التأكيد علي أن الإنسان لم يولد كاملا وعليه أن يسعي نحو الكمال، يبلور شعار عصر النهضة الأوروبية، وquot; الحداثة quot; الغربية بوجه عام، وهو بإختصار: quot; كن كاملا quot; . مما ساهم في إذكاء روح المغامرة والبحث والإستكشاف في قلب الإنسان الغربي حتي اليوم، كما كان أشبه بالدعوة إلي حرية تقرير المصير الإنساني.
أول من بلور هذه المعاني فلسفيا quot; مارسيليو فيتشينوquot; بترجمته لأفلاطون وأفلوطين معا، والمفاهيم الأفلاطونية المحدثة وخاصة مفهوم quot; النور الأصلي quot; الذي خلق العالم ولايزال يضئ الكون. غير انه عمد إلي quot; تأويل quot; فلسفة أفلوطين بما يجعل حياة الحاضر ذات قيمة ومعني، وتابعه في هذا الصدد فلاسفة النهضة إذ اتخذوا من quot; التأويل quot; منهجا، وطرحوا من خلاله أفكارهم الجديدة عن الإنسان والكون، وهذا المنهج يدين به فلاسفة النهضة العظام للفيلسوف العربي quot; إبن رشد quot;.
فالحياة في نظر فيتشينو تستنير بفضل نور داخلي أشبه بمصباح مرمري شفاف، ولكننا لانصبو مطلقا إلي هذا النور، لأن انعكاسه أكثر جمالا منه، فالإنعكاس هو الجمال، وعلي ذلك فإن كل ما هو مقدس وسام وغامض تنكشف لنا أسراره عبر جمال العالم، فالجمال هو شاهد النور، وهو أيضا يثبت أن العالم تحكمه قوي رائعة.
ويذهب فيتشينو إلي القول بأن صور الكائنات الإلهية التي انبثقت الروح منها إنما تحمل في ذاتها علل الاشياء الأدني وصورها التخطيطية، تلك الأشياء التي علي الروح الإنسانية أن تعيد خلقها كما لو كانت خاصة بها، فتكون الروح مركزا للكل ومالكة للكل. وبوسعها أن تتحول إلي هذا وأن تنفذ إلي ذاك، دون ان تغادر هذا أو ذاك، لأنها الرباط الحقيقي للأشياء، ومن ثم فإنه يمكن دعوتها بحق أنها مركز الكون ومحوره.
هذه النظرة الجديدة للإنسان في عصر النهضة الأوروبية تكتسب دقة أكثر مع فيلسوف آخر، وريث التقاليد المدرسية، هو quot; بيكو دي لا ميراندولا quot; ndash; Mirandola (1463 - 1494) الممثل القدير لأكاديمية فلورنسا، والذي تلقي تعليمه في جامعات quot; بادوا quot; و quot; باريس quot;، وكان ملما بالعديد من المصادر الأصلية لفلسفة القرون الوسطي لدي العرب واليهود.
وقد عنون كتابه، الذي يحوي مجمل فلسفته، بهذا العنوان المثير: quot; خطبة في كرامة الإنسان quot; ndash; Oration on The Dignity of Man، الذي يقول فيه: quot; أن الخالق الأعظم قد أعطي الإنسان مكانة مرموقة، كما أعطاه حرية الاختيار، ووضعه في وسط العالم ليري كل ما يحيط به من كائنات، ولما كان الإنسان لم يخلق كائنا ملائكيا ولا كائنا أبديا، فإن السبيل أمامه ميسر ليهبط بنفسه إلي درك الحيوانية أو يسمو بنفسه إلي الذروة السماوية، فمصيره ومستقبله رهن اختياره الحر quot;.
ولعبت الفلسفة الأرسطية مع الفلسفة الافلاطونية والنزعة الإنسانية دورا مهما في تأكيد هذه المعاني في ذلك المنعطف التاريخي المهم. فالفلسفة الأرسطية أو quot; الأرسطية الإنسانية quot; أو quot; الإنسانية الطبيعية quot;، أنطلقت أساسا من التقليد المدرسي للجامعات في القرون الوسطي. وهذا التعليم الأرسطي وتركيزه الأساسي علي المنطق والمنهج والفلسفة الطبيعية والميتافيزيقا، ظهر في إيطاليا منذ أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر مع quot; جان دي جاندون quot; والرشديين اللآتين، واستمر في إحداث تأثيرات مهمة داخل وخارج الجامعة وقتئذ.
بيد أن هناك اختلافا واضحا بين الطريقة التي فهم بها أرسطو في معظم جامعات باريس وجامعات إيطاليا، ففي باريس كان الفلاسفة الأرسطيون إما لاهوتيين أو طلاب منطق أو فلسفة طبيعية في كلية الفنون الحرة، وهم الذين كان عليهم أن يدافعوا عن أنفسهم ضد سلطة لاهوتية قوية.
أما الجامعات في إيطاليا فلم تكن بها لفترة طويلة كليات للاهوت، ومنذ البداية تطورت الأرسطية الإيطالية كإستعداد للطب فضلا عن استعدادها للاهوت، وكان هذا الفكر الفلسفي العلمي الموجه، مستمرا دون انقطاع في عصر النهضة وبلغ ذروته في القرن السادس عشر.
هكذا نجد أنه خلال عصر النهضة استمر أرسطو في بعث حياة فكرية قوية في الجامعات الإيطالية والتعليم الاحترافي للفلسفة. وظهرت الاتجاهات الإنسانية الجديدة في أكاديمية فلورنسا علي سبيل المثال وسط هذا المناخ الأرسطي، بل كان هناك تحالفا ضمنيا بين الأرسطية والنزعة الإنسانية.
فكل من quot; بومبوناتزي quot; و quot; فيتشينو quot; ركزا الاهتمام علي الإنسان ومصيره، وكلاهما أكد علي quot; الفردية quot; والقيم الشخصية، وبهذا المعني كان كلاهما quot; انسانيا quot;. ويكمن الخلاف الأساسي بينهما في أن إنسانية فيتشينو وأترابه في فلورنسا كانت ذات مسحة مثالية دينية، بينما كانت إنسانية بومبوناتزي quot; طبيعية محضة quot;، ترتكز إلي التقليد الطويل للأرسطية الإيطالية وتتفق مع روح العلم الطبيعي.
ومثل معظم المدرسين، بدءا من quot; توما الأكويني quot;، اعتبر الأرسطيون في جامعات إيطاليا الفيلسوف العربي quot; ابن رشد quot; الدليل الهادي والمفسر الأوحد لأرسطو، لكن علي عكس الأكويني، كانت لهم دوافع مختلفة بالنسبة للعديد من الموضوعات التي أتبع فيها أرسطو.
هذا الفهم المغاير لأرسطو، والبعيد عن الإيمان المسيحي، عرف ب quot; Averrosism quot; أو quot;الرشدية الإيطالية quot;، وقد صاحبت quot; الرشدية quot; دخول أرسطو إلي باريس في القرن الثالث عشر، منذ ان أتهم quot; سيجر الباربانتي quot; في عام 1270 وتلميذه quot; دي داسي quot; عام 1277.
ولأن الكنيسة روضت تماما في quot; بادوا quot;، وضمنت quot; فينسيا quot; حرية التعليم بعد عام 1405، بعد مقاومة عنيفة للأكليروس، فلم تكن الجامعات في إيطاليا معنية بشكل كاف quot; بالمسيحية quot; فكانت سيادة العقل الطبيعي وإنكار الخلق والخلود الشخصي ووحدة العقل، مع نتائجها اللاهوتية تدرس في الجامعات هناك التي كانت معادية لما فوق الطبيعة، أكثر من الطبيعة الإيجابية والإنسانية التي كانت تؤمن بها المدن الشمالية في إيطاليا القرن الخامس عشر، التي نصبت أفلاطون ضد أرسطو، وأصبح الخلود الشخصي هو الراية التي حارب في ظلها الإنسانيون من أجل مزيد من القيم الفردية والشخصية، مثلما فعل الأفلاطونيون تماما في فلورنسا، التي أعلنت حملة صليبية ضد quot; بادوا quot; الطبيعية.
من هنا فإن المتنافسين الفلسفيين العظميين في إيطاليا نهاية القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر ( ذروة عصر النهضة ) هما: إنسانية دينية وإنسانية طبيعية، حيث انتشرت الفلسفة الأرسطية الطبيعية بفضل الرشديين اللاتين، والتي أدت إلي الفصل بين اللاهوت والفلسفة في نهاية المطاف، علي العكس تماما مما سعت إليه الفلسفة الأفلاطونية أو الإنسانية المسيحية، وتلك نقطة هامة جدا لفهم الدور المحوري الذي لعبته الرشدية اللاتينية.
[email protected]