ان ما يميزنا.. هو ايضا ما يوحدنا اوكتافيو باث

الحلقة الأولى: الفكر العراقي سجين الأسلاك والأشواك

مقدمة
كنت قد كتبت فصلة دراسية عن أستاذنا الراحل الدكتور علي الوردي في كتابي (نسوة ورجال: ذكريات شاهد الرؤية) منذ سنوات خلت مسجلا بعض ذكرياتي عنه، ولقد طلب مني بعض الأخوة الأعزاء أن اكتب رؤيتي الفكرية عنه، أو أن أعيد كتابة ما كنت قد نشرته سابقا عنه، فقد آليت أن أقدم هذا المقال عنه لمناسبة ذكراه الطيبة رحمه الله، فالرجل بحاجة ماسة اليوم إلى أن نستذكره دوما، وان نعيد قراءته ونواصل ما بدأه في دراسة طبيعة المجتمع والإنسان العراقيين، نظرا لأهمية ما كتبه منذ أكثر من خمسين سنة.. بل وانه كان قد استكشف أشياء عديدة، وأعلنها بجرأة كبيرة في حين عجز الآخرون عن ذلك تماما، ليس خوفا من السلطات السياسية، بقدر ما كان الخوف والتوجس من السلطات الإيديولوجية والدينية والاجتماعية التي كانت هي الأخرى وراء فجيعة المجتمع العراقي.

الوردي: من هو؟

كان علي حسين وردي، ابن مدينة الكاظمية، قرب بغداد، التي ولد فيها عام 1913، ونشأ وترعرع، ثم درس في مدارسها، ولكنه لم يستطع إكمال الدراسة فتركها عام 1924 وعمل منذ صباه في أكثر من حرفة تكسبا، ولكنه كان شغوفا بقراءة المجلات، وعاد للدراسة المسائية عام 1931، فوجد ذاته وغير زيّه ليصبح علي أفندي ثم أصبح معلما.. وتفوق في دراسته الثانوية وحصل على معدل عال قدر بالثالث على العراق، فتأهّل كي ترسله الحكومة العراقية ببعثة دراسية إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم عاد، فأرسلته الحكومة العراقية إلى الولايات المتحدة ليتخصص في علم الاجتماع وحصل على الماجستير في جامعة تكساس عام 1948، ثم نال الدكتوراه في العام 1950. عاد إلى العراق وانخرط في التدريس بجامعة بغداد عام 1950، وبقي حتى العام 1979 حيث تقاعد معتزا بالدرجة المتميزة التي منحته إياها جامعة بغداد وهي لقب (أستاذ متمرس)، وكان الرجل قد ترك ثروة علمية قوامها 18 كتابا ومئات من المقالات والبحوث.. وتوفي في العام 1995 بعد أن أنهكته الأمراض والأوجاع النفسية والجسدية.

أول استاذ عربي يتخصص في علم الاجتماع
ويعد الدكتور علي الوردي واحدا من أبرز الأساتذة العراقيين الذين نشروا فكرهم الحر ورؤاهم الشجاعة وأطروحاتهم العلمية في مرحلة حيوية من القرن العشرين، حيث كان للمثقف خلالها دوره المشهود في كل من المجتمع والدولة معا. وذاع صيت الدكتور علي الوردي باعتباره أول أستاذ عربي يتخصص في علم الاجتماع، وهو علم حديث جدا لم يتجاوز عمره 50 سنة عندما نال الوردي شهادته فيه، فضلا عن تدفق أعماله الفكرية التي نالت نصيبها من الاهتمام في الساحة الثقافية العربية بعيد الحرب العالمية الثانية، خصوصا وأنها أتت بأفكار مستحدثة وأنفاس جديدة في تحليل قسمات معينة من المجتمع العربي الذي امتاز بتعقيداته وانغلاقاته. درس في العراق وتخصص في أمريكا وعاد يحمل شهادته في علم جديد هو علم الاجتماع الذي افتتح له قسم علمي بجامعة بغداد ولأول مرة في منطقة الشرق الأوسط قاطبة.. ويعد علم الاجتماع من اخطر العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تحسب أنظمة الحكم السياسية في كل مكان له حسابات دقيقة نظرا لأنه يسهم في تفكيك طبيعة المجتمع ويزيد من وعي أبنائه كنقيض للدولة التي تعتز بسلطاتها القوية على المجتمع بالذات.

شخصية علي الوردي
إن شخصية علي الوردي واحدة من الشخصيات العلمية العراقية التي أثرت في الثقافة العراقية، وامتلكت الأداة الطيعة في فهم علم الاجتماع، كما امتلكت القدرة على استيعاب جملة من السجالات والجدالات من دون أن تسعى لتكوين جدل كان ينتظره الرجل طوال حياته من اجل أن يجد أجوبة على تساؤلاته العديدة التي قدمها للحياة العراقية في نصف قرن مضى.. وبالرغم من أن الوردي لم يقّدم أي حلول لمستقبل المجتمع العراقي كونه لم ير ما الذي ستنتجه معضلات المجتمع العراقي في القرن الواحد والعشرين، ولم يجد من يواصل مسيرته العلمية من قبل علماء عراقيين عاشوا مرحلته أو زاملوه، إلا أن العراق اليوم بحاجة إلى من يضيف إلى ما قدمه الوردي من أفكار، والى من يجيب على تلك الأسئلة الذكية التي استنبطها الرجل عن عراق القرن العشرين. إن المجتمع العراقي لا يحتاج إلى أجوبة عما قدمه الوردي من أسئلة، بل انه بحاجة ماسة إلى رؤى جديدة تستلهم من الأعماق ومن صميم المشكلات وبأساليب مباشرة، ذلك أن الوردي عندما كتب أفكاره وشروحاته عن طبيعة كل من المجتمع والإنسان العراقيين كان يعيش في مرحلة لم تكن تناقضاتها مفضوحة كما هي اليوم، فلقد افتقدت النخبة العراقية المبدعة حرياتها اثر ما حل بالعراق من فوضوية ومآس تاريخية اثر العام 1958، وكّبل المجتمع بالصراعات الإيديولوجية، ثم أمسى مسيّجا بأسلاك الأنظمة السياسية التي كانت تحكم الطوق على الفكر العراقي. هكذا، غدا الوردي بالرغم من جرأته الكبيرة عاجزا عن تقديم إجابة واضحة عن حالات الانسحاق التي كان يمر بها المجتمع في العقود الأخيرة من القرن العشرين..

الوردي من الحرية الى الاسلاك.. والاشواك
نعم، فان الوردي برغم كل ما صادفه من نزق بعض المعارضين والمخالفين له، ومنهم من ذهب لينشر كتبا ضده كونه لا يراعي الحرام والحلال، إلا انه رحل، ولم يشهد ما يحدث اليوم في العراق من زرع للأشواك بدل تلك الأسلاك.. أشواك يفرضها المجتمع نفسه ضد كل المفكرين الأحرار الذين ينادون بالحرية والاستنارة والعقل.. أشواك يزرعها الجهلة والمتخلفون ووعاظ السلاطين الجدد! لقد كان الوردي ابن مرحلته، ولكنني اعتقد انه اليوم اكبر من أن يدركه أبناء المرحلة الجديدة، وخصوصا الجيل الذي يبدو انه يؤمن إيمانا أعمى بالأساطير والأوهام والخرافات البليدة.. وعليه، أتمنى أن يحفز كل ما أنتجه الوردي على تفكير العراقيين أنّى كانوا، بادراكهم كم هم بحاجة إلى من يوظف تاريخهم المشحون بكل المصائب في معالجة حاضرهم التعيس وتفكيرهم المبهم.. ويعلموا أن ما قدمه الرجل ـ مثلا ـ في العام 1950 في محاضرته عن شخصية الإنسان العراقي، واسماه بـ quot; الفرد العراقي quot;، وكان ذلك في قاعة الملكة عاليه من نقدات عن ازدواجية السلوك والتصرفات العراقية قد صدق بها.
لقد كان ذلك في زمن الحرية وليس في زمن الأسلاك الشائكة التي فرضت نفسها في الميدان، حدّثني الرجل رحمه الله، قال انه كان يذهب بصحبة أحد معارفه إبان الخمسينيات ليستمع إلى مناقشات مجلس النواب العراقي، ثم ينشر في اليوم الثاني غسيله بإحدى الجرائد وفي مقالاته تلك سخرية وتهكم كان يتابعها الباشا نوري السعيد.. وفي احد الأيام لمحه الباشا جالسا في المجلس فجاء إليه ضاحكا قائلا: دكتور وردي إذا أسويك وزير تبطل نشر ها الغسيل؟ رد عليه قال: أجبته: يا باشا إما أكون كاتبا تحبه الناس أو أكون وزيرا تكرهه الناس! دعني من ها الشغلة أجابه نوري باشا: هو آني اكدر ما اقرا غسيلك! لقد تّرحم علي الوردي على أيام نوري باشا.. وعقّب قائلا وهو يحادث نفسه: نحن اللي جنينا عليه وعلى أنفسنا!
ويسأل كل عراقي نفسه: لماذا أصبح القلم صامتا في زمن لا تجد فيه إلا الكبت والعنف والخوف والتنكيل والتعذيب والمصادرة ليس للرأي وحده، بل للأنفاس وتصفية الناس وكانوا يرددونها ببشاعة وبكل صلافة ودون أي اكتراث: بسيطة، إنها تصفية جسدية، وكأن الإنسان ليس إلا جسدا يمكن طحنه بأي وسيلة، أو سحله بأي حبل، أو تعليقه أو تقطيعه والتلذذ بذلك.. ليس الا مادة قذرة يمكن تصفيتها بالاسيد أو أن تأكلها الكلاب وهي حية ترزق! لقد صدق الرجل في الذي العنوان الذي أطلقه على واحد من كتبه كونه مهزلة العقل البشري.. ولكنه لم يكن يتخيل أن ذلك المجتمع الذي عرف التآلف والتعايش لا يقيم للعقل أي منزلة، ولا يحترم مقدرات الإنسان، ويخاف من الرأي المخالف!

طبيعة المجتمع العراقي: دراسة غير مكتملة
صحيح أن الوردي استخدم منطق العقل متأثرا بابن خلدون، وبالرغم من دعوته إلى الاستقراء، ولكنه ابتعد قليلا عن استقراء كل الظاهرة العراقية كلها.. صحيح انه ابن بغداد واستخدم موروثها عبر القرون المتأخرة في كيفية سيرورة المجتمع العراقي وعلاقاتها بغيرها، ولكنه لم يبتعد عنها إلا قليلا! لم تسعفه وسائله وزمنه وأدواته لكي يحلل لنا، أو يستقرئ علينا كل أشكال أو أنماط المجتمع العراقي في بيئتها كلها.. فما هو في بيئة الموصل لا نجده في بيئة البصرة! وما نجده في مجتمع الجبايش بالجنوب لا نجده في مجتمع اليزيدية في الشمال.. وما نراه عند الأكراد هو غيره الذي يسود عند أهل ديالى او الدليم او العمارة والناصرية.. وحتى في دواخل البيئة المحلية الواحدة، لم يفكك الرجل مجتمع الأكراد وتكويناته من عشائرية وقبلية وحضرية.. أو ما عند الكرمانجيين وتبايناتهم عن السورانيين.. الخ وهكذا بالنسبة للعادات والتقاليد الموروثة المتباينة عند المسيحيين الكلدان عن مسيحيي المدن من اليعاقبة السريان وعليه، وبالرغم من دعوته إلى المنطق الاستقرائي، فهو لم يطبقه كاملا على كل بيئات العراق.. وكنت أتمنى على أستاذنا الوردي أن يكون مثل زميله الدكتور شاكر مصطفى سليم المتخصص في الانثربولوجيا، إذ كان الأخير قد عاش شهورا عديدة في الجبايش، واختلط بهم وعاش كل عاداتهم وتقاليدهم كي يكتب كتابه المشهور عنهم.

المأساة النفسية التي عاشها الوردي
كان الوردي قد أصبح في نهايات القرن العشرين رقما غير مرغوب فيه من قبل السلطة، فكان يعيش خوفا مستترا ويحاذر الالتقاء بالناس.. بل بالأحرى، كما قال لي تخشى أن تلتقي به وخصوصا بعد أن أمرت السلطة بحرق كتبه.. عندما علمت أن ما حصل قد اثبت للعالم صحة الفرضيات والآراء التي نادى بها الرجل، خصوصا عندما وجدت السلطة أن كتب الوردي لا يمكن أن تقرؤها الأجيال الجديدة، فسحبت من كل مكتبات العراق وأحرقت أكداسها في لحظات! تلك شكلت عند الرجل منعطفا بالغ الخطورة، إذ تحطمت نفسيته وهو في سن الشيخوخة.. كان قلبه يبكي دما ألما على تجربته المريرة التي أسداها في خدمة العراق.. كان صابرا محتسبا ولكن اليأس بلغ عنده مبلغا كبيرا.. كان ينتظر الموت لينهي حياته بدل أن يعيش نهاياتها والألم يعتصره ليل نهار.. انعزل عن الدنيا وفي عمّان بالأردن لم أجد في عينيه أية ابتسامة (سأشرح في الحلقة الثانية لقاءاتي به).. إن أقسى ما يصادفه المرء في العراق بالذات عندما يجد نفسه خصما لدودا للسلطة.. ولكن الأدهى والأمّر محنة وقساوة عندما يشعر المرء وهو بمثل هذا الثقل المعنوي وقد انفض الناس من حوله، ولم يعد يهتم به احد! إنها مشكلة صادفها العديد من رجال السياسة والفكر العراقيين المستقلين الذين لم ينتموا أبدا إلى أي حزب أو جماعة أو تيار.. إنها صفة مذمومة ولم نجدها بمثل هذا المشهد عند الوردي حسب، بل وجدناها عند غيره أيضا من أولئك الذين انفض عنهم حتى الأصدقاء الخلص إما خوفا أو كيدا أو نذالة أو كراهية مدفونة أو انتفاء مصالح!!! ففي العراق، قتل الصديق صديقه على المنصب.. ووشى الصديق بصديقه لمصلحة ذاتية، وخان الصديق الأمانة حقدا، وسجّل الصديق تقاريره ضد صديقه بخسة ونذالة! وأودى البعثي بشقيقه الشيوعي من اجل طمع وحظوة!
إن كتبا ومقالات لا حصر لها، كتبت ضد الوردي في عهود مختلفة، لكنه لم يتأثر قيد أنملة منها كونه يؤمن بأن ما كتبه هو الصواب، بل ونزل في بعض الأحيان ليجادل مخاصميه بالحجة والدليل.. ولكنه كان قد شعر بالمهانة تماما عندما تخلى عنه حتى الأصدقاء! قال إنني لا اعتب على أولئك البلداء والجهلة الذين غسلوا أدمغتهم ضدي، ولكن أن أجد نفسي وحيدا في العراق الذي خدمته، فذلك أصعب عليّ كثيرا من مخاصم عنيد يؤمن بالخرافات، أو من جاهل خنيث يحمل شهادة دكتوراه ولكنه بليد العقل والضمير!

الوردي: اعادة قراءة ام مواصلة منهج؟
إن حاجتنا اليوم لا تقتصر أبدا على إعادة قراءة معطيات الوردي، بل التفكير بما لم يتطرق إليه الرجل.. صحيح انه كان ابن مرحلته، ولكن المجتمع العراقي اليوم يتراءى لنا أكثر انقساما وتفسخا وتشرذما.. ربما سيعيد الوردي إلى العراقيين من أبناء الجيل الجديد أفكاره ورواياته ومشاهداته ولكن عن مجتمع لم نجده اليوم! مجتمع اليوم لم يتخيله الوردي بصورته الجديدة! مجتمع الأمس يسهم الوردي بفهم تاريخه كما كان، ولكنه لا يقدم علاجاته اليوم لما هو عليه حالنا! ربما سيستفيد الجيل الجديد من منهجه وأسلوبه البسيط وهو السهل الممتنع المعتمد على سرد الحوادث والظواهر وهو الأسلوب الذي يدركه ويفهمه كل العراقيين.. وسيتعلم منه كيف يتم طرح الأمور.. ولكن مجتمعنا بحاجة ماسة إلى أفكار جديدة تتجاوز أفكار علي الوردي بمراحل.. نعم، لا يمكن للأفكار الجديدة إلا أن تبنى على أسس منهجية ومعلومات وأفكار مضت وفي مقدمته أفكار الوردي، إذ لا يمكن أن تأتي من فراغ، ولكن مجتمعنا العراقي بحاجة إلى فكر جديد ورؤية جديدة إلى الحياة.. وهذا لا يولد إلا من خلال مشروع نقدي علمي جديد له جرأته ومنهجه ورؤيته المعاصرة.. خصوصا وان حزمة كبيرة من المشكلات والمعضلات التي ولدت في السنوات الأخيرة.. أنها بحاجة إلى تشخيص من نوع آخر، والى معالجات من نوع آخر.. ناهيكم عن التشوهات الاجتماعية التي يعاني منها العراقيون قاطبة.. وان من الضرورة تشكيل وعي عراقي اجتماعي جديد للتمرد عليها ولفظها..

واخيرا: ماذا استنتج؟
إن التحديات التي يعيشها المجتمع العراقي اليوم لم نجدها متشابهة أبدا مع تحديات القرن العشرين التي عاشها الوردي.. وعليه فان ما نطالب به هو التأسيس الجديد لعلم اجتماع عراقي تجسده أفكار ورؤى جديدة.. أو استجابات علمية لتحديات عارمة نواجهها اليوم، وسيواجهها الجيل القادم الذي يترّبى اليوم على كل الموبقات والخرافات والعزلة الفكرية والانغلاقات السياسية..

انتظروا الحلقة الثانية

www.sayyaraljamil.com