quot;تشاؤم العقل لا يقابله إلا تفاؤل الإرادةquot; (غرامشي)

الضغوط المتزايدة والمتسارعة للعولمة أضعفت الدولة القومية بنيويا، بحيث ظهرت عاجزة عن حماية مواطنيها من فوضي العولمة وتلاطم أمواجها العاتية، وهو ما دفع البعض إلي التلوح بالتدويل والانفصال أو الهجرة، لتصبح الدولة في النهاية مكانًا للتفاوض المستمر، حيث يقيس كل شخص بصورة حادة ودائمة ما يقدمه للدولة وما يحصل عليه منها. لكن هذا هو جزء من الحكاية وليس الحكاية كلها، وإلا كانت quot;الهندquot; علي سبيل المثال، هي الأسرع والأقرب للإصابة بفيروس التفكك في عصر العولمة، حيث يتميز سكان الهند بعدم التجانس أصلا، ويشكلون أكبر فسيفساء تضم 1600 طائفة عرقية ودينية ولغوية، ويصل عدد لهجاتها المحلية 1652.

المشكلة الأساسية التي تواجهنا في المنطقة العربية بعد قرنين كاملين، أي منذ أن دشن محمد علي الدولة المدنية الحديثة في مصر، هو أننا لم نحسم بعد التساؤل الجوهري حول طبيعة الدولة في عصر العولمة وما بعد الحداثة السياسية، وما زلنا حائرين في ماهية تلك الدولة وهل هي حقا مدنية، أم دينية. وحين يتوه الجميع في دوامة خلط المفاهيم يصبح المخرج الوحيد هو: quot;دولة مدنية ذات مرجعية دينيةquot;، أو دولة دينية ذات غلاف مدني. وفي كل الأحوال تنتعش المؤسسة الدينية، وتلعب أدواراً مركبة ومتعددة في الحياة العامة، وتتدخل بدرجات متفاوتة في العمل السياسي العام، وتدلي بدلوها، عبر الفتاوى والعظات العامة في أمور مدنية بحتة.
هذه الحالة الفريدة التي هي أقرب إلي quot;دولة شبه مدنيةquot; أو بالأحري quot;دولة شبه دينيةquot;، لا تضمن quot;العقدquot; الإجتماعي بالمعني الحديث وإنما quot;تمزقهquot;، فما نعايشه اليوم في داخل كل بلد عربي هو حالة من (الفوضي القدرية)، تتمثل في تجاور كيانات منفصلة ومنعزلة في مطلع الألفية الثالثة، تنتمي ثقافيا واجتماعيا إلي عصور شديدة التباين والاختلاف، بعضها ينتمي إلي العصر الجاهلي وبعضها الآخر ينتمي إلي الحداثة المشوة والبعض الثالث ينتمي إلي ما بعد الحداثة المنقوصة، وهذه الفوضي القدرية بحاجة ملحة إلي مشروع سياسي عاجل، وعقد اجتماعي جديد ينظم التعايش وليس (التجاور)، ويقوم علي مبادئ التسامح والاحترام المتبادل بين الفاعلين الاجتماعيين المختلفين، والذين يعيشون في وطن واحدrlm;، قبل الحديث عن أيه علاقات حقيقة بين الشعوب العربية والدول العربية.rlm;
ولا سبيل لنجاح هذا المشروع السياسي الوطني وهذا العقد الاجتماعي الجديد، إلا في ظل quot;الدولة المدنيةquot; الديموقراطية الليبرالية، التي تضمن حقوق وحريات كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن الدين أوالجنس أوالفكر، فالمواطنة، تقوم على قاعدة المساواة بين المواطنين فى الحقوق والواجبات،وهي لا تتحقق إلا في دولة مدنية ديمقراطية تعددية دستورية تصون كرامة المواطن وقناعاته في ممارسة معتقداته وأفكاره بالشكل الذي يؤمن بها في إطار الدستور الذي أقره الشعب، كما يقول د.خالد يونس خالد في بحثه القيم: quot;الديموقراطية الليبرالية والدولة المدنية الدستوريةquot;.

بينما نجد أن quot;الدولة الدينيةquot; تتمتع بالسطوة الدينية والسياسية معا، وهي ترفض الديموقراطية لأن الشعب ليس مصدر السلطات وإنما الشرع الديني، وبذلك ليس للشعب دور في الحكم. فضلا عن أن رجل دين في quot;الدولة الدينيةquot; يستطيع ان يكفر الرأي المعارض والمختلف معه، لأن السلطة التي يستمدها رجل الدين في المجتمعات الذي لم تتعلمن بعد quot;فوق الحريةquot; أو قل ان هذه السلطة هي التي تحدد quot;مساحة الحريةquot; وضوابطها، وهذا يتماشي تماما مع المساحة ذاتها التي تريدها السلطة السياسية.

وهناك سيناريوهات ثلاث مطروحة علي دول منطقة الشرق الأوسط، وفي القلب منها مصر، تتمثل في: تغيير الجغرافيا بالتقسيم أو تعديل الحدود، وإما بتغيير البشر بالانصهار القسري أو الإبادة أو الهجرة، وإما تغيير المؤسسات بجعلها أكثر ديمقراطية اعتمادا على فكرة المواطنة. يدعم هذه السيناريوهات أن المشكلات والأزمات والتحديات الجديدة في عصر العولمة (ما بعد الحداثة السياسية) تتطلب نظاما لا مركزيا عالميا يرتكز علي دوائر أو مستويات أوسع من حدود وقدرات الدولة القومية ذات السيادة، بالنسبة إلى بعض الأمورrlm;، وأضيق من هذه الحدود والقدرات في أمور اخرىrlm;، أو قل ان الدولة أضحت اليوم أصغر كثيرا من أن تقدر علي الأشياء الكبيرةrlm;، وأكبر كثيرا من أن تقدر علي الأشياء الصغيرة، ناهيك عن أن مفهوم quot;السيادةquot; - -Sovereignty سيزول تلقائيا في القريب العاجل، حين تعتمد الديمقراطية معيارا عالميا، بحيث لا تنضم للمنظومة الدولية الجديدة إلا quot;دول ديمقراطيةquot; بدلا من quot;دول ذات سيادةquot; المستعملة الآن.

[email protected]