التصريحات الأخيرة التي أدلى بها رئيس وزراء نظام الملالي في إيران أحمدي نجاد لشبكة أي بي سي الأمريكية، وبثتها القناة يوم الأحد الموافق 26 أبريل 2009، معلنا فيها صراحة (أن حكومته ستدعم أي قرار يتخذه الشعب الفلسطيني بما في ذلك حل الدولتين.... لن نقرر شيئا، أي قرار يتخذونه سنعمل على دعمه)، متعمدا أن تواكب تصريحاته الجديدة هذه الاحتفالات الإسرائيلية بالذكرى الحادية والستين لقيام دولة إسرائيل. هذه التصريحات ليست نقلة نوعية في تصريحات نجاد كما رأى بعض المعلقين والمحللين بقدر ما هي عودة للمستور في السياسة الإيرانية فيما يخص العلاقة مع إسرائيل. صحيح أن الإمام الخميني قام بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وإغلاق سفارتها بعد وصوله للسلطة عام 1979، إلا أن قطع العلاقات الدبلوماسية في الأعراف الدولية لا يعني عدم الاعتراف بوجود تلك الدول التي قطعت العلاقات الدبلوماسية فيما بينها. إن قطع العلاقات الدبلوماسية وسحب السفراء يعني الاحتجاج على مواقف معينة بدرت من دولة تجاه دولة أخرى، بدليل أنه في العلاقات العربية ndash; العربية تمت أكثر من حالة سحب سفراء بين بعض الدول، وآخر مثال هو قطع العلاقات الدبلوماسية وسحب السفراء بين المغرب وإيران، وهي الخطوة التي اتخذها المغرب احتجاجا على ما اعتبرته تدخلا إيرانيا في شؤونها الداخلية ومحاولات التبشير بالمذهب الشيعي.
خطوة الخميني دعائية فقط
لقد أدرك الخميني مبكرا أن اللعب بعواطف الجماهير العربية والإسلامية هي أفضل الطرق وأسرعها لكسب تعاطف العرب والمسلمين، خاصة أنه يدرك أن نظامه الذي أطلق عليه اسم (الجمهورية الإسلامية في إيران) وإعلانه العمل بنظريته (الولي الفقيه) سوف تخلق تخوفات كثيرة من توجهات نظامه المستقبلية الطائفية، لذلك كان إغلاق السفارة الإسرائيلية في طهران ورفع العلم الفلسطيني فوقها، مجرد لعبة عاطفية للضحك على عقول الجماهير المولعة ولو نظريا بمسألة تحرير فلسطين. والدليل على ذلك التحرشات الإيرانية بالنظام والدولة العراقية فور استلام الخميني للسلطة،ومحاولات التدخل في الشأن العراقي من منطلقات طائفية، إلى درجة أنه في الثالث والعشرين من أبريل 1980 أصدر بيانا قال فيه: (تمر الشعوب الإيرانية وبخاصة الشعب العراقي....) أي أنه يعتبر الشعب العراقي شعبا إيرانيا، متناسيا أن العراق استضافه 14 عاما في النجف أيام هروبه من نظام الشاه. هذه التحرشات هي التي أدت إلى نشوب الحرب العراقية ndash; الإيرانية في سبتمبر 1980 أي بعد أقل من عامين على وصول الخميني للسلطة، وهي الحرب التي كشفت استمرار العلاقات الإيرانية ndash; الإسرائيلية رغم قطع العلاقات الدبلوماسية عام 1979، بدليل صارخ ومعروف للجميع وهي صفقات تزويد إسرائيل لنظام الخميني بالسلاح في مواجهة النظام العراقي، وهي الفضيحة التي عرفت باسم (إيران جيت)، مما يعني أن إسرائيل كانت ترى الخطر في النظام العراقي وليس في نظام الخميني رغم قطعه للعلاقات الدبلوماسية معها.
وكذلك تصريحات نجاد النارية
إن هذا التصريح الأخير لأحمدي نجاد أيضا ليس مفاجأة رغم تصريحاته الداعية لمحو إسرائيل من الخارطة طوال السنوات الأربع الماضية وإنكار الهولوكست، التي كان هدفها فقط التشويش على الجهود الدولية إزاء الملف النووي الإيراني، وهو يعرف أن إسرائيل لن تغضب من تصريحاته تلك لأنها تدرك أن تلك التصريحات مجرد خطابات غوغائية لا يقصدها نجاد ونظام الملالي ، فإسرائيل هي المستفيد منها لأنها حشدت لها تأييدا دوليا لم تكن تحلم به كما صرح بذلك أكثر من مسؤول إسرائيلي. والدليل على ذلك هو:
أولا: التناقض الذي يصل درجة الكذب في تصريحه الأخير، فهو يريد دعم ما يقرره الشعب الفلسطيني بعد سنوات من تصريحات غوغائية بمحو إسرائيل، وهو يعرف أن الشعب الفلسطيني منذ المجلس الوطني في الجزائر عام 1988 يعلن صراحة الموافقة على قيام دولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967 أي الاعتراف بدولة إسرائيل ضمن تلك الحدود، وتم تأكيد ذلك في اتفاقية أوسلو عام 1993، فلماذا يتذكر نجاد ذلك فجأة ليعلن دعم نظامه لذلك، بعد سنوات من الغوغائية الداعية للتحرير و إبادة إسرائيل ودعم حركة حماس على حساب إضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية وتشتيت الصف الفلسطيني. لماذا لم يدعم منذ البداية توجه السلطة الفلسطينية هذا المعروف والمعلن؟ بدلا من ذلك استفرد بعلاقات داعمة لحركة حماس وحدها أدت إلى استقوائها على السلطة الفلسطينية وقيامها بانقلابها العسكري الذي جرّ المصائب على الشعب الفلسطيني.
ثانيا: الملاحظة التي يقفز عنها غالبية مناصري النظام الإيراني هو أنه في نفس وقت إطلاق تصريحات نجاد النارية ضد إسرائيل، كان مسؤولون آخرون من نظامه يطلقون تصريحات عكسها دون نفيه واستنكاره لها، ويكفي التذكير بما نقلته صحيفة quot;اعتمادquot; وquot;وكالة أنباء فارس quot; في العشرين من يوليو 2008 من تصريحات لنائب نجاد المدعو quot; اسفنديار رحيم مشائي quot; قال فيها حرفيا: (إيران صديقة الشعب الأمريكي والإسرائيلي. ما في أمة في العالم هي عدوتنا وهذا فخر لنا quot;. ومن المعروف أن اسفنديار مشائي هو نائب الرئيس أحمدي نجاد وصهره في الوقت نفسه، فابنته متزوجة من أبن أحمدي نجاد.
فكيف نفهم تصريحات محو إسرائيل من طرف أحمدي نجاد وتصريحات الصداقة مع إسرائيل من طرف نائبه وصهره؟. وهي تصريحات منسجمة تماما مع تصريحات نجاد في الرابع والعشرين من سبتمبر 2008 لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، وهي التصريحات التي أكدّ فيها استعداد بلاده للاعتراف بإسرائيل. والغريب أن أصدقاء إيران لم يركزوا على هذه التصريحات ربع تركيزهم على تصريحاته الغوغائية بمحو إسرائيل. فكيف نفهم ونصدق محو إسرائيل في خطاب والاستعداد للاعتراف بها في مقابلة صحفية، سوى أنه سياسة مقصودة للتلاعب بعواطف العرب والمسلمين بما يحقق مصلحة نظام الملالي فقط؟؟.
هل نلوم إيران على تأييدها لقيام الدولتين؟
هذا التحليل لا ينبغي أن يفهم منه أنه نقد للنظام الإيراني لإعلانه الصريح تأييده للخيار الفلسطيني المعلن أساسا وهو خيار قيام دولتين مستقلتين فلسطينية وإسرائيلية، وذلك كي لا يقول أنصاره: لماذا تلوم النظام الإيراني على ما يوافق عليه الفلسطينيون والعرب؟. لكن المقصود منه كشف حجم التضليل الذي مارسه النظام الإيراني طوال السنوات الماضية، من خلال الخطابات والشعارات الغوغائية التي أضرت بسمعة العرب والمسلمين في المحافل الدولية، وشجعت الانقسام الفلسطيني الداخلي، لأنه لولا الدعم الخطابي والمالي الإيراني لحركة حماس لما أقدمت على خطواتها الانقسامية في الساحة الفلسطينية، ولنا أن نتخيل الوضع الآن لو أن النظام الإيراني ألقى بثقله وراء السلطة الفلسطينية التي تعترف بها غالبية دول العالم بأنها هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني!!.
ما هو المتوقع مستقبلا؟
أتوقع في ميدان العلاقات الإيرانية الإسرائيلية في المستقبل:
1. توقف النظام الإيراني بعد الانتخابات الرئاسية القادمة عن الخطابات الغوغائية المهددة بإزالة إسرائيل وإنكار الهولوكست، سواء نجح أحمدي نجاد أو بعض منافسيه.
2. عدم الاعتراف العلني السريع بدولة إسرائيل وإقامة علاقات دبلوماسية معها، لأن هذه الخطوة تحتاج للتريث كي لا تكون صدمة للقوى العربية والإسلامية المؤيدة للنظام، وبدلا من ذلك القيام بخطوات علاقة سرية مثل بعض الدول العربية.
3. استمرار النظام الإيراني في تهديد الجوار العربي بدليل أن التصريحات الخاصة بالاعتراف بقيام دولتين فلسطينية وإسرائيلية، صاحبها تصريحات استفزازية حول (إيرانية الجزر الإماراتية الثلاثة) المحتلة منذ عام 1971، فقد أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية حسن قشقاوي في الثامن عشر من أبريل 2009 (أنّ الجزر الثلاث طنب الكبرى والصغرى وأبو موسى هي جزء لا يتجزأ من التراب الإيراني وستبقى كذلك إلى الأبد). وكذلك فيما يتعلق بتسمية الخليج بأنه (الخليج العربي)، فقد جدّد النظام الإيراني مزاعمه الخاصة بأنه (الخليج الفارسي)، إذ اعتبر علي أكبر ولايتي مستشار علي خامئني في الثلاثين من أبريل 2009 (أنّ تسمية الخليج العربي بدل الخليج القارسي مؤامرة بريطانية، وأن البريطانيين هم أول من طرح هذه التسمية ). رغم أن المنطق يقول أنه كون القاطنين على سواحله هم عرب فلا مانع من تسميته بالخليج العربي، لكنها العنصرية الفارسية التي تعتبر كما أثبتنا ذلك سابقا بأن الشعب العراقي هو من الشعوب الإيرانية، مع التذكير باستمرار احتلال الأحواز العربية منذ عام 1925، مما يعني أن الخطر الإيراني نحو الجوار العربي خطر قائم وليس وهم مختلق.
[email protected]