لا شك أن العالم يمر اليوم بأكبر أزمة اقتصادية عرفها منذ الانهيار الكبير للعام 1929. ولقد انتقلت العدوى بسرعة فائقة من أمريكا الى مختلف الأسواق المالية في باقي أنحاء العالم بحكم العولمة، كما انتقلت العدوى لاحقا من القطاع المالي إلى الأنشطة الاقتصادية الأخرى، وبذلك تحولت الأزمة المالية إلى كساد اقتصادي، أي حسب التعريف العلمي لهذا المصطلح عدم ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي على مدى ربعيتين متتاليتين (ستة أشهر).
بناءا على هذا التعريف، يمكن القول إن الكساد قد بدا في الدول الرئيسية في 2008، ومن المتوقع أن يتواصل خلال السنة الجديدة، لكنه على الأرجح سوف يتحول إلى انتعاش مع نهاية هذه السنة، وبذلك سوف تكون هذه الأزمة -و على أهميتها- اقل بكثير من ناحية التكلفة (خسارة الدخل القومي) والفترة الزمنية مما حصل خلال الركود الكبير في عقد الثلاثينات من القرن الماضي.
بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية التي انطلقت منها الشرارة الأولى مع أزمة الرهن العقاري، لم يبدأ الناتج المحلي بالانخفاض إلا ابتداء من الربع الثالث لسنة 2008 وسوف ينخفض خلال السنة الحالية بحوالي 0،7 %، بينما بدا الانخفاض في الربع الثاني من 2008 في كل من ألمانيا، فرنسا، المملكة المتحدة واليابان، وسوف يتواصل هذا الانخفاض في الناتج المحلي الإجمالي خلال السنة الحالية بحدود 0،8%، 0،5%، 1،3%، و0،2%، على التوالي، حسب توقعات صندوق النقد الدولي. وهذا التراجع لا يقارن بطبيعة الحال مع تراجع الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بحوالي 30% خلال سنوات الانهيار الكبير للعام 1929. ونسبة البطالة فيها لن تتجاوز 8% وهي اقل بكثير من نسبة البطالة خلال الانهيار الكبير التي بلغت ذروتها بحدود 25%.
كما أن مدة الكساد سوف تكون محدودة هذه المرة، إذ أن الاحتمال الأكبر أن يبدأ النمو الاقتصادي مع نهاية السنة الحالية. سوف تكون أمريكا السباقة على الأرجح في هذا المجال بحكم: (1) التدخل المبكر لبنك الاحتياط الفيدرالي الذي ضخ قرابة 800 مليار دولار لدعم سيولة البنوك والمؤسسات الأخرى، بما فيها المؤسسات غير المالية من خلال سياسة جديدة لشراء الأوراق التجارية التي تصدرها هذه الشركات (Commercial Papers )، (2) برنامج الانتعاش الحكومي للرئيس الجديد اوباما الذي سوف يقارب التريليون دولار، (3) خبرة أمريكا في التعامل مع الأزمات المالية، (4) مرونة القوانين الأمريكية مثل قوانين الإفلاس وقوانين العمل، و(5) التنافسية الكبرى للاقتصاد الأمريكي الذي جاء في رأس القائمة حسب التصنيف الأخير للمنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس. وسوف تلحق بها باقي الدول المتقدمة الأخرى بحكم اتخاذها إجراءات شبيهة من جهة ولان الانتعاش الأمريكي سوف ينعكس ايجابا على الاقتصاديات الأخرى.
لن يختلف الأمر كثيرا في الدول النامية بدءا بالعملاقتين الصين والهند، إذ اعتمدت هذه الدول خطط انتعاش خاصة بها ركزت على الخدمات الموجهة للسوق المحلية عوضا عن التصدير للأسواق العالمية، مثل النقل والتعليم والصحة. وهذه الدول لن تعرف كسادا في المقام الأول إذ من المتوقع الا تقل نسبة النمو عن 7% في الهند وربما 8% في الصين في 2008 لترتفع هذه النسب بداية من السنة القادمة مع انتعاش الاقتصاد العالمي الذي يمثل الطلب الخارجي على صادراتها.
و لن تتخلف الدول العربية كثيرا عن الركب. في الدول النفطية قد تحصل بعض العمليات التصحيحية في مجال العقارات، بالإضافة إلى الانهيار الكبير الحاصل في أسواق رأس المال، لكن السعر المتوقع لبرميل النفط للسنة الحالية (حوالي 60 دولار) يعني أن الموازنات الحكومية في هذه الدول لن تتأثر كثيرا، في الوقت الذي سيواصل فيه القطاع الخاص عملية التنويع الاقتصادي التي نجحت فيها دول مثل البحرين والإمارات, والأرجح أن تحقق الدول العربية النفطية ما لا يقل عن 5% نمو خلال هذه السنة. أما الدول العربية الرئيسية غير النفطية، فسوف يكون تراجع النمو فيها محدودا لان هذه الدول استطاعت جلب استثمارات خليجية هامة خلال السنوات الأخيرة، لذلك سوف ينمو الاقتصاد التونسي هذه السنة بما لا يقل عن 5% كما ورد في توقعات صندوق النقد الدولي، ولا نستبعد أن تحقق المغرب ومصر والأردن نفس النسبة تقريبا، خصوصا وأن هذه الدول تستفيد كثيرا في الوقت الحالي من انخفاض الأسعار العالمية للغذاء والنفط، مما يساعدها على إعادة توجيه مواردها المالية التي كانت تخصص سابقا لدعم أسعار هذه المواد إلى قطاعات أخرى مثل تطوير برامج التعليم والتكوين المهني والصحة وتمويل المشاريع الصغرى والبنية التحتية.
لعل الدرس الأهم من هذه الأزمة قدرة الدول المعنية السيطرة على تداعياتها بطريقة أفضل وأسرع من السابق نتيجة الخبرة التي تراكمت لدى صناع القرار والتقدم الكبير الذي حصل في مجال علم الاقتصاد على أيدي أمثال البروفيسور quot;بين بارنا نكيquot; محافظ بنك الاحتياط الفيدرالي الذي كرس حياته الأكاديمية كلها لدراسة الانهيار الكبير كأستاذ باحث في جامعة برينستون الأمريكية، بالإضافة للتنسيق على المستوى الدولي بين البنوك المركزية والحكومات، خلافا لما حصل خلال الثلاثينات من القرن الماضي، حيث التجأت الحكومات إلى سياسات حمائية زادت من تفاقم الأزمة وحولت ما كان مفترضا أن يكون موجة كساد عابرة إلى انهيار اقتصادي كبير.
كاتب المقال محلل إيلاف الاقتصادي وخبير سابق بصندوق النقد الدولي بواشنطن
[email protected]