قبل حوالي شهرين تسلمت دعوة لحضور حفل زفاف لعائلة عراقية في عمان. كانت الدعوة بفضل كون العريس حفيدا لأحد الأصدقاء الذين كانوا من المقربين للمرحوم والدي في العراق. هذا الصديق العزيز، وهو محامي عراقي معروف، قابلته بالصدفة في لندن قبل بضع سنين، وأنا أحاول تفقد سيرة حياة الوالد الذي اختطف في العراق أيام رئاسة احمد حسن البكر، ومنذ ذلك الحين اختفت أثاره، إلى يومنا هذا.
quot;أيا جارتاه، إنا غريبان ها هنا وكل غريب للغريب نسيب quot; ndash; الشاعر امرؤ القيس
لم يكن هناك مجال للتردد في الاستجابة للدعوة وبكل سرور. زيارة عمان استغرقت يومين فقط، إلا أنها بالنسبة لي كانت رحلة العمر، حيث التقيت بالعديد من الأحباء العراقيين الذين فروا من العراق مثلي من وطأة الاضطهاد، من الحروب والفوضى العارمة إلى ضفاف مستقبل مشرق. الانفتاح لدى العراقيين الذين التقينا بهم للمرة الأولى كان شيئا طبيعيا بالنسبة لي ولأختي الصغرى التي شاركتني الزيارة. ودار الحديث حول شتى المواضيع سيما دور يهود العراق في بناء العراق الحديث. كل ذلك بعد إن شاركنا في الرقص الشعبي ومتعنا نظرنا شنفنا آذاننا بموسيقى حلقات الجوبي العراقي الشمالي, وسلسلة حسرات تصدر منا بين الحين والأخر..

في اليوم التالي تفقدنا محل لصياغة الذهب العراقي في إحدى الأسواق الحديثة في عمان العامرة، وكان لنا لقاء اخوي مع عراقي غريب، تخللته الدموع والذكريات الطيبة عن أيام ولت ومضت. وتطرقنا إلى فرص التعاون الاقتصادي لأن السعي وراء الرزق هو التزام لأحبائنا.
كيف نعنون ذلك وجميع من حادثتهم يعرفون أصلي العراقي, تماما كما يعرفون جنسيتي الإسرائيلية. فهل نعني بذلك التطبيع؟ هل هو انفتاح؟ هل هو تواصل؟

التطبيع حسب ما يصفه البعض في الدول العربية هو جائزة لا تستحقها إسرائيل على quot;سوء السلوكquot; مع الجانب الفلسطيني ولذلك يجب التصدي له. هذا التوجه لم يأت حتى الآن بأي نتيجة لصالح الشعوب العربية كما إن إسرائيل بخبراتها ودورها القيادي في ميادين التكنولوجيا استطاعت أن تشق طريقها في ميادين التقدم على الرغم من المقاطعة العربية.
مفهوم التطبيع لدى عامة الشعب في إسرائيل هو المكسب الأكثر أهمية لثمن الحقبة القاسية والظروف الصعبة التي خضناها طوال أكثر من نصف قرن. نحن اليهود الشرقيون، دفعنا ثمنا باهظا لا يدركه الكثير، ولا يزال العديد من أبناء اللاجئين اليهود يعانون في المناطق النائية البعيدة جغرافيا وعمليا عن المركز الاقتصادي والفكري والسياسي في إسرائيل.

مفهوم التطبيع
غير أن القراءة المستفيضة في النصوص المكتوبة لدى الطرفين العربي والإسرائيلي تكشف حقيقة واحدة، وهي أن مفهوم التطبيع يقع في قطبين متناحرين لدى كل طرف. التطبيع في المفهوم العربي هو طغيان اقتصادي وثقافي إسرائيلي يهدد الاستقرار والديمومة العربية. الشمولية في المنظور العربي تخفي وراءها وساوس ومخاوف منها زوال العدو المشترك، إسرائيل، الذي يقف وراء وحدة الصف العربي. والتطبيع كان دائما مشروطا بنقاط تتغير مع الوقت والظروف، فمرة التطبيع حتى انسحاب إسرائيل من لبنان، ومرة حتى انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة...
أما لدى الجانب الإسرائيلي فالتطبيع هو الخطوة المنطقية التي تلي تقبل كل ما هو عربي وهي تعني إفساح المجال أمام الزيارات المتبادلة وإزالة القيود على الفرص المتاحة للتعامل مع إسرائيل بغية الانطلاق بالاقتصاد العربي إلى الإمام. فالمطلوب من الدولة الامتناع عن وضع العراقيل كخطوة أولى. وترك المجالات الاقتصادية للمبادرات الشخصية لتوفير المزيد من فرص العمل، ورفع مستوى المعيشة لدى الفرد. هذا يعتبر تغيير في نطاق نتائج ملموسة. ولربما كان الأفضل التركيز على الانفتاح بدلا من التطبيع الذي يبدو مخيفا في نظر الأطراف العربية.

الانفتاح الاقتصادي في العالم
الانفتاح الاقتصادي الغلاسنوست في الاتحاد السوفيتي عام 1989 سبق الانفتاح السياسي، وكان ضرورة قصوى للنهوض بالاقتصاد السوفيتي. الانفتاح السياسي أكثر تعقيدا ويحتاج إلى وقت أطول وتوجه نفساني متسامح. حتى في الصين التي خاضت مخاضا عسيرا لولادة الانفتاح الاقتصادي، رفضت بوادر الديمقراطية والانفتاح السياسي بادئ ذي بدء، ولكنها خطت خطوات كبيرة ويتوقع لها إن تصبح عملاقا اقتصاديا في الحلبة الدولية. قوانين اللعبة الاقتصادية تغيرت في العقدين الأخيرين فأمريكا التي هيمنت على الاقتصاد العالمي في القرن الماضي تنحت لصالح دول ناشئة مثل الهند واندونيسيا. كبريات الشركات الاقتصادية تختصر المسافات بحثا عن أيدي عاملة رخيصة بغية الحفاظ على الأفضلية النسبية. المسافة بين إسرائيل ودول المنطقة لا تحتاج إلى تقصير لمدى قصرها الضئيل. إسرائيل لديها التجربة في التعامل مع شروط التصدير والتسويق مع العالم الخارجي في مختلف المجالات فيما تعرض الدول العربية المشاركة الهامة في حقل التطوير والأيدي العاملة، الأمر الذي يجعل من صفقات مشتركة بين الطرفين مفتاحا لدخول أسواق جديدة لم تكن في متناول الخيال من قبل. إسرائيل لا تستهدف الأسواق العربية فالبضاعة الإسرائيلية غالية بالنسبة للشرق الأوسط، ولذلك الأسواق العالمية هي المنفذ وليس هناك إي داع للخوض في متاهات ما يسمى بالهيمنة الاقتصادية الإسرائيلية. التغييرات الجذرية التي طرأت في مركز الثقل الاقتصادي يفتح أفاقا جديدة أمام الدول العربية مثل غيرها من الدول المتطورة، كما تطرق إليها المحلل السياسي فريد زكريا محرر مجلة نيوز ويك انترناشيل.

الانفتاح بدل التطبيع
التطبيع الذي يدور في مخيلة الإسرائيلي بعد اجتياز فترة تقبل اللغة والحضارة العربية العريقة هو تبادل الزيارات والتعرف على بعضنا البعض ليس فقط عن طريق الانترنت! هذه اللقاءات تمهد الفرصة لفتح ملفات جديدة لدى الطرفين، والتحاور الصريح بالأسلوب الإيجابي وبالنية الحسنة. والانفتاح يمهد السبيل أمام الشعوب العربية للتأثير على الشعب الإسرائيلي الذي يتأثر بحضارات مختلفة لكونه شعبا ناشئا. ومن بالغ الأهمية أن يدرك العرب أن اليهود أسوة باللاجئين الفلسطينيين خلفوا وراءهم ممتلكات كثيرة. وتشير دراسة أعدها موريس رومانو إلى أن حجم الممتلكات والأراضي التي تركها اليهود في الدول العربية بعد قيام دولة إسرائيل يزيد على أربعة ضعاف مساحة إسرائيل، ناهيك عن الأموال الطائلة وممتلكات اليهود المنقولة وغير المنقولة التي تم تجميدها أو استحال بيعها بعد قيام دولة إسرائيل, والتي تقدر بثمانين مليار من الدولارات وهي تفوق بكثير ما تركه وراءهم الفلسطينيون.
ليس من شك في أن تنقية الأجواء وصفاء القلوب وحسن النية مرهون بالانفتاح، وإذا كانت كلمة تطبيع مخيفة بهذا الشكل، فلنستبدلها بكلمة انفتاح التي تشرح الصدور وتبعث شعاعا دفيئا من الأمل نحو مستقبل أفضل.

ليندا منوحين ndash; عبد العزيز، كاتبة وناشطة عراقية الأصل في المجتمع المدني الإسرائيلي وعضو المجلس الإداري لشرق أوسط حكيم