من المعلوم أن الخطاب هو الكلام الصادر عن مفكرين تجمعهم لغة واحدة ورؤية واحدة وهو الكلام الذي يدور في الأوساط والتجمعات والذي يعبر به الفرد والجماعة عن واقعهم وطموحاتهم ويصفون به تاريخهم ويعرف الجابري الخطاب بأنه * quot;نص رسالة من الكاتب إلي القارئ والنص هو وسيلة اتصال تماما كما الحال بين المتكلم والسامع ولكنه اتصال كتابي وهو بناء من الأفكار وموضوع لعملية إعادة بناء أي نص للقراءة. أما عن الخطاب العربي فيقول بأنه الخطاب الصادر عن مفكرين عرب بلغة عربية وفكروا فيه في أفق عربي.
ونحن نعيش واقعا محكوما بسياسات توجهنا بخطابها نحو تحقيق أغراضها ضاع التعريف الحقيقي للخطاب والذي يتضمن في حقيقته نظاما استراتيجيا يتحكم بالفرد ليصبح مجموعة كلمات قد تقرؤها أو تسمعها وتشاهدها ونتبادلها وقد نتوارثها وإن لم نعالج مسار خطابنا العربي والاسلامي خاصة، فهي تخفي في حقيقتها أهدافا محددة لا تمت لمشكلاتنا بصلة بل تضاعفها ,وهنا تكمن خطورة هذا الطرح.
لقد بات من الضروري أن يجد الباحث والمهتم والمثقف والعادي مدخلا واحدا من بين المداخل التي يطرحها المفكرون ليفسروا اتجاهات خطابهم في هذا العصر الفوضوي نتيجة للصراعات التي لا تحسم. فأصحاب الرأي والسلطة من القادة والساسة لهم الكلمة الفصل في تحديد اتجاهات الخطاب وتوجيهه نحو أهدافهم التي تخدم مصالحهم وتنشر قناعاتهم تحت مختلف المسميات،فعبر المراحل التاريخية نجد أن الخطاب بوجه عام مر بمراحل متعددة تبعا لتعدد التوجهات السياسية والاجتماعية وما تعيشه من إرهاصات، فالتاريخ الاجتماعي والسياسي كان لا يفصل بينهما فواصل فالمجتمع يمارس السياسة والسياسة تقوده إلى أهدافه التي تبنيه.
ولو حاولنا تأريخ الخطاب لتحديد اتجاهاته فإننا لابد ألا نحدده ضمن مجال خاصquot; ففي بدايات القرن التاسع عشر الميلادي أدرك دعاة الإسلام خطر حملات التبشير التنصيري التي واكبت الاحتلال الأوروبي للبلاد الإسلامية، وكان إلى جانبها نشاط استشراقي مكثف يهدف إلى تشكيك المسلمين في دينهم، وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم، وسيرة النبي، والمفاهيم والتشريعات الإسلامية،وذلك ما طفحت به كتب كثير من المستشرقين ودراساتهم.
فانبرى المخلصون الواعون من علماء الأمة بألسنتهم وأقلامهم وأرواحهم لردّ هذه الهجمات العاتية، وبذلوا قصارى جهدهم للوقوف أمام تلك الموجات العارمة، رغم محدودية إمكاناتهم قياساً بقدرات الغزاة اللا محدودة. وفي العقود الأولى من القرن العشرين للميلاد، كانت هناك معركة أخرى تنتظر دعاة الإسلام، هي أشد شراسة من حملات التنصير وشبهات الاستشراق، وهي مواجهة المدّ الشيوعي والتيارات العلمانية المناوئة للدين. ذلك أن معظم التيارات العلمانية التي ظهرت في البلاد الإسلامية، أخذت منحى المحاربة والمناوأة للدين، بخلاف معظم تيارات العلمانية في الغرب التي التزمت الحياد تجاه الدين والخطاب الديني والتحديات الداخلية quot; وبذلك انفصلت الحياة الاجتماعية عن السياسة ونشأت في جوف الثقافة العربية صراعات بين الأصالة والمعاصرة بين الدين والعلم بين القديم والحديث بيت الخلافة والدولة الوطنية بين الهوية والحداثة بين الأنا القومية والدينية بين العلمانية وتطبيق الشريعة بين الاكتفاء الذاتي (الانغلاق ) والانفتاح بين رفض الآخر والتثاقف.
وقد استثمرت هذه التيارات المناوئة أرضية السخط والرفض للواقع السيئ المتخلف لدى جماهير الأمة، وتبنت شعارات الثورة والنهوض، داعية إلى التنكر للدين والتخلص منه، لأنه يتحمل مسؤولية تخلف الأمة وانحطاطها وتمكنت هذه التيارات من استقطاب شرائح من أبناء الأمة، ووصلت إلى مواقع السلطة والحكم في عدد من البلدان العربية والإسلامية، عبر الانقلابات العسكرية، والتنظيمات الحزبية.
فكانت المعركة عنيفة قاسية في بعديها الفكري والسياسي، حيث عانى دعاة الإسلام من قمع الأنظمة التي انبثقت من هذه التيارات المناوئة.
و ما كاد ينتهي القرن العشرون حتى انحسر مدّ تلك التيارات.***
لكن الصراع هو السمة الغالبة على هذا العصر والفصل قائم والنتائج تبدو واضحة وأثرها كان بالغا على الخطاب العربي عامة والإسلامي خاصة لما للخطاب من دور بالغ الأهمية في تشكيل الواقع وقراءته ؛فلو أردت قراءة واقع أي مجتمع فانك ستتوجه لمعرفة خطاب مثقفيه ومفكريه وما يتداوله العامة فيما بينهم.
إن الخطاب الذي بيننا الآن يعكس صورة الصراعات التي نعيشها ويعيشها الواحد منا حتى بينه وبين نفسه وهو أيضا ينطلق من هذه الصراعات ليرسم صورة التعصب والعنف الناتج عن ضعف الخطاب الديني في حواره مع نفسه أولا ,و بالتالي مع الآخر نتيجة للأسباب السابق ذكرها فالتعصب والعنف يتشربه الإنسان من واقعه وسياقه التاريخي ولغته(الخطاب ) وكل ذلك يتحول إلى فكر وسلوك مستبطن مقبول يكاد لا يعيه أحد إلا الذي يفكك (الخطاب) ويبحث عن المضمر المندس فيه الذي يوجهه من غير أن ينتبه إليه أحد.
الخطاب الديني يرتكز اليوم على اتجاهات سياسية واقتصادية تتحكم في مضمونه لأنه يقع تحت سيطرتها بحكم حالة الضعف التي يعيشها المفكر المسلم اليوم نتيجة لاستبعاده من دوائر صنع القرار.
وقد ابتعد الخطاب الديني عن الاتجاه الصحيح وانطلق بقوة مخطط لها نحو اتجاهين فكان محاربة الإرهاب والعنف والتشدد اتجاهه الأول وقضايا المسلم في العبادات والفرائض الاتجاه الثاني وهذا يمثل صرفا للخطاب عن أداء دوره الحقيقي في توجيه المجتمع العربي والاسلامي نحو الدور الرئيسي وهو الخروج من مأزق التخلف الحضاري وأزمة الشعور بالنقص أولا ثم قيادة العالم نحو السلام والقيام بالدور الحقيقي الذي كلفه الله به حينما استخلفه في الأرض
واتضحت لنا هذه الاتجاهات الخطيرة للخطاب الإسلامي مع إعلان أمريكا الحرب على الإرهاب* بعد اعتداءات 11 سبتمبر والمصدوم في أرجاء المشهد الثقافي والديني أصواتُ عاقلة تداعت نداءات صادقة بضرورة تجديد الخطاب الديني، وضرورة البحث عن منابع ثقافة الكراهية وبؤر محرضات التطرف الديني وهذا يعني أن تحديد العلاقة مع الغرب يمثل أحد المحاور الأساسية في الصياغة الفكرية للخطاب الإسلامي الجديد،. مما يؤكد انحراف الخطاب الإسلامي عن اتجاهه وتشتت موضوعاته.
نخلص في خاتمة الموضوع إلى أن السياسات الداخلية والضغوط الخارجية المحيطة بالوطن العربي ككل ساهمت بشكل كبير وفعال عبر المراحل التاريخية المتسلسلة في التأثير على الخطاب العربي الإسلامي وتحوله من الهجوم إلى الدفاع عبر الأزمات السياسية المتلاحقة إلى أن أصبح يعيش أزمة حوار مع الذات ومع الآخر بمعنى انه تم اختراقه ولم يعد له التأثير البالغ في توجيه السياسات التي تحقق الأهداف وتحل الأزمات الراهنة بل صار بعيدا عن اتجاهات الفكر الإنساني الذي ينادي به الإسلام وانطلق من خلالها وانصب الخطاب منهمكا في تحليل اتجاهات الواقع العربي داخل أطر تقليدية وصراعات محتدمة بين توجهاته المختلفة والمتضادة بدلا من مواجهتها, فعليه الآن أن يتلمس اتجاهات الفكر الإسلامي وينطلق من خطابه الجديد بمضمون صريح وقياس ملتزم في خطواته مع نفسه ومع الآخر.
هوامش
* محمد عابد الجابري: الخطاب الإسلامي الجديد ص 8،9
** الكاتب : سماحة الشيخ حسن الصفار)الخطاب الديني والتحديات الداخلية
*** نفس المصدر السابق

باحثة وكاتبة ليبية