تداعيات مظاهرات الشعب الإيراني الأخيرة التي وصلت حد انتفاضة جماهيرية، لم تتوقف رغم تراجع واضح لنسبة وعدد المتظاهرين في الشوارع، خاصة بعد خطبة علي خامئني يوم الجمعة التاسع عشر من يونيو 2009 التي توعد فيها المتظاهرين باستعمال القوة المفرطة ضدهم، إن استمروا في تظاهراتهم واحتجاجاتهم التي أخذت بعدا أكبر من الاحتجاج ضد نتيجة الانتخابات بل ضد هيكلية النظام نفسه، القائمة على فكر مطلق غير قابل للنقاش كونه يتمتع برضا وتأييد (ولي الفقيه) الذي يعني في المنظور الخميني، وكيل الله في الأرض وبالتالي من له الحق في مناقشة وكيل الله المنزه عن الخطأ والضلال، بدليل أن خامئني أثناء تهديده للمتظاهرين، أعلن صراحة أن نظامه لن يستجيب لمطالب الشارع الإيراني بأي شكل، مذكرا هذه الجماهير المنتفضة (أن إيران ليست جورجيا)، مشيرا بذلك للثورة الوردية السلمية التي قامت بها جماهير الشعب الجورجي في نوفمبر من عام 2003، وانتهت خلال ساعات بالإطاحة بالرئيس إدوارد شيفرنادزة، وهرب من الباب الخلفي للبرلمان أثناء إلقائه كلمة في برلمان اتهمته المعارضة بتزوير انتخاباته. وخامئني أراد أن يقول للمتظاهرين الإيرانيين (أنا خامئني و وكيلي أحمدي نجاد لسنا شيفرنادزة كي نسمع لمطالب الجماهير، فعودوا لبيوتكم و إلا ستواجهون بالعنف)، وهو أساسا لم ينتظر فقد أوقعت صدامات شرطته ومخابراته مع الجماهير المتظاهرة سلميا عشرات القتلى ومئات المعتقلين من بينهم العشرات من الصحفيين الإيرانيين.

شهادة خامئني بحق رفسنجاني

دافع ولي الفقيه علي خامئني في خطبة الجمعة تلك عن رئيس مجلس تشخيص النظام ورئيس مجلس الخبراء علي أكبر هاشمي رفسنجاني رافضا الإساءة إليه، وقال عنه حرفيا: quot; إنني أعرف رفسنجاني منذ 52 عاما وهو من المناضلين في الثورة الإسلامية، وكان إلى جانب الإمام روح الله الخميني وهو يقف إلى جانب القيادة حاليا). كانت هذه الشهادة بحق رفسنجاني في التاسع عشر من يونيو 2009، فماذا قال رفسنجاني بحق النظام في خطبته يوم الجمعة السابع عشر من يوليو الحالي في جامعة طهران أي بعد شهر ويومين من شهادة خامئني الإيجابية للغاية بحقه؟.

رفسنجاني يشكك في نزاهة النظام

كان المتوقع من ولي الفقيه وأعوانه أن يكون موقف رفسنجاني داعما لهم بعد تلك الشهادة الإيجابية بحقه من ولي الفقيه علي خامئني شخصيا، إلا أن رفسنجاني خيّب آمالهم في خطبة الجمعة المذكورة في جامعة طهران، نفس المكان الذي ألقى فيه خامئني خطبته المتضمنة الدفاع عنه، فماذا قال رفسنجاني في خطبته عن النظام؟

- (ما الذي علينا فعله في هذا الوضع؟. إنّ مهمتنا الأولى هي استعادة الثقة التي كانت لدى الشعب والتي فقدت اليوم إلى حد ما).

- (ليس من الضروري في الوضع الراهن أن يتم سجن الناس. دعوهم يعودون لعائلاتهم، يجب علينا أن لا نسمح لأعدائنا بأن يلوموننا وأن يهزأوا بنا بسبب الاعتقالات. علينا أن نسامح بعضنا البعض).

- (إن عددا كبيرا من حكماء البلاد قالوا أن لديهم شكوكا حيال نتائج الانتخابات، وعلينا إذن أن نعمل من أجل الرد على شكوكهم).

- (لقد خسرنا كل شيء. نحن اليوم بحاجة أكثر من أي وقت إلى الوحدة...أولئك الذين أصيبوا في الحوادث بحاجة إلى التعويض عليهم).

- (إن ما يجري في البلاد هو الأزمة السياسية).

وبالإضافة لما سبق،

طالب رفسنجاني بإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين فورا، ورفع القيود عن عمل الصحافة كخطوة لتهدئة التوترات، كما انتقد صراحة (مجلس صيانة الدستور) معتبرا أن المصادقة على نتائج الانتخابات لم تستغل المهلة المحددة للتحقق من الأصوات. فهل هناك تشكيك بالنظام وفقدان الثقة به أقوى من هذه الشهادات الصادرة من شخصية لها هذه المناصب المهمة الآن، وكان رئيسا سابقا للجمهورية الإيرانية؟.

لذلك كان الهجوم عليه عنيفا

من العديد من أنصار (الديكتاتور) و (الخصوم) كما هتف المصلون الذين استمعوا لخطبته، دون أن يسمّوا من هو (الديكتاتور) رغم أنه معروف للجميع فهو (أحمدي نجاد) و (الخصوم) هم خصوم المعارضة والمتظاهرين...وعينة من هؤلاء الخصوم الذين هاجموا رفسنجاني:

محمد يزدي عضو مجلس صيانة الدستور

لقد هاجم رفسنجاني بعنف متهما إياه أنه وراء المظاهرات التي شهدتها إيران. (إن الصمت الطويل لهاشمي رفسنجاني والذي تجاوز 50 يوما، يوضح أن الرجل كان وراء الاضطرابات التي حدثت في البلاد....إن هذا الرجل طرح أمس شبهات تتعلق بالانتخابات وموضوعات فقهية وأصولية تتناقض وفكر الثورة السياسي والاعتقادي). وأخطر ما جاء في هجوم يزدي قوله: (إن شرعية الحكومة مستمدة من الله، وموافقة الشعب لا تعني شرعية الحكومة. لقد أهمل رفسنجاني هذا المبدأ الإسلامي وتحدث وكأن الحكومات يعينها الشعب فقط). ولا أعتقد أن هناك شمولية وديكتاتورية استبدادية أكثر من هذا القول، فأي مبدأ إسلامي يعتبر الحكومات المشكلة من أفراد مختلفي التوجهات في كل دولة، تستمد شرعيتها من الله تعالى؟. وهذا يعني في النتيجة الميدانية عدم أحقية وأهلية أي شخص أن ينتقد الحكومة كونها تستمد شرعيتها من الله.

وكذلك حسين شريعتمداري

رئيس تحرير صحيفة كيهان اليومية فقد اتهم هاشمي رفسنجاني بمساندة الخارجين على القانون، وانتقد توصيف رفسنجاني لما تمر به إيران بأنه (أزمة سياسية)، معتبرا أنها مؤامرة. وهذا يعني في عرفه أن ما لا يقل عن ثلاثة ملايين إيراني تظاهروا ضد النظام وقمعه، هم مجرد حفنة من المتآمرين دون أن يقول لحساب من تآمروا!!. ووصف شريعتمداري خطبة رفسنجاني ب (أنها الأسوأ في تاريخ الثورة الإيرانية). وهذا صحيح من وجهة نظره المؤيدة للنظام، لكنها ألأجرأ في تاريخ الثورة لأنها جاءت بهذه القوة من داخل صفوف قيادات الثورة، ومن شخص بحجم ووزن وتأثير رفسنجاني. ومن المعروف إيرانيا أن ولي الفقيه علي خامئني هو من يعين شخصيا رئيس تحرير صحيفة كيهان لذلك فهي الصحيفة الناطقة باسم النظام وملاليه.

وأيضا وزير الاستخبارات الإيراني

غلام حسين محسني هاجم رفسنجاني لأنه كان ضد ترشيح أحمدي نجاد، وفي هذه النقطة استعمل شماعة إسرائيل لأنها حسب قوله، كانت مثل رفسنجاني لا تريد ترشيح ونجاح أحمدي نجاد. لكنه لم يقل لنا ما هو تصنيفه للملايين الإيرانية التي تظاهرت ضد النجاح المزور لنجاد في الانتخابات، فهل هذه الملايين الإيرانية أيضا تأتمر بأمر إسرائيل؟.

ما هو هدف رفسنجاني من هذه الانتقادات؟

اختلفت الآراء والتحليلات، فمنها من يرى أنه يعرض وساطة بين المعارضة والنظام القائم، إلا أن التدقيق في نوعية هذه الانتقادات التي أوردها لا توحي بذلك، فأية وساطة بين المعارضة ونظام يرى رفسنجاني أنه فقد ثقة الشعب وأنه يمر بأزمة سياسية، ويشكك بشكل غير مباشر في نتائج الانتخابات الأخيرة بدليل أورده هو مصادقة مجلس صيانة الدستور على فوز أحمدي نجاد قبل انتهاء المدة المقررة للتدقيق في نتائج الانتخابات. لذلك فإن الرأي الأكثر إقناعا هو أن رفسنجاني يهدف إلى تغيير في بنية النظام وأفكاره وممارساته بدليل ما أعقب خطبته هذه:

أولا: استمرار المظاهرات رغم القمع العنيف

وذلك فورا عقب انتهاء خطبه وصلاة الجمعة في جامعة طهران، فقد خرج للشوارع ألاف من مؤيدي المعارض مير حسين موسوي، وانتشر ألاف منهم في الحرم الجامعي وهم يلفون معاصمهم برباطات خضراء، اللون الذي كان رمزا لحملته الانتخابية، وكعادتها تدخلت الشرطة وعناصر ميليشيا الباسيج لتفريق المتظاهرين بقوة وعنف وعيارات مطاطية، واعتقلت العشرات من بينهم الناشطة البارزة والمحامية شادي صدر، وكان المتظاهرون يرددون (أحمدي نجاد...استقل...استقل...استقل). وقد ذكر موقع (حزب اعتماد ملي) بزعامة مهدي كروبي أن الشرطة اعتدت عليه، وقد صرّح بذلك نجله حسين قائلا: (عندما ترجل والدي من سيارته عند مدخل الجامعة، هاجمه رجال باللباس المدنية وشتموه وأوقعوا عمامته أرضا، لقد قذفوه بعبارات نابية وبذيئة...وبعد ذلك شاهدت مسؤولا بالزي المدني يهنىء رجاله على ما أنجزوه من عمل جيد).

ثانيا: مواقف محمد خاتمي الجديدة

فقد دعا الرئيس الإيراني السابق محمد علي خاتمي يوم الأحد التاسع عشر من يوليو الحالي إلى إجراء استفتاء عام حول الانتخابات الرئاسية الأخيرة في إيران. وقال خاتمي: (إن الاستفتاء هو السبيل الوحيد لاستعادة ثقة الشعب الإيراني في نظام الحكم في البلاد...إن الشعب يجب أن يستفتى حول ما إذا كان راضيا عن الأوضاع الحالية؟..إن استمرارية النظام وتواصل التقدم في البلاد رهن باستعادة ثقة الشعب). وقد أيدته في دعوته هذه (جمعية رجال الدين المجاهدين) التي تضم رجال الدين الإصلاحيين، معتبرة (أن ملايين الإيرانيين فقدوا الثقة في العملية الانتخابية).

وهذا هو خاتمي وجمعية رجال الدين المجاهدين يؤكدون على الثقة المفقودة بين النظام والشعب التي أشار إليها أيضا هاشمي رفسنجاني، لذلك فإن كل هذه التطورات مجتمعة تؤكد أن شرخا كبيرا حصل بين النظام والشعب الإيراني، مما يعني أن أنظمة الاستبداد الشمولية لن يطول عمرها، فنظام الملالي رغم تستره بالدين لن يكون في مواجهة الشعب الإيراني أقوى من نظام الشاه البائد. وتبقى أهمية الإشارة إلى أن كل هذه الملايين المتظاهرة ومعها كل هذه الشخصيات الإصلاحية، من المستحيل أن تكون كلها عميلة للخارج، بل إنها عميلة للشعب الإيراني الذي فاض به الكيل.
[email protected]