ مرّة باسم الوطن، ومرّة باسم الدين، ومرّة باسمنا، ومرّات عديدة بلا اسم وبلا مبرر .
ثمّ أن اعتذر للشاعر محمود درويش يشرّفني أن أعلنها، ولكن أخشى أن يعتبرها تحديّا جديدا وهو القائلquot; لا تعتذر عما فعلتquot; . quot;

ترك هذا الحوار وحسب رأي باسل الطراونة الكثير من ردود الأفعال في الداخل الفلسطيني، وبدأ يسلسل لي في لقاء جمعنا في بيروت أسماء الذين حفظ تعليقاتهم وراح يخبرني بها تِباعا، قلت مقاطعة: ومحمود؟!..
قال: التقاه مدير الوكالة في بيت لحم وأعطاه الرابط وقرأ محمود الحوار، وابتسم. لم أسأل المزيد، واكتفيت بما فهمت من ابتسامة محمود، فهي ابتسامة الرضى المضمر في القلب
الشاعر، وتضامنت وقتها معه بابتسامة ضمنية خبأتها في قلبي الشاعر علّ زمنا أبيضا يجمعني بمحمود، وصدَق حدسي، فلن نجتمع هنا، في عجقة المتناحرين على الضوء والتدليس والفرص. وسيكون لنا قطعا، زمنا آخر هناك، نلتقي فيه بعيدا عن كل المستزلمين الذين صاروا يعرفون محمود التسعينات، محمود العائد إلى الصورة محمّلا بالجوائز والأطروحات النقدية، محمود العناوين العريضة للجدل والالتباسات، محمود الجولات العالمية والعلاقات، محمود العرّاب الذي قدّم quot;المتشاعرين quot; الجُدد ومن سبقهم في التدافع للحصول على تأشيرة لمحفل يكرّس الشخصانية لا الشعر.
انسحب محمود وأنا في عزّ احتمالاتي وعزلتي ووحدتي وانقلاباتي السخية التي بدأتها على كل شيء بما فيها نفسي، وشعرت بيتم ذاك quot;الحصان الذي تركه وحيدا quot; فكم كنتُ وحيدة وحزينة قبل غيابك محمود وكم سأكون وحيدة وحزينة بعد غيابك.
تراكمت في رئتيّ لغة العزاء، وتورّمت بسواد الحالة، لم أرغب في كتابةٍ تشبه سطور كل الذين كتبوا، وبالتأكيد لدي زاوية خاصّة أطلّ بها لأحييّ محمود تحيّة أولى على حده وليس الأخيرة، شاهدها الأول quot;عبد القادر الجنابي quot; المتفرّد مقاما وحضورا خارج المزاد، والواثق حبرا وحروفا بكل تقدير، والجدير حبّا خارج الرياء، حين قرأته في إيلاف، رفعت له كلمة عزاء مقتضبة، مراعاة لوقته الذي يضيق بحجاج إيلاف والمحتجين عليها والمحتاجين لها، وهي الأبرز في تاريخ الإعلام بكل وسائله ووسائطه.
وشاهدها الأخير quot;إلياس خوري quot; الذي أفرج عن كلّ حبيسٍ في داخلي، بكلمة عتاب صادقة استجرّت مني سيلا رديفا لذاك الصدق، حين هاتفته لا ألوي ماذا أقول،
كان صوته مثقلا بالحزن على محمود، قلت: سأكتب عن اللحظة التي جمعتنا لنختلف حول محمود في معرض الكتاب الدولي في بيروت، يوم أغدقت عليّ لومك وأنت تعرّج على دار الهادي لتحمل من كتابي quot;إسرائيليات quot; نسخة لكَ ونسخة لمحمود، هل تذكرها؟.
قال: تقصدين الشجار الذي دار بيننا؟!.
باستدراك ولهفة عامرة أجبت: لم يكن شجارا، كانت محض حالة لا بدّ أن نمرّ بها. بلهجة نبيلة وعاتبة وطرية، قال: غادا لم تجرحيِ محمود وحده في كتابك، لقد جرحتنا جميعا.
رجوته أن يرحم هشاشتي، وقد تضعضع في داخلي كل اعتبار، وكل معنى، وكل رؤية، وكل قضية، وكل حلم، وكل هويّة، وكل انتماء، وكل غدّ، وكل ما كان، وأنا شاهد على عصر الخيانات العظمى، والمواجهات الرخيصة، والاستشهاد المجاني، والنضال الأرعن، والزعامات الهزلية، والمهاترات الطائشة بكل اتجاه، واحترام حقوق الحيوان الذي لم يعترف بفصيلتنا رغم كل المحاولات.
قال: اكتبِ إذا غادا وسيكون لنا لقاء قريب وحوار مشترك بالتأكيد يستحقه محمود.
يا لهيبة الحزن والحبّ والحميميّة التي رشحت من صوت إلياس، الصديق الأقرب إلى محمود في كل لبنان، أذكر لدى كل مناسبة تحتضن محمود في بيروت، كيف كان إلياس يعمل لأجل محمود بجهود جبّارة لتحضير الأنسب بما يليق بمحمود كشاعر وكصديق وكإنسان، وما إن تُفتح عدسة الضوء حتى يغيب إلياس وكأنه لم يكن شريكا بكل هذا الوهج أو ذاك السطوع، لم يستعر إلياس الصورة مع محمود عبر الشاشة الصغيرة أو على صفحات المجلات والجرائد ليباه بها في أي مناسبة، كما يتعمّد غيره أن يفعل في العادة.
فقط كان يؤمن بمحمود بحبّ وصدق، تماما كالذي يملكه لذاته المُبدعة.

www.geocities.com/ghada_samman
[email protected]