الإثنين 19/1

يأتونني في السادسة صباحاً، مجموعة من الصحفيين، ونركب السيارة، في جولة طويلة، لن نعود منها قبل حلول العتمة. اتفقنا على هذا أمس. نبدأ برفح جنوباً، وفي الطريق يأتي اتصال لأحدهم، فنُغيّر وجهتنا للضرورة. نتجه شمالاً، مُيممين صوب المعسكرات الوسطى، ثم غزة. الطريق سالكة، بعد انسحابهم الجزئي. لكنّهم على مقربة، ويُراقبون النملة. نمرّ عنهم، ويقول لنا زميل: ديروا بالكم. نمضي، وأنتبه بشكل خاص، لحال الطريق. أحشاء الإسفلت مبقورة، والحُفر والمطبّات زادت عن أول. ترتجّ بنا السيارة، وترتفع ثم تنهبد. نمضي. هنا كانوا، وهي ذي آثارهم. لم أعرف، بقدر ما قرأت من كتب التاريخ، عدواً له مثل هذه القسوة، في التعامل مع quot;المكان الفقيرquot;. تدمير إبادي، للحجر والعمران، لا يقلّ، بل ربما يزيد عن إجرامهم مع البشر. يسخر زميل لنا: وفّر كلامك لما سوف تراه لاحقاً في غزة المدينة والبلدات الشمالية. يضحك زميل آخر، مُذكّراً بالقول الشعبي:quot;لِسَّا الخرا وراquot;، فيُقهقه ثالث: غلطان يا فلان، ف quot;الخرا أمامناquot;! وسوف نراه ونشمّه عن قريب. نمرّ بدوّار quot;دير البلحquot;، وندخل المدينة المُشاطئة للبحر. مراكز مضروبة وبيوت ومؤسسات. نصل منطقة الشاطئ، ونتجوّل راجلين في المنطقة الأكثر تضرراً. هنا، ضربوا بكل جبروتهم. وهنا كانت محاولة إنزال بحرية لقواتهم، تصدّى لها الشباب، فانسحبوا. نمشي ويشرع الزملاء في تجهيز كاميراتهم قبل التصوير. ثمة فكرة عرضتها عليهم لعمل فيلم وثائقي، نعمله على حسابنا، وأقوم أنا بكتابة اللازم له. ما زالوا مترددين. فتكاليف فيلم محترم شيء فوق طاقتنا. سنرى هذا لاحقاً. أتركهم، وأذهب إلى شيخ يجلس وحيداً مع حفيده، فوق كومة من الردم، كانت لأيام خلت، بيته. سلام عليكم يا حاج. وأجلس معه لسماع القصة. يقول: في هذه الكومة دفعت شقا عمري وعمر أولادي. مَكفّاش، فبعت قطعة أرض، وأكملنا البناء. مِن كم طابق؟ ثلاثة. كم عدد ساكنيه؟ 75 فرداً. وأين أنتم الآن؟ تفرّقنا على بيوت الأقارب والجيران. كل واحد من أولادي أخذ عائلته ونام عند قريب. وأنت والحاجة؟ عند أهلها. أنا والحاجة وبنت لم تتزوّج. هل جاءكم أحد ووعدكم بالتعويض والبناء من جديد؟ جاءت لجنة، البارحة، وسجّلت كل المعلومات. نحن ننتظر. لكن كيف سيبنون ولا إسمنت في السوق؟ يسألني، فأطمئنه: قريباً سيُرفع الحصار يا حاج. ربنا يسمع منك، ويُكمل: البني آدم لا يستره غير بيته. صحيح هُم (يقصد مَن آووه) أكرمونا، بس همّة البني آدم ثقيلة يا ولدي. كلنا لبعض يا حاج. أنظر في التقاطيع الوسيمة الساهية للحفيد، وأفكّر: هل سينسى عمرَهُ هذا المنظر؟ عمارة من ثلاث طبقات، في ليل بلا قمر، تُمسح عن الوجود؟ إلى متى سوف يبقى هؤلاء مشرّدين؟ الإسمنت؟ على الأغلب سينتظرون طويلاً. على الأغلب ستأخذ المسألة شهوراً وربما سنة. فهذه الدولة المارقة، أستاذة quot;فن التنكيلquot; في الشرق، تتعامل مع مادة الإسمنت، كما لو أنها صواريخ. سنتان طويلتان، ولم يدخل لغزة كيس إسمنت واحد. هل ينجح الأوربيون والمصريون في إقناعها بضرورة الحاجة لإعادة التعمير؟ ستبتزّهم حتى في quot;الأقلّquot; من شأن الإسمنت، فما بالك بهذه المادة الحيوية حيوية الحياة ذاتها؟ أترك الشيخ وأذهب لأرى حفرة هائلة حفرها صاروخ أو أكثر. حفرة تتسع لبناية سكنية بالكامل. يتجمّع حولها أطفال الحَي وبعض الشبان. أسأل أحدهم: هل قُصفت هنا بيوت بساكنيها؟ يجيب بنعم، ويحكي لي حكايات عن أُسر كاملة ماتت تحت الأنقاض. ألِفّ في المكان، وبعد نحو الساعة، أعود لزملائي المنهمكين في شغلهم. متى ستنتهون؟ لدينا جولة طويلة حقاً، فمتى ستنتهون؟ ربع ساعة ونمشي، يردّ أصغرهم. أقف على جُرف عال وأتأمّل في الأزرق اللامتناهي قبالتي. لأول مرة منذ هاجرنا من بلداتنا سنة النكبة، يضربوننا من البحر. بوارج وزوارق حربية، تقذف حممها بلا رحمة. تقذف عشوائياً وتتقصّد هذه العشواء. لا يهمّ أين تنزل القذيفة الجهنمية، المهم أن تنزل على فلسطينيين. على سكان عزّل آمنين في بيوتهم. والألعن أنهم ما كانوا يقصفون إلا في الليل غالباً. في الليل، حيث معظم المناطق بلا كهرباء. تكون صاحياً أو نائماً، على ضوء quot;لامضة الكازquot;، فينزل عليك قدَرُ باراك من حيث لا تحتسب! أطفال ونساء وشيوخ، ربما لا تُتاح لهم حتى فرصة الصرخة الأخيرة. بِمْ بومْ، وتنتهي القصة. ملعونْ دينهم! متى سنرى فيهم يوماً؟ كل كلب وله يومه، فمتى سنرى يومهم؟ البحر لا مبال. بركة كبيرة ساكنة، فيما الكلُّ حوله يغلي! نركب السيارة، وبدل الاتجاه شرقاً، نحو quot;المغازيquot; و quot;البريجquot; و quot;النُصيراتquot;، يقترح أحدنا التوجه شمالاً نحو غزة. أعترض، فيُقنعونني بمسألة quot;توفير الوقتquot;. يا أخي هيَ طارت؟ بكرة أو بعده نذهب ونرى المخيّمات الوسطى. أوافق على مضض. فلم أنس أنّ غزة وشمالها كان لها نصيب الأسد من الضربات. نسير ببطء، على الإسفلت الغربي المحاذي للبحر. مناطق زراعية بها بعض الفيلات الراقية المتفرقة هنا وهناك. كل المباني الحكومية التي عبرنا عنها مقصوفة جزئياً، والبعض منا مدمّر نهائياً. ندخل منطقة الشيخ عجلين [حيث يُزرع هنا، فوق سوافي الرمال الذهبية النظيفة، أفضل أنواع العنب في فلسطين قاطبة]. هنا كانت الحدود الغربية لمستوطنة quot;نتساريمquot;. انسحبوا منها، وها هم يعودون إليها، ومنها يدخلون ويحتلون حي quot;تل الهوىquot;. مناطق زراعية قليلة السكان، لذا كانت مناسبة لهم، فضلاً عن أنها مكشوفة.
نعبر بالجوار من quot;المنتدىquot;، مقر الرئيس الراحل عرفات. المبنى والأمكنة المحيطة به مدمرة جزئياً أو كلياً. أقول لزملائي، لا بد من المرور على الوزارات والمؤسسات الحكومية المقصوفة كلها. فقد قصفوا مباني خمس عشرة وزارة [ هذه المباني شيدت بتمويل أوروبي، وها هم يزيلونها عن وجه الأرض، لكي يُعاد بناؤها يوماً ما، فتربح إسرائيل على الجهتين. فإسرائيل هي المتحكمة في كمية ونوعية وأسعار مواد البناء الداخلة للقطاع].
نلف وندور ونصل مقر وزارة التربية والتعليم. مبنى حديث بالكاد انتهوا من تشطيبه. مبنى جميل بواجهة صخرية أزالوه عن آخر حجر. أنظر للأنقاض وأشعر بالقهر، بالقهر حقاً. أشعل سيكارة، ونمضي. نصل مُجمّع quot;السراياquot;، وهو عبارة عن عدة أمكنة يلفها جدار واحد، بُنيَ من أيام الإنكليز. مجمّع عسكري وأمني هو الأكبر في غزة. كان مقراً لجنود الاحتلال طوال وجودهم، ثم أخذته سلطة عرفات، وبعدها أخذته حماس. مضروب كلياً. مبقورة أحشاؤه وسقوف مبانيه مسوّاة بالأرض. أفكّر في الزلازل ومقياس ريختر. أحيط بالمكان من عدة زوايا، وأقول إنه بالفعل زلزال بقوة سبعة على مقياس إيهود أولمرت. إيهود أولمرت هذه المرة. إيهود أولمرت، كما في كل مرة. تعددت الأسماء والتدمير واحد. مرة بيبي نتنياهو ومرة باراك ومرة رابين ومرة بيرس، فهل إيهود الأمّور حقه ناقص؟ ثمة عشرات ألوف المباني مضروبة، ولكنّ زملائي يُلحّون بالتوجّه إلى بيت لاهيا وبيت حانون. نذهب. نأخذ طرقاً ترابية التفافية، تلمّساً للحيطة. المناظر ذاتها على طول الطريق. عمارة سكنية مقصوفة هنا وجمعية خيرية مدمرة هناك. نصل جباليا حيث كانت أشرس المعارك. الحال عينه، مع قوة تدمير أعلى، مع تنكيل بالمكان أشدّ. نصف ساعة ونتوجه إلى البلدتين الشماليتيْن. هناك نرى ونملأ العين. حي العطاطرة، حي التوام، الحيّ الفلاني، الحيّ العلاني. أحياء متعددة والهول ذاته. مناطق خارجة من زلازل وأعاصير. وكلها بدرجة سبعة على مقياس إيهود. إيهود المعبود. إيهود النخباد. إيهود ذو الأوتاد. إيهود ميلخ يسرائيل. ملعون دينهم!

أستمع إلى قصص وحكايات. العوائل التي كانت بيوتها قبورها. الطفل الذي وجدوه على بزّ أمه، حياً ما يزال. ماتت الأمم بعد دقائق من نقلها بالإسعاف، وعاش الرضيع. كلاهما كان تحت الأنقاض. الأب أيضاً كان عند أقاربه، لحظة سقوط القذيفة [في الحقيقة عدة قذائف] فمات على المطرح. قصة ثانية وهذه المرة عن طفلة هي الناجية الوحيدة من عائلة بأكملها. مات أبوها وأمها وأخواتها الثلاث، أمام عينها. ولولا معجزة شجاعة الطفلة، التي أُصيبت بشظية في قدمها، فزحفت على بطنها، حتى وصلت بيت خال لجيران مهجّرين، لماتت هي أيضاً. قصص وحكايات تقشعر لها الأبدان. منها هذه القصة التي رويت لي من قريب المتوفاة[ لقبه: quot;أبو أحمدquot; مِن quot;الجِيِّهquot;] قال: عدنا لبيوتنا لنطمئن عليها بعد انسحابهم، فوجدنا أم محمد [ بنت خالتي] ميتة تحت بيتها المقصوف، وبجوارها طفلها ذو السنة وشهرين يمسك ثديها ويرضع. تفاءلنا خيراً بكونها على قيد الحياة، حتى أنّ أمي الحاجة زغردت من الفرحة. اقتربنا من أم محمد [وكان معظم جسمها خارج الردم] وقلنا يا رب. سحبناها بسهولة وهززناها إنما لا حياة لمن تنادي. لم نفهم حتى جاءت الإسعاف، وفحصَها الطبيب على الفور، ثم أخبرنا بالحقيقة: هي ميتة منذ خمس أو ست ساعات على الأكثر. العجيب أنني رأيت الرضيع ذا السنة وشهرين وهو يرضع من بزّها. كيف هذا؟ بقيتْ أم محمد تعاني سكرات الموت مدة أربعة أيام. لم يسعفها أحد، لاستحالة مجرد الاقتراب من المنطقة. ربما تكون توسلت لجنود تساهل أن يُسعفوها. لا أحد يدري ماذا حصل بالضبط. حين هرب أهلها تحت دويّ القصف المدفعي بقذائف زنة 50 و60 كيلو غرام، لم ينتبهوا لتأخّرها إلا بعد فوات الأوان. أُحتلت المنطقة بالكامل، وجرى هنا عشرات من عمليات إعدام بدم بارد. لم يعدموا الشباب فقط، بل النساء والأطفال وكل كائن حي يتحرك. أسأله: هل قتلوا حيوانات أيضاً؟ تعال أفرجيك. لا. أكتفي بالسماع منك. فيسرد أبو محمد هذه القصة: جار بعيد عنهم هرب مع نصف سكان بيته في الثواني الأخيرة. قصفوهم وأبادوهم كلهم أثناء الهروب. ثم عادوا لبيته وأعدموا شيخاً وامرأة وبقرة!
بقرة؟
نعم بقرة. مش مصدقني تعال أفرجيك. ذهبت معه ونادى على شبان في الحي، فأمنّوا على كلامه، وأروني آثار الرصاص على حوائط الزريبة الصغيرة _ عبارة عن تحويطة من الخيش والحجر. أُنظرْ: هذا هو دم البقرة يا حرام! بالفعل ثمة دم وطرطشات حُمر كبيرة ناشفة ما يزال بالإمكان رؤيتها. ولد منهم أخبرني بأنهم دخلوا دار أم علي [بعيدة عنهم مقدار شارعيْن] فقتلوا ابنها وكنّتها و 23 دجاجة وديك.
23 دجاجة وديك؟
يلعن ربّهم!

هنا تسمع مئات الحكايا. بعضها مبالغ فيه وأغلبها صحيح 100%. فجيش تساهل ذو التقاليد الرفيعة والانضباط الأخلاقي المشهور، لا يعرف يمّا ارحميني! حتى مع الطيور والدواب. هي بالنسبة له، quot;إرهابية مادامت اختارت العيش مع الإرهابيينquot;. ومن هم الإرهابيون يا quot;أَلَوف غِلنْتْquot;؟ إنهم أم محمد وأم علي وصُبحيّة وفاطمة وزينب وحذيفة. آه نسيت .. وكنّة أم علي كمان.
أقول لزملائي بكفّي. يقولون باقي منطقة أو اثنتان. تعبت، أرجوكم. بدّي أروّح. بدّي أنام.
نركب السيارة، وفي طريق العودة، نسمع أذان العصر. يقترح أحدنا زيارة حي الشيخ رضوان، فثمة في هذا الحيّ الكثير مما يجب تصويره. أعتذر، وأعدهم بمرافقتهم غداً. ندخل غزة، من دروب بين الأزقة، ونُيمم شطر البحر. فطريق الساحل مضمون أكثر من الطريق الشرقي، حيث لا تزال تقف غير بعيد منه دباباتهم وآلياتهم، رغم كذب أولمرت أمام قادة أوروبا quot;الكبارquot;، ووعده لهم بالانسحاب الكامل خلف الحدود. كلا لم ينسحبوا وفقط أعادوا الانتشار والتموقع، كي يكونوا في مأمن. نقطع نصف الطريق، وقبل الوصول إلى دير البلح، يُوقفنا بعض الناس، ويحذروننا من إطلاق نار وبعض القذائف. نواصل السير، رغم خوفنا، فلا بد من العودة للبيت بأي ثمن. يتصل أحدنا بزميل له فيُطمئنه هذا ويُوصيه فقط بالحذر. ما هي الأخبار؟ أسأل الزميل بجانبي. فيقول: حادث عارض. يقصد إطلاق النار الذي حدثنا عنه الناس قبل قليل. هل ثمة حوادث أخرى؟ يجيب كلا. فعلى ما يظهر، يبدو أنهم معنيون بحالة من الهدوء. نشعر ببعض الراحة، ونواصل طريقنا. نعبر دير البلح، وشرقاً، حتى الإسفلت على الطريق العام. دقائق ونُحاذي بلدة القرارة. الإسفلت مبقور البطن، ولا يمكن عبوره [ ثمة حفرة كبيرة فيه] نلفّ وندور بين أراض زراعية وأشجار زيتون وجميز، وأخيراً نُمسي على مشارف خان يونس. ينزل أحد الزملاء ممن يسكنون هناك. ويؤكّد على quot;مشوار بُكرةquot;. أقول له إن شاء الله.
ندخل خان يونس من شارعها الغربي بحالته السيئة. أسفلت باتجاهين مع أنّ عرضه بضعة أمتار فقط. نعبر منطقة العقاد، وندلف إلى المشروع حيث سكناي وسكنى زملائي، ومن هناك صعوداً، نعبر شارع الكتيبة، وأخيراً، تقف السيارة على باب البيت.
أوعى تنسى مشوار بكرة.
لأ. إن شاء الله سأنتظركم.
مع السلامة. أُغلق بابي وأتنفّس الصعداء.
لن أنتظرهم ولن أذهب!

الاثنين مغرباً

آكل وأنام كالقتيل. استيقظ على عتمة كالكُحل. كلهم نائمون. كم تكون الساعة الآن؟ لمبة الكاز في يدي، وأصعد الكرسي البلاستك، لأنظر ساعة الحائط. أجدها العاشرة والنصف. 10ونص؟ ربما تأتي الكهرباء بعد قليل. مع أنهم أكرمونا نوعاً ما فصارت تأتي مدة أطول من السابق. خازوق لو لم تأت. فما من كلمة كتبتها حتى اللحظة. آكل عشائي البارد، تجنباً لإشعال موقد الفتيلة. لعنة الله على السولار، واليوم الذي عرفناه فيه. لكن لا بد. فكيف سأكتب بلا شاي وتدخين؟ لا بد من التدخين أثناء أو بعد الشاي. أضطر لإشعال البابور، وأملأ الغلاية. يأتيني هاجس مقلق، فأهرع للخزانة متفقداً غروز السكائر. ها هو. جيد. باقي فيه ثلاث علب. فلأكتب باطمئنان إذن. ينزل الشاي وأدخّن وأشرب في العتمة. لمبة الكاز على جدار الصالة، تحسباً لاستيقاظ بنت وذهابها للحمام. أُدخّن وآتي بورقة وأكتب فيها [على العَمَيَات] هذه العبارة: quot;أن تدخّن، فهذا ترف عظيم في الحرب. لكن الترف الأعظم منه، هو أن تدخّن وترى دخان سيكارتك الأبيضquot;. بعضهم، وأنا منهم، لا يستمتع بالسيكارة ما لم يرَ دخانها. ومع ذلك، تعوّدنا. تماماً كما تعوّدنا على سُخام السولار الكثيف المؤذي، وعلى [فقه] أي بابور أحسن: أبو فتيلة أم أبو إستيم ع الهوا؟ وليش؟ [مع أنّ كلاهما خريّة ومقسومة نصين] تماماً كما تعوّدنا على العيش شهراً، مقابل أكلة دجاج واحدة _ الشكر لذلك الغامض على أنني quot;نباتيquot;.
أُدخّن مقهوراً ومتوتراً، فأنا لم أسمع أخباراً منذ الصباح الباكر. ولا بد من المتابعة لأجد مادة. تأخّرت الكهرباء. الظاهر أنهم نسيونا. أقوم وآتي بلمبة الأولاد من غرفتهم، وبلمبة الصالة، علّي أتدبّر أمري مع القراءة. أقرأ صفحات من رواية وأشعر بحرقان في العين. لا جدوى. لا بد من انتظار الكهرباء. أغفو قليلاً، وسط هدوء عميق يُخيّم على المنطقة، ثم أصحو على النور العظيم. حقاً هو نور عظيم، لمن يعيش على سراج الكاز!
أستنهض قواي، وأقوم أغسل رأسي تحت الماء البارد. الغفوة أو النوم القصير، هما أسوأ وأثقل وأبهظ أنواع النوم على الإطلاق. لا أُصحصح إلا بالماء البارد، ولفترة لا تقل عن ربع ساعة تحت الحنفية. أتنشّف جيداً، وألبس سويتري الثقيل، وأفتح الجهاز. الحمد لأحدهم على نعمة الكتابة المباشِرة. لا ورق ولا شخابيط ولا تمقيق عيون من الورق للشاشة ومن الشاشة للورق.
أتذكّر الأخبار، فأهرع للتلفزيون. ساعتان، لم أشعر بهما، ثم أعود للشاشة المعتمة.

أكتب وأكتب وأتنفّس من ظهري. يُؤدَّنُ للأذان الأول، فأنتبه. حان موعد الهذيانات!

أقطعُ / كَتْ / وأختمُ اليومية بهذه الفقرات [في الحقيقة كنتُ كتبتها في الليلة السادسة للحرب. لكنني خشيت من نشرها في حينه، لأنّ المزاج العام ما كان له أن يتقبلها، حيث الدم يسيل للركب، والنفوس مكلومة]

صانعُ الأرامل ومُدشّن جحيم الأرض


الخميس ظهراً

ارتحنا قليلاً، وعدنا للمقت من جديد. فهاهي الأمور تعود إلى سابق عهدها: الطائرات تحوم في الجو، نذير موت وخراب، وهاهي صواريخ القسام، تخرج من هدنتها القصيرة، وتعود لتقصف على المستوطنات القريبة. والآن، وأنا أكتب هذه الكلمات، أسمع أصوات المكبرين في المساجد، يعلنون عن سقوط وجبة جديدة من الشهداء. أحدهم جار لي، استشهد أخواه من قبل، في الانتفاضة الأولى والثانية، وكان قد أصيب أمس، بصاروخ من طائرة، فبُتُرت يداه بالكامل، وهاهو يموت الآن. إنه فصل جديد في المأساة التي لا تنتهي: فصل آخر من فصول الدم والعذاب.

( )

ترى: بماذا تشعر الآن أمُّ هؤلاء الشهداء الثلاثة، وهي تتلقى النبأ الصاعق؟ إنني أضعف ما أكون أمام فجيعة الأمهات. فهنّ الحاملات عبء الشهادة، في المقام الأول، والدافعات ثمنها الباهظ، أكثر من الرجال. إن مرأى أم ثاكلة، ليهزني، بأكثر مما تهزني رؤية الشهيد نفسه ... ليرحمنا خالق الرحمة، في هذا الزمان، الذي أصبح فيه الدم هو الاسم الحركي للفلسطينيين ..

( )

مصيبة الشهداء أنهم يفضّلون الموت على التفكير، وهذه الجملة ليست من عندياتي، بل هي جملة شهيرة، قالها الشاعر الفرنسي بول فاليري، ذات سنة. قال عن الشهداء: quot; إنهم يفضلون الموت على التفكير quot;. وكم هي صادقة وخالدة هذه الجملة المؤسية.

( )

شباب في عمر التفتح والنضارة، بل في ميعة الصبا والمراهقة، يذهبون للموت، مفتونين بسحره الميتافيزيقي، وبعالم ما وراء الطبيعة، فقط من أجل فكرة أو عقيدة أو وطن! لا يفكرون، ولا يحسبون، بل هم quot; في حالة هرب دائم أمام التفكير quot; وفق ما قال هايدغر، وهو يتكلم عن الإنسان في العموم. لكن جملة هايدغر، تنطبق أفضل ما تنطبق، على الشهداء بالخصوص. فلو لم يهرب هؤلاء من التفكير، ولو كانوا فكروا قليلاً، لما ماتوا هذه الميتة، وهم في زهرة العمر. حقاً: إن الشهداء، يفضلون الموتَ على التفكير.

( )

يكسرون قلوب أمهاتهم، ويُدخلون آباءهم في رماد العمر، فيما هم سعداء ببريق الفكرة الخُلّب.

( )

ليرحمنا العقل.

( )

وليغفر لي المتدينون، هذا المنحى من التفكير.

( )

صمت مريب يفوح في الجو الآن، يعقبه صوت إطلاق صاروخ. والطائرة الزنّانة، لم تزل تمارس عملها الشرير. تتصيد الفرصة، لقتل مقاوم أو مجاهد. بينما خرير حنفية الحديقة، يدخل في المشهد السمعي، ليذكّرني، بأن أصوات الطبيعة الرءوم، لا يجب أن تغيب.

( )

رحماك أيتها الطبيعة الأم: يا أمنا ويا وسادتنا المريحة، في غابة الشوك الفولاذي هذه.

( )

نصف ساعة بعد انتصاف الليل: لم أزل أكتب، وأنقر على لوحة المفاتيح، مثل نشاز في السياق. الجيران على شرفات بيوتهم، يستطلعون ويترقبون، تدفعهم غريزة الفضول، قبل أي شيء آخر. فهذه الغريزة، أشد ما تكون مضاءً، في وقت الموت والحروب. إنها غريزة فطرية وأصيلة في ابن آدم. أضحك حينما أصل إلى هذه الفكرة، فهي لا تناسب السياق الدموي الفجائعي، الذي نحن فيه، ومع هذا لا بد من ذكر الحقائق البسيطة الخالدة، حتى لو خالفت مقتضيات المقام والسياق.

( )

ينتظرون على شرفات بيوتهم، بعد انتصاف الليل. ينتظرون ومن الممكن أن يُصابوا بشظية صاروخ. إنهم لا يخشون الموت، من فرط ما صار هذا، خبزهم اليومي، في الثلاث وجبات.

( )

بم بوم ! صاروخ غراد ، وشيء من هياجِ فرَحٍ ، يتعالى من شرفة الجيران : فرح الضعيف المنكسر ، بأن جزءاً منه ، ما يزال يقاوم ، ويتصدى ويتحدى . حسناً : وماذا بعد ؟ وإلى متى ؟ وماذا في نهاية الطريق؟

( )


قلت يوماً، لإحدى الشاعرات الإسرائيليات، إن إسرائيل غبية تاريخياً. بل هي ممسوحة بغباء القوة المفرطة. فأمامها الآن، فرصة تاريخية، لإبرام معاهدة سلام مع الفلسطينيين والعرب في المحيط، لكنها تتعنجه، وتماطل. فإحساسها المتضخم بالقوة، يمنعها من قراءة التاريخ، بشكل حكيم ومعقول، ويدفعها إلى التنكيل بالفلسطينيين يوماً بعد يوم. لكن ماذا سيحدث في النهاية؟ فلا بد من حل، ولا بد من تسوية، فمن المستحيل أن تستمر الأوضاع على هذا المنوال الدموي للأبد. فإذا لم نأخذ بعض حقوقنا اليوم، فسنأخذها غداً أو بعد مئة عام. فما سكت شعب عن حقه إلى الأبد، وما ضاع حق وراءه مُطالب. ولو أعطتنا إسرائيل اليوم، بعض حل مجحف، فهذا سيكون بمثابة تسكين، لمدة قصيرة، ثم ينتفض شعبنا بعدها، وتبدأ الدائرة الجهنمية من جديد. فإذا كان الأمر على هذا النحو، وهو على هذا النحو فعلاً، فلماذا لا تختصر إسرائيل المعاناة على شعبها وعلينا معاً، وتعطينا ما أخذته في العام 67 ، فتنتهي المعضلة ونرتاح وترتاح هي معنا أيضاً؟ إن حماس تقبل الآن، بهذا الحل، ومعنى أن تقبل به حماس، وهيَ مَن هيَ، فإننا جميعاً نقبل به ... لكن هيهات هيهات، فإسرائيل مصابة بغباء تاريخي قديم، ولا تبدو في الأفق ، علامات أو مؤشرات، تجعلنا نعيد النظر، في حقيقة غبائها القديم.

( )

لو كنت يهودياً أو صهيونياً، لقبلت بهذا الحل، حفاظاً على مصالح إسرائيل الإستراتيجية بعيدة المدى. إنما السؤال: متى كان اليهود والصهاينة، يقرؤون التاريخ، ويأخذون العِبَر؟

( )

أيتها الكتابة الغلّابة
حرّكي دمي
وزوّدي من ألمي
واستبطنيني ،
قبل أن يأخذني النسيانُ
للغَيابة ...
أيتها الكتابة!

( )

الثانية والنصف صباحاً : اتصل ابن أختي الآن ، مستفسراً عن وضعنا في البيت ، إذ سمع من إحدى محطات الراديو المحلية ، التي تنقل الأخبار مباشرةً ، عن سقوط صاروخين في شارع المدرسة ، حيث أسكن . طمأنته أننا إلى هذه اللحظة بخير ، ولا نعرف ماذا سيحلّ بنا بعد دقائق ، فقد سمعتُ دويّ الصاروخين ، واهتزت جدران المنزل ، ثم أعقب ذلك صوت سيارات الإسعاف ، لكن الهدوء لم يزل يخيم على المنطقة : فلا أصوات ناس ولا استغاثات من الجوامع ، وربما مردّ ذلك يرجع لاحتمال انتشار الجيش في المنطقة ، فأنا لا أعرف شيئاً مما يجري في المحيط ، حيث إن الخروج من البيت في مثل هذه الأجواء المرعبة ، يعدّ حماقةً كبرى ، ومخاطرة حقيقية . لقد أخبرني ابن أختي أيضاً عن انتقال أخي وعائلته في منطقة بطن السمين المحاذية لمنطقة النمساوي إلى السكن عند أمي في المخيم ، فالله وحده يعلم ماذا جرى لبيته الآن ، فكل الأمور واردة ومن الممكن أن تحدث ، أهونها وأفظعها على السواء . إنها حالة حرب وأجواء حرب حقيقية وليست على سبيل المجاز . فهاهي طائراتهم تحوّم بكثافة وتقصف إذا وجدت هدفاً ، وتقصف إذا لم تجد ، فعلى كلا الحالين ، لا بد لها من قذف محمولاتها ، والعودة لأخذ وجبة جديدة من الصواريخ والمقذوفات . وكذلك هاهي بوارجهم المتطورة ، تقصف عن بعد من داخل حدود المستوطنة الجديدة : فقد أمسى quot;البحرquot;مستوطنة لهم! فما الذي ينقص المشهد الفاجع ليكون حرباً بكل ما في الكلمة من خراب ودمار ومآس وكوارث ؟ وغداً ، أو بالأحرى ، بعد ساعات ، يبدأ يوم جديد ، ولا مدارس بالطبع ، في ظل هذا الجو القاتم ، وهذه الدماء الغزيرة . فهي المجزرة ولا شيء أقل من هذا الوصف . مجزرة بجميع معاني المجزرة : مجزرة باراكيّة* بامتياز . فصانع المجازر هذا لم يشبع بعد من تاريخه الدموي الوحيد والأكيد . الساعة الآن بلغت الثالثة تقريباً ، ودويّ المدافع يبتعد ويقترب حتى يهزّ الجدران ، فيما الناس لا حسّ ولا خبر ، مما يرجّح عندي فرضية نزول الجيش إلى المنطقة ، فما يحدث الآن هو بكل المقاييس غير عادي ، ولا بد أن هناك شيئاً ما يمنعهم . فيا رب استر ويا رب استرْ!

( )

كلا : ها هو صوت المؤذن من الجامع القريب يؤذن للأذان الأول ، ومعنى هذا أن الوضع بخير نسبياً ، فلو لم يكن الوضع كذلك ، لما كان المؤذن خرج للأذان . آمل أن يصدق هذا التحليل البديهي ،وآمل أن تمضي هذه الليلة أو ما تبقى منها على خير ولو نسبي.

( )

الزنّانة** تزنّ . إنها الآن أخطر سلاح في يد الأعداء ، فهي عبارة عن تلفزيون يصوّر أدق الأشياء على الأرض ، فيما يجلس الضباط هناك داخل مدنهم البعيدة ، يتابعون الصور ويدققون في تفاصيلها ، ثم يرسلون الأمر إلكترونياً للطائرة بأن تقصف صواريخها المتناهية الدقة. أي شيطان اخترع هذا السلاح القاهر؟ إنهم حقاً مبدعون وخلاّقون في صناعة وزراعة الموت، وإنتاج وإعادة إنتاج الأرامل والأيتام!

( )

من نحن أمام كل هذه التكنولوجيا الما بعد حداثية؟

( )

هل نسي الكلاب أننا مخلوقات العصر الزراعي الأول؟

( )

أكتب الآن والزنّانة تزنّ فوق دماغي ، وقبل ثوانٍ ضربتْ صاروخين ، فيا عالِم على مين ؟ ويا عالِم مين هو سيئ الحظ ؟ ويا عالِم كم شقفةً صار ؟ قبل أيام رأيتُ أحدهم ، في مستشفى ناصر ، بلا رأس من أصله. وقيل لي إنّ زميله جيء به إلى ذات المستشفى وهو ثلاثة أجزاء منفصلة . أية حياة هذه وأيّ مصير أسود!

( )

أجهش بالفرح ، ليومٍ من سكوت المدافع.

( )

quot; الآن فإنّ الشيطان كامل الاستواء يركبني quot; . كما ركب من قبل واحداً مُغنّياً من شخصيات هيرمن هيسه. وليش ؟ لأنه لا نقود لديّ ، والزمن زمن حرب، ولا أحد من الأولاد يريد أن يفهم ذلك!

( )

الله يخلق وباراك يمسح وكلاهما مبسوطان. أما أنا فغاضب، كمثقف عليه واجبات تجاه القبيلة البشرية الضالة. معلش _أقول لنفسي _ دخّنْ سيكارتيْن ورا بعضْ وترتاح.

( )

لا يوجد ناقد أدبي عربي يتكلم عن تأثير شارون وباراك و .. و .. في المدونة الثقافية الفلسطينية ، بعد! وهذا حقاً مما يؤسف له. مع أنّ شارون وباراك و .. و .. ، أثروا فيها أكثر من جميع المدارس الفكرية النقدية المعروفة. إنه عماء نقدي دون ريب!

( )

أقترح أن نضم شارون وباراك إلى قائمة الشخصيات الأسطورية التي لها تأثير كبير في الأدب . فباراك الواقعي أكثر تأثيراً على مجريات حياتنا مِن مش عارف مين الأسطوري مثلاً.

( )

باراك أو حارس بوابات الجحيم.

( )

صانع الأرامل ومُدشّن جحيم الأرض.

( )

قالب الوطن إلى غصّة.

( )

آه لو كان ابن العم باراك مجرد تعاسة مؤقتة!


* نسبة إلى quot; إيهود باركquot; وزير الحرب الإسرائيلي.
** طائرة استطلاع بدون طيار، يُسمّيها الفلسطينيون بهذا الاسم، ويسمّيها اللبنانيون quot;أم كاملquot;.