1من 2

مقدّمة وتاريخ أولي وتصحيح عنوان
1 : تعبتر معركة الخندق من المعارك الفاصلة في تاريخ السيرة النبوية، بسبب الكم الهائل الذي جيّشته قريش ويهود بني النضير، وما تلا ذلك من نتائج جوهرية في تاريخ هذه السيرة. وسمّيت بغزوة الأحزاب في القرآن الكريم لأن هناك أكثر من قبيلة عربية اشتركت في هذه المعركة المهمة،وقد نزل فيها وحي كريم.
أُختلف في تاريخ الغزوة كأكثر الغزوات، وهناك ثلاثة أقوال في هذه النقطة، أهمها أو أكثرها قبولا عند كتاب السيرة هو، ما ذهب إليه ا بن إسحق، والواقدي في مغازية، وعلى ذلك ابن سعد في طبقاته، والبيهقي في دلائل النبوّة، وابو عبيدة في كتاب الاموال، وابن حجر في شرحه فتح الباري، والبلاذري في أنساب الاشراف، وابن كثير في البداية و النهاية، والطبري، والمسعودي في التنبيه والاشراف، وغيرهم، فقد ورّخ هؤلاء الغزوة في سنة خمس للهجرة، شوال أو ذي القعدة، ولكن الأول أكثر حضورا عند القائلين أنها وقعت في سنة خمس للهجرة.
لندع توقيت الغزوة ونتفق أنَّها كانت في شوال سنة خمس للهجرة....
2: ولكن لماذا يقول كتَّاب الزمن الإسلامي أنَّها من غزوات النبي الكريم؟! فهؤلاء يعددون الغزوات التي قام بها النبي العزيز ومن ثم يقولون : ومن هذه الغزوات : غزوة الأحزاب أو غزوة الخندق!
أليس ذلك خطأ منهجيا فاضحا؟
من بدأ؟
لقد بدأ الغزوة اليهود، يهود بني النضير بعد أن أقنعوا قريش، وشاركهم في ذلك غطفان وبنو أشجع وبنو سليم وبنو أسد، فهي غزوة يهودية نضيريِّة مُضريِّة بشكل عام وقريشيِّة بشكل خاص بإعتبار أن قريش من أقوى قبائل أو عشائر مضر!!
عدّت غزوة الاحزاب، غزوة الخندق من دلائل التاريخ الدموي للإسلام في أعز فتراته، أي فترة النبوة الكريمة، فيما هي غزوة يهود بني النضير، وعشيرته مضر، هي غزوة طرف ديني وطرف عشائري ضد محمّد، وليست غزوة محمّد ليهود بني النضير أو قريش أو بقية حلفاء الغزوة الإعتدائية.
إنها عقدة المؤرخ العربي لتشكيل زمن إسلامي...

تساؤلات البداية

1 : بداية التأسيس!
في سيرة ابن هشام : ((... حدّثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير بن عروة بن الزبير، ومن لا أتهم، عن عبد الله بن كعب بن مالك، ومحمّد بن كعب القرظي، والزّهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، وغيرهم من علمائنا، كلهم قد أجتمع حديثه في الحديث عن الخندق، وبعضهم يحدّث ما لا يحدّث به بعض، قالوا : إنّه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود، منهم سلام بن أ بي الحٌُقيق النضري، وحييّ بن أخطب النضري، وكنانة بن أبي الحُقيق النضري، وهوذة بن قيس الوائلي، وابو عمار الوائلي، في نفر من بني النّضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزّبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجوا حتى قدِموا على قريش مكّة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إنا سنكون معكم عليه، حتى نستأصله، فقالت لهم قريش : يا معشر يهود، إنّكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصْبحنا نختلف فيه نحن ومحمّد، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه...
قال : فلمّا قالوا ذلك لقُريش، سرّهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا لذلك وأتعدوا له، ثم خرج أولئك النفر من يهود، حتى جاؤوا غطفان، من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأ خبروهم أنّهم سيكونون معهم عليه، وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك، فأجتمعوا معهم فيه )) 1هذا المقطع يرويه الطبري بنصِّه تقريبا عن ابن اسحق ،وهي رواية مرسلة كما هو و اضح، وإن من مشاكلها عدم وجود مائز من شأنه يساعدنا على فرز كلام كل شيخ من شيوخ ابن إسحق عن غيره، ذلك أن ابن إسحق يقول صراحة أن حديث بعضهم غير حديث الآخر، ممَّا يعني أن الرجل تصرف بالنصوص حسب اجتهاده.

2: يهود بني النضير / البطولة المذمومة!
من الواضح أن يهود بني النضير يحتلون موقع البطولة / المذمومة / في هذا النص من ثلاث جهات : ــ
الجهة الأولى : إنّهم نجحوا في تجييش الأحزاب ضد محمّد.
الجهة الثانية : إنّهم أهل معرفة ودين وكتاب متميزون على غيرهم بما في ذلك قريش وعلى رأسها أبو سفيان الذي كان عمدة قريش في وقته.
الجهة الثالثة : إنّهم استطاعوا أن يتحايلوا على أبي سفيان بتغليب دينه على دين محمد صلى الله عليه وسلم.
ترى هل هذا الكلام من هذا المقطع هي من صناعة ( محمّد بن كعب القرظي )؟ ثم تسرّب بشكل خفي ودقيق في وسط المتحدثين وأوساط العامّة؟
هل نستطيع القول إنّ :( محمّد بن كعب القرظي ) هنا يريد الإ ساءة إلى بني النضير الذين كانوا يناصبون قومه العداء ويحسدونهم مكانتهم الاقتصادية والدينية والاجتماعية؟ أي هو المسؤول عن الجزء المهم من الرواية الذي يؤكد أن يهود بني النضير هم أبطال العملية من البداية؟
هل يمكننا الافتراض بأنها ا صناعة هذا اليهودي القرظي نكاية بيهود بني النضير، ذلك أن بني النضير كانوا أصحاب حظوة على غيرهم من اليهود، فليس لغيرهم ما لهم، من المال والقوة والمكانة الإجتماعية، فقد كان يهود بني النضير ( سرّهم )! كما ينقل المؤرخون منهم الواقدي في مغازية3.
لقد أخبرنا ابن إسحق أنه دمج النصوص بعضها ببعض، من دون أن ينسب لهذا أو ذاك من شيوخه ما حدّثه به مباشرة، فهل هذه الفقرة من النص هي من ( إختلاق ) محمّد بن كعب القرظي لإبن إسحق؟
نقرأ في دلائل البيهقي ما يلي : (( أخبرنا أبو عبد الله الحافظ... حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحق قال : حدّثنا يزيد بن رومان،عن عروة بن الزبير قال : وحدّثنا يزيد بن زياد،عن محمّد بن كعب القرظي وعثمان بن يهوذا أحد بني عمرو بن قريظة،عن رجال من قومه ــ أي قرظيون ــ قالوا : كان الذين حزبوا الأحزاب نفراً من بني وائل وكان من بني النضير حييّ بن أخطب، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وأبو عمار... خرجوا حتى قدموا على قريش فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنشطوا لذلك، فقالوا لهم : أنا سنكون معكم عليه، فقالت قريش : أنتم أحبار يهود وأهل الكتاب الأول والعلم بما أُختلف فيه نحن ومحمّد، فديننا خير أم دينه؟ فقالوا : بل دينكم خير من دينه... )) 4.
والرواية وإ ن كانت ضعيفة الإسناد حسب معطيات علم الرجال السنّي، ولكن هذا لا يعني عدم إمكان الاستفادة منها في تقريب وجهة نظر تدعي أن نص ابن هشام والواقدي المذكور حول دور يهود بني النضير الحاسم والقاطع هو نص قرظي أصلا، وراءه محمّد بن كعب القرظي.
ليس من المعقول أن تستجيب قريش لتحريضات يهود بني النضير في حربهم هذه على محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقريش عزّ العرب، ولهم علاقات خارجية وداخلية، فهي ليست قبيلة هامشية ، لا علم لها بالحرب ولا بمصالحها الاقتصادية والسياسية!
قلت وأقول إن المؤرخ العربي يصدر من أواليِّات مسبقة كثيرة وهو يصوغ نصّه التاريخي، منها مكر اليهود وذكاؤهم وحنكتهم وعلمهم، وقد أضّر هذا كثيرا في أمانة التاريخ ونزاهته، رغم أن هذا يعني باطنا، إن هذا المؤرخ يملك في د اخله رغبة جامحة لتأسيس زمن إسلامي، ولكنّه أخطأ الطريق في هذه النقطة.
هذا المقطع رواه الواقدي أيضا، مشيرا إلى هذا الدور الحاسم ليهود بني النضير، ولكن ليس من شيوخه محمّد بن كعب القرظي هنا، ولكن ما المانع أن أصل الخبر هذا من صناعة محمّد بن كعب القرظي ثم شاع بين أوساط المحدّثين والناس، فنقلوه هؤلاء إلى الواقدي؟
هذا وسوف نقوم بعملية قراءة سريعة لشيوخ الواقدي في هذه الرواية المهمة، الرواية التي تصادر كل ما عند قريش من تجربة وممارسة وحنكة ودراية.
لم تكن قريش تحتاج إلى تحريض بني النضير كي تواصل قتالها محمدا بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهي لم تعد تطيق وجوده بعد أن تمكن من طريقها التجاري إلى الشام، يهدد مصالحها وتجارتها وعزتها وقوتها وزعامتها، وأن أقصى ما يمكن أن نسنده ليهود بني النضير هو الدعم والتشجيع والتعاون.

القضاء اليهودي!
يحدّثنا نص ابن إسحق أن أبا سفيان استفتى يهود بني النضير حول المفاضلة بين دينه ودين محمد بن عبد الله، وكانت فتوى بني النضير لصالح دين أبي سفيان!
الواقدي في مغازيه يروي عن ستة وعشرين شيخاً من شيوخه هذه المعلومات مع زيادات أخرى على نص ابن إسحق، منها إن أبا سفيان شرع في بيان قواعد دينه ودين قومه بقوله :(( فقال أبو سفيان : أخبرونا عمّا أصبحنا نحن فيه ومحمّد، ديننا خير أم دين محمّد؟ فنحن عمّار البيت، وننحر الكُوم، ونسقي الحجاج، ونعبد الاصنام، قالوا : اللهم، أ نتم أولى بالحق منه، إنّكم لتعظّمون هذا البيت، وتقومون على السِّقاية، وتنحرون البُدن، وتعبدون ما كان عليه أباؤكم، فأنتم أولى بالحقّ منه )) 5
ومن حق المدقق أن يسأل ترى هل حقاً أن أبا سفيان كان يصدر في حربه محمّدا من بواعث دينية كي يسأل اليهود هذا السؤال؟ وهل حقا أن أبا سفيان كان يؤمن بعبادة الاصنام؟ وهل هو بهذه السذاجة كي يقتنع بجواب اليهود؟
ليس صعباً إكتشاف بعض التناقض أو الإختلاف بين نص ابن إسحق وبين نص الوا قدي في هذه النقطة بالذات، ففي نص ابن إسحق لم يبادر أبو سفيان إلى شرح قواعد دينه المزعوم، فيما كان اليهود وأثناء الجواب عن السؤال المركزي هم الذين بينوا وشرحوا هذه القواعد