... هذه المرة يتجه شاكر النابلسي إلى قراءة ونقد الأصولية الإسلامية، وهو في هذا الاتجاه يتخلى طوعا أو كرها عن آليات المنهج القارىء/ الناقد، فيتخفف من هذه الآليات، ويقدم رؤية مبسطة، تأخذ على عاتقها تقديم إشكاليات عويصة تتعلق بظاهرة الأصولية الإسلامية بشكل يسير، ومهادن، وسريع ومتسرع أحيانا.
ففي كتابه الجديد: quot;تهافت الأصولية: نقد فكري للأصولية الإسلامية من خلال واقعها المعاشquot; (المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت 2009) لا يتحرى النابلسي الأهلة القرائية العميقة القادمة من سماوات التأويل، أو تفكيك الظواهر، أو تشريحها، أو التأمل في نصوصها وإضاءة مكامنها، إنما يقدم قراءة طيفية تسعى لوضع عناوين ولافتات ومانشيتات أكثر من التغلغل في العمق، والبحث عن الأصول الفقهية والمعرفية لهذه الظاهرة التي أخذت عقودا طويلة في تناميها، حتى استوت على جودي واقعنا المعاصر، وأصبحت مطوقة للحظاته، مهددة للحاضر والمستقبل معا.
إن اهتمامات النابلسي في جوهرها اهتمامات أدبية وفنية تتوزع بين نقد الشعر والرواية والقصة والموسيقا والفن التشكيلي، وأحيانا تبدو اهتمامات ثقافية وفكرية، وقد ينحو صوب السياسة، أو يعرج نحو التاريخ والتنمية والتربية، وبلغت قائمة مؤلفاته أكثر من خمسين مؤلفا.. هذه الاهتمامات تضعنا حيال كاتب موسوعي يضرب بجرانه في أطراف الفكر والثقافة، بتعددها واختلافها وائتلافها، وفي ظل هذا الوعي فإن العطاء النقدي الذي يقدمه في قراءة الأصولية الإسلامية عطاء يرتكز على مساحة واسعة من التأمل الفكر- نقدي، وعلى خبرة طويلة في الممارسة النقدية التجريبية والنظرية. فكيف قرأ النابلسي هذه الظاهرة الخطيرة التي شهدت في تاريخنا المعاصر فترات مد وجذب، وحضور وتلاش، وخفوت وسطوع؟

السلفية والأصولية:

يقسم شاكر النابلسي كتابه إلى بابين، الأول بعنوان:quot; في السلفيةquot; والثاني بعنوان:quot; في الأصوليةquot;.. وكلا البابين يضمان عددا من المقالات الموجزة التي تتناول هاتين الظاهرتين، حيث يحتوي الباب الأول على (6) مقالات، فيما ينطوي الباب الثاني على (26) مقالة على اعتبار أن الأصولية هي موضوع الكتاب الجوهري.
ويفرق النابلسي بدئيا تفرقة ملفتة بين السلفية والأصولية، فالسلفية أسبق من الأصولية التي لم تعرف بوجهها الآن إلا مع ظهور الإسلام السياسي في النصف الثاني من القرن العشرين، وبدايات القرن الحادي والعشرين، quot; فالإسلام السياسي هو الأصوليةquot; وهناك أوجه اختلاف وائتلاف بين السلفية والأصولية، ويحددها المؤلف في أن السلفية ظهرت في القرن الثامن عشر في مجتمعات تقليدية صحراوية وبدوية على يد الشيخ محمد بن عبدالوهاب في نجد، وانتشرت في أطراف الجزيرة ووصلت إلى بلاد الشام، فيما نشأت الأصولية مع ظهور الإخوان المسلمين في مصر على يد حسن البنا في العام 1928 في مجتمعات مدينية تقرأ وتكتب، وتتابع ما يجري في العالم، وكان أول انتشارها في مصر وبلاد الشام.
وقد عني الأصوليون بالمنظمات والروابط والجماعات، والتجمعات الحزبية والعمل السياسي الجماعي وكل ما من شأنه أن يصبح قوة فاعلة لقيام الدولة الإسلامية، وهم من أنشأ quot; رابطة العالم الإسلاميquot; في مكة المكرمة ومعظم أعضائها كانوا من جماعة الإخوان المسلمين، وكل هذا من أجل أن يقربهم من الخلافة الإسلامية فهدفهم سياسي بالدرجة الأولى، في حين أن السلفيين لم يهتموا بالسياسة بقدر ما اهتموا بإعادة الدين إلى ينابيعه الأولى وإبعاده عن السياسة. ولنصغي هنا إلى هذه النتيجة العجيبة التي خلص إليها النابلسي في قوله:quot;ويلاحظ هنا أن السلفيين أقرب من الأصوليين إلى العلمانية، بما تعني فصل الدين عن الدولة، كما أن الدولة في نظر السلفيين مجرد أداة غير ذات قيمةquot;!!
وتعنى الأصولية بالشروح والتفاسير السابقة ولا ترغب في فتح باب الاجتهاد الذي أغلق منذ قرون طويلة، في حين تنادي السلفية بفتح باب الاجتهاد ولا تعتبر الشروح والتفاسير السابقة، وتعنى الأصولية quot; بالحاضر والمستقبلquot; عناية تعود إلى الهدف السياسي الرئيسي للأصولية، في حين أن السلفية تعنى بالحاضر في الدرجة الأولى لتخليصه من شوائب الماضي المليء بالخرافات والكرامات والتهويمات الصوفية الشعبية.
وتهتم الأصولية اهتماما شديدا بالثورة السياسية، والشريعة، وقضية المرأة، فيرى الأصوليون أن لا وسيلة لعودة المجتمع الإسلامي وإقامة الدولة الإسلامية إلا بعمل اجتماعي وسياسي خارج المساجد ودور العبادة، في حين أن السلفية quot; لا تقيم وزنا للناحية السياسية وتركز اهتمامها على تنقية الدين من شوائب التدين الشعبي وحصر الدعوة داخل المساجد ودور العبادة، والأصولية تفترض أسلمة المجتمع قبل تطبيق الشريعة، بينما تقول السلفية بتطبيق الشريعة من أجل أسلمة المجتمع.
وأما بالنسبة للمرأة ndash; فيما يوضح الكاتب- فالأصولية لا اعتراض لها على تعليم وعمل المرأة، كما هو حال الإخوان المسلمين من عمل المرأة في معظم أنحاء الوطن العربي، في حين أن السلفية تعترض على تعليم وعمل المرأة، وكان موقفهم الرافض ndash; مثالا لا حصرا- من فتح مدارس للبنات في السعودية عام 1962، وكلا الفئتين السلفية والأصولية ترفض رفضا قاطعا التفسير التاريخي للنصوص المقدسة من قرآن وسنة، وتتمسك بالتفسير الحرفي المطلق للنصوص المقدسة.
وقد وجدت السلفية الوهابية ضالتها في الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة واستطاعت أن تطبق الكثير من مبادئها الأساسية خاصة في الدولة السعودية الثالثة، وبذا بردت نارها العقائدية، ولم تلجأ إلى العنف لتطبيق مبادئها، إذ التقت الرغبة والقوة السياسية (آل سعودquot; مع الرغبة والقوة الدينية (آل الشيخ) وخلصا إلى تموضع المجتمع السعودي الحالي بسائر قيمه، في حين أن الأصولية الساعية إلى كرسي الحكم لم تستطع أن تطيح بأي نظام سياسي حتى الآن فلجأت إلى العنف كما نرى في العراق، والجزائر، وفلسطين وأفغانستان.
وتهتم السلفية بوجوب طاعة ولي الأمر، في حين أن الأصولية تسعى إلى قلب الحكم، ووصل الأمر بالأصولية إلى محاولة إعلان الخلافة حتى في الدول الغربية. إذ نادى عمر البكري زعيم quot; تنظيم المهاجرينquot; في بريطانيا برفع الراية الإسلامية فوق قصر بكنجهام في لندن لإقامة الدولة الإسلامية في بريطانيا!! ويضرب الكاتب - مرتكزا على اقتباسات من رضوان السيد - أمثلة للأصولية كما لدى حماس وحزب الله في غزة ولبنان.
وأخيرا اكتفت السلفية باستجابة الدولة (السعودية مثلا) لدعواتها المختلفة في عدم اختلاط النساء بالرجال، والفصل بين الإناث والذكور في المدارس والعمل، وفي ضرورة غطاء الجسم كاملا للمرأة، وليس الشعر فقط، ووجوب إغلاق المحلات العامة في الأسواق في مواعيد الصلاة، وفي عدم بناء القبور وزيارتها. في حين اتجهت الأصولية (متمثلة بالإخوان المسلين في مصر والأردن وفلسطين) إلى العمل الاجتماعي داخل الدولة، وذلك لضمان نجاحها في الانتخابات، ولكسب الشارع العربي إلى صفها، وهذه محاولة من quot; الإخوان المسلمينquot; لأسلمة المجتمع العربي استعدادا وترقبا لإقامة الخلافة الإسلامية التي يسعون إلى إقامتها منذ ثمانين عاما.


الإقناع الطيع/ العصي

في قراءات أخرى بشأن السلفية والأصولية يضع النابلسي جملة من العناوين هي: جذور السلفية وأنواعها، وهي أربعة أنواع: السلفية الشامية، والمصرية، والخليجية، والمغاربية، والقطبية المرضع للسلفية الجهادية، حيث يعد سيد قطب المنظر الأول للأصولية الدينية، والشرع بين الأصولية والسلفية الجهادية، وما حال الإسلام لو لم تظهر السلفية الجهادية؟ويخلص في مقالته الأخيرة بالباب الأول:quot; السلفية الوهابية نظرة مغايرة quot; إلى أن المرجعية الدينية النظرية للسلفية الجهادية المتمثلة بتنظيم quot; القاعدةquot; والجماعات الأخرى، وكذلك للأصولية (الإسلام السياسي) المتمثل بالإخوان المسلمين، وquot;حماسquot; وغيرهما، هي مرجعية قطبية (نسبة إلى سيد قطب) وليست وهابية، فسيد قطب هو الذي يعطي للراديكالية السياسية لمؤسسي القاعدة (أسامة بن لادن وأيمن الظواهري) مصدرها اللاهوتي السياسي الأساس، فالسلفيون الجهاديون يشجبون اليوم تلوث المسلمين بالتأثير الغربي، وتخليهم عن التشريع الإلهي لصالح القانون الوثني، وهذا كله بفضل تعليمات سيد قطب التي كتبها في السجون الناصرية، والمبثوثة في كتابيه quot;في ظلال القرآنquot; وquot;معالم على الطريقquot;.
ومع هذه المقالات الست لا يتسنى لنا ndash; كقراء ndash; أن نقتنع تماما بما أورده النابلسي في هذه التفرقة بين السلفية والأصولية، ذلك لأن المنطلقات الفكرية واحدة لدى الفئتين، فهما تحددان تاريخيا زمن الرسول والخلفاء الراشدين كمقياس لأي فعل ديني أو دنيوي، وهما ترفضان التفسير التاريخي للقرآن والسنة، الصالحين لكل زمان ومكان، وهما ترتكزان على ما جاء به ابن حنبل وابن تيمية، وهما تقفان من قضايا السلطة السياسية والمرأة والعقل والفنون والحضارة والحداثة مواقف متشابهة إلى درجة التطابق، فالحاكمية لله، والمرأة مكانها البيت، والمرأة لابد من أن تتنقب، (في مصر مثلا تقوم أغلب الجماعات الإسلامية بمختلف مسمياتها بوضع الحجاب للبنت من سن 3 سنوات كي تعتاد عليه في مراحل نموها المختلف، وأحيانا يتحول الحجاب إلى نقاب في سن المراهقة) وهما تعتمدان على النقل لا العقل في قراءة الدين والحياة والعالم، وهما تريان أن الحضارة المعاصرة باطلة وفاسدة، وأن الإسلام يحوي كل شيء، وهما تتفقان على تحريم الموسيقا والفلسفة والإبداع الأدبي الحديث والحداثي، وهما تقسمان العالم إلى ديار حرب وديار سلام، ومن هنا فإن ما يتبدى على السطح من خلاف أو اختلاف هو خلاف ظاهري فحسب، أما الجذور والأعماق الفكرية فهي واحدة ومتطابقة.
ولعل الاستاذ شاكر النابلسي إذا أعاد قراءة الواقع المعاش مرة أخرى سوف يعثر على جملة من الوقائع:
- بعض الفتاوى الدينية من بعض رجال هيئة كبار العلماء في السعودية كتحريم ابن عثيمين مثلا للأطباق الفضائية عند دخولها السعودية، ومطالبة المسلمين بتحطيمها.
- الاحتجاجات المستمرة ضد وسائل الحضارة والفن، الرقابة على الكتابة والإبداع، الاعتراض على أي برنامج ثقافي غير ملائم للشروط السلفية، حريق خيمة نادي الجوف الأدبي مثلا الذي كان سينظم أمسية شعرية نسوية، مصادرة الكتب والروايات، إلغاء ندوتي عبدالله الغذامي وعبدالله بخيت بجامعة الإمام والنادي الأدبي بالرياض، التهجم والعراك مع الغذامي في كلية اليمامة، وعلى تركي السديري في معرض الكتاب بالرياض 2008 وتكفير الأدباء والمبدعين (على يد عوض القرني وسعيد الغامدي وعلي التمني مثلا) (وهنا أود أن ألفت إلى أن النابلسي أشار إلى كتاب الغامدي:quot; الانحراف العقدي في فكر الحداثةquot; معتمدا على ما كتبته ونشرته عن هذا الكتاب في العام 2004 دون أن يشير إلى ما كتبته ولو مرة واحدة، مقتبسا من مقالتي التي عنونتها ب:quot; تكفير أكاديمي لأكثر من 200 مبدع عربي - سعيد الغامدي يتناول الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها quot; الإحالات والاقتباسات والصفحات نفسها التي أوردتها من كتاب الغامدي وقد أعرض عن ذلك سابقا ndash; وأجزم هنا أنه لم يقرأ كتاب الغامدي أو يطلع عليه - حين نشر ذلك بصحيفة الراية القطرية )
- كذلك فإن الفئتين تشتركان في الوقوف ضد المصطلحات الفكرية الحديثة: كالحداثة، والعلمانية، والعولمة، وتسمية بعض المشتغلين خلالها بتسميات تؤثر عليهم اجتماعيا، كتسمية الناقد الدكتور عبدالله الغذامي بquot; حاخام الحداثةquot; أو تسمية تركي الحمد بالعلماني، حيث صارت هذه التسمية تهمة للشخص في السعودية، وقد أطلقها أحد المصلين على الكاتب إبراهيم شحبي في المسجد، وصارت قضية عرضت على المحاكم وصنف فيها شحبي كتابا أسماه:quot; حكايتي مع العلمانيةquot; فماذا نسمي هذه الأفعال (وهي مجرد أمثلة بسيطة) هل هي سلفية أم أصولية؟
-الأفعال نفسها تحدث في مصر مهد نشأة جماعة الإخوان المسلمين، وفيها تنتشر جماعات أخرى ndash; تخبو أو تنشط أحيانا- وأبرزها الجماعة الإسلامية، والسلفية، وأنصار السنة المحمدية، والتبليغ والدعوة، والتكفير والهجرة، وكلها تتفق على تحريم الفنون والإبداع، وتسعى لمصادرة الكتب والروايات ودواوين الشعر، بل إن بعض عمال المطابع ممن ينتمون لهذه الجماعات أصبحوا يراقبون الإبداع قبل طباعته، كما حدث مع دواوين شعرية لحسن طلب، ورفعت سلام، وعبدالمنعم رمضان، وحلمي سالم، والأخيرين نوقشت قصائدهما في مجلس الشعب المصري بطلب من الأعضاء المستقلين الذين ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين (المحظورة)، وتمت مصادرة الدواوين التي تتضمن هذه القصائد. هذا فضلا على مئات البلاغات والشكاوى وطلبات الإحاطة البرلمانية حول الأفلام السينمائية، والمهرجانات الفنية والسياحية، والرقصات الشعبية والشرقية، ومصادرة الكتب الفكرية، وحوادث اغتيالات الكتاب والباحثين والتهديد بقتلهم من فرج فودة إلى نجيب محفوظ ونصر أبو زيد وسيد القمني.
هذا التشابه نفسه بين الفئتين ألا يجعلهما يمضيان في ثوب واحد، ونهج واحد، ومعالم طريق واحدة، تحت ظلال الشجرة السلفية الخريفية؟؟!
ثم أتساءل هنا وبموجب الأحداث التاريخية: ألم تكن بداية السلفية المؤسسة في الجزيرة بداية دينية- سياسية، صحبتها بعد ذلك معارك حربية أهلية وخارجية؟؟ وهو الأمرالذي ينقض تماما هذه التفرقة النابلسية بين السلفية والأصولية؟؟