ترجمة عبد العزيز جدير : نظمت جمعية الآداب الإفريقية-وهي جمعية أمريكية- مؤتمرها الخامس والعشرين بمدينة فاس، خلال شهر مارس من سنة 1999، وذلك تحت شعار quot;العلاقات بين الشمال والجنوب ودول الشتاتquot;. وقد دأبت هذه الجمعية على تنظيم مؤتمر سنوي-منذ تأسيسها قبل ثلث قرن- لتدارس قضايا الآداب الإفريقية وخصوصيتها وأوضاع الكتابhellip; وقد عقدت الجمعية المذكورة كل مؤتمراتها بالولايات المتحدة الأمريكية إلا ثلاثة حيث عقدت واحدا بإبادان بنيجيريا، وآخر بداكار بالسينغال، والثالث بفاس بالتاريخ المشار إليه أعلاه. وقد حضر هذا المؤتمر ست مائة مشارك من أساتذة وجامعيين وباحثين وكتاب من القارات الخمس، وقدمت خلاله قرابة أربعمائة مداخلة. وقد قدمنا شخصيا عرضا بعنوان: quot;صورة المدينة في ثلاث روايات إفريقية زنجية: quot;ميمونةquot; لأبدولاي سادجي، quot;مدينة قاسيةquot; لمونغو بيتي وquot;حكام الندىquot; لجاك رومان: دراسة مقارنةquot;. وتميز هذا المؤتمر بفاس بمنح جمعية الآداب الإفريقية جائزتها السنوية للشاعر والروائي المغربي عبد اللطيف اللعبي الذي أعطانا نسخة من نصه قصد ترجمته.. ويبين النص مشاعر ومسؤولية الكاتب الذي يظل ملتزما ويقول quot;لاquot; ويطرح الأسئلة الصعبة من قبيل quot;حينما يكتب الكاتب فهل هو قادر أم هو مضطر أن يسكت في داخله المواطن الذي يعنى بشؤون الحاضرة؟ كيف يمكن لنشاط فردي، كالكتابة، أن يكون تضامنيا؟ ألا يمكن اعتبار الانخراط في قضية ما، مهما كانت نبيلة، مجازفة بإضعاف الروح النقدية عند الكاتب، وإضعاف الحس النسبي وجدل التناقض المرتبط بكل يقين وبكل ممارسة؟ الكاتب الذي يلتزم أخلاق الكتابة ولا يتنكر لماضيه وقيمه ويقول quot;لاquot; في وسط أصيب بلعنة قول quot;نعمquot; وعلى رأس هذا الوسط من يحمل القلم..

إن الأحداث السعيدة قليلة جدا في حياة الكتاب الأفارقة. إن حقائق قارتهم، التي يزعم أنها قارة فتية بينما هي شاخت قبل الأوان، هي حقائق مؤلمة للغاية حتى أنها لا تترك أي استراحة لضميرهم المعذب بطبعه. لذلك اسمحوا لي، خلال لحظة، أن أتذوق، بكل بساطة، هذه الفرحة التي تمنحها لي جمعية الآداب الإفريقية وهي تخصني بجائزتها السنوية.
لكن وأنا أقول هذا الكلام أشعر أن سعادتي أصبحت سعادة عابرة. وأدركت، في الوقت ذاته، أن التكريم الذي أحظى به يحملني مسؤولية معنوية متزايدة. فالأمر لا يتعلق بواحدة من تلك الجوائز التي تفيد في الترويج لموضة أدبية موسمية. إننا أبعد ما نكون عن أنوار مقدمة المسارح وواجهات المحلات وأضواء قاعات التجميل وكل ما يدير آلة الربح.
وإذا ما تمثلت جيدا المعايير المحددة لمنح جائزة فونلون نيكولز إلى كاتب معين وجب أن أقول إننا في قلب الأخلاق، ولذلك أرغب في تخصيص مجمل خطابي لهذا المفهوم.
يمكن أن تبدو كلمة أخلاق قوية عندما نربطها بالأدب. وفي نهاية المطاف، إذا ما القينا نظرة نافذة على تاريخ الأدب نكتشف أن هذا التاريخ ليس هو الحقل المفضل للفضيلة كما قد نعتقد. إنه حقل للنشاط الإنساني يشبه كل الحقول الأخرى تقريبا حيث التناقضات والأهواء في أوجها يتبعها موكبها من المصالح، ومن رهانات السلطة وإغراءاتها، ومن الحب والحقد، ومن الغيرة والتواطؤ، ومن الطيبة والنذالة، ومن الحقيقة والخطأ، ومن إرادة القوة والإيثار البهي. وداخل هذا المسرح الفسيح للوعي الإنساني لا يكون الكاتب دائما تلك الصخرة الصلبة التي يعتقد أنها كذلك، ولا ذلك اليقظ الذي لا يعرف النوم، ولا ذلك الوعي الحاد الذي لا يفوته أي شيء. إنه بدوره كائن مثلكم ومثلي بقوته وضعفه، وسهولة انكساره وحدوده، ومعارفه وثغراته، ورؤاه الثاقبة وقصور نظره، وجنون الأمل ونوبات اليأس لديه، وحبه للحياة واضطرابه أمام لغز الموت، ثم حاجاته الأكثر بساطة، الأكثر كونية للحب والسلم وللسعادة أيضا.
لكن عندما 'أنسننا' الشخص على هذا الشكل إلى درجة ابتذاله طرح سؤال آخر يتعلق بمسؤوليته الخاصة انطلاقا من اللحظة التي اختار فيها النشاط الذي يمارسه وليس نشاطا آخر. وفي نهاية المطاف، ولكي نمثل لذلك نقول من اختار ممارسة مهنة الطب فهو يعلم أن عليه أن يؤدي قسم أبوقراط قبل أن يشرع في مزاولة المهنة. فالإخلاص لليمين هو الذي سيحدد طريقة أدائه لعمله سلبا أو إيجابا.
يمكن أن يرد علي أن المثال لم يحسن اختياره لأن الكاتب ليس ملزما بأي قسم ولا بأي تعهد مسبق. فالكتابة عمل اختياري يمكن الكاتب من التوجه إلى الآخرين ومن أن يقترح عليهم قراءته للواقع الإنساني. والقراء بدورهم أحرار في قبول هذا الاقتراح أو التوجه إلى وجهة أخرى.
للوهلة الأولى يبدو الاعتراض واردا. لكنه لن يصمد أمام تحليل ما يشكل خصوصية الممارسة الأدبية، ذلك أنه إذا كان هناك للأدب من أخلاق فهي لا تكمن يقينا في أمر أخلاقي يفرض عليه من الخارج. وهذا لا يعني أن هذا الأمر غير وارد، بل يمكن القول إنه كان القاعدة خلال مرحلة قريبة نسبيا من تاريخ الأدب، وخاصة تاريخ الآداب الإفريقية. إن الوضع الذي كان سائدا كان ينطلق من تقويم متناقض للدور الاجتماعي للأدب ولوضع الكاتب. فالكاتب كان ينظر إليه كحامل للوعي، كمرشد بل كنبي. لكنه لم يكن قادرا على القيام بهذه الوظائف المختلفة إلا لأنه كان ينخرط في مشروع اجتماعي يعده ويطبقه على رجال الإيديولوجيا والسياسيين المحنكين. إن التزام الكاتب لن يكتسب شرعية إلا إذا انخرط في حزب أو في حركة جماهيرية أو في جهاز الدولة، أو إذا انخرط فيما كان يسمى بالفكر الجماعي.
لقد مر معظم الكتاب الأفارقة بهذه التجربة، وترك فيها، بعضهم، جزء من روحه، وعاشها آخرون كتجربة نارية يجب القيام بها ليشارك شعبه، حقيقة آلامه وطموحاته ومعاركه. وعلى أية حال، إن المرحلة التاريخية المعنية بتحليلنا لا تترك أي مجال للهامشية. فقد كان من الضروري أن يتحول 'الأنا' 'نحن'، وكانت الثقافة سلاحا للنضال، لكنه سلاح مساعد. إن أولوية السياسة كانت أمرا لا يقبل الجدل.
إن سوء الفهم الذي كان وما يزال يحيط بقضية الالتزام يأتي حقا من هذا الأمر. إنه يترجم إشكالا حقيقيا. حينما يكتب الكاتب، فهل هو قادر أم هو مضطر أن يسكت في داخله المواطن الذي يعنى بشؤون الحاضرة؟ كيف يمكن لنشاط فردي، كالكتابة، أن يكون تضامنيا؟ ألا يمكن اعتبار الانخراط في قضية ما، مهما كانت نبيلة، مجازفة بإضعاف الروح النقدية عند الكاتب، وإضعاف الحس النسبي وجدل التناقض المرتبط بكل يقين وبكل ممارسة؟
أعتقد أن هذه الأسئلة ستظل مجردة، وكذلك الأجوبة التي يمكن أن نقدمها عليها ما دمنا لم نعالج المادة الحية، تلك التي هي مركز تفكيرنا؛ يعني الكتابة. لكن يجب مباشرتها من الداخل، في عملية تطورها من حيث الإعداد أو التلفظ، في ذلك الالتحام الغريب في عراك يخوضه الكاتب ضد صمت الكلمات العنيد. وبناء عليه تطرح قضية الأخلاق نفسها من زاوية مغايرة. فمن أمر خارجي تصبح أمرا جوهريا بالنسبة للعمل. فما سيحدد قضية الأخلاق هو الموقف الذي سيتخذ في مواجهة الكتابة. أريد أن أتحدث عن المعركة التي يخوضها الكاتب بلا انقطاع ضد نفسه لكي لا يستسلم للسهولة، للتقليعات، للرتابة وكي يستبعد كل فكرة تتعلق بالمكتسب quot;النهائيquot; عندما يتعلق الأمر بعمله. إن هذا المستوى من الإلزام (القيد) هو الذي يقوده إلى وضع ذاته موضع سؤال عندما يشعر أن كتابته رصنت، تجمدت في بلح بحر، استقرت في علاقته باللغة، في قدرته على ابتكار أشكال جديدة.
إن وضعا كهذا يقع على طرفي نقيض من وضع الكاتب الذي يصوغ أسلوبا، والذي عندما يعتقد أنه عثر عليه يرضى عليه ليطور بهدوء مهنته. وسيتجنب إذا كل قطيعة من شأنها أن تزعزع الجمهور الذي نجح في quot;ضمان وفائهquot;، كما يقال بلغة أهل التجارة.
إن أول إلزام ذي طابع أخلاقي هو إذا بالنسبة إلي ذلك الالتزام من دون حسابات في مغامرة الكتابة، ذلك الرفض للتبسيطية، لكل تنازل من أجل الرواج والشهرة والخضوع للنمط الأدبي السائد. إن فعل الكتابة هو تمرد دائم ثمنه معروف: التهميش. لكن هذه الحرية القصوى ليست قابلة للتفاوض بشأنها أو لتقدير ثمنها. إنها هي التي تؤسس، في اعتقادي، ضربا من الحقيقة التي يمكن للكلمة أن تنشدها.
انتقل الآن إلى مستوى ثان حيث تنكشف علاقة الكتابة بالأخلاق. وإذا كان المستوى الأول داخليا فإن الثاني ينطلق من الداخل نحو الخارج. إنه ينتج عن الأول. فإذا كانت الكتابة تشتغل بالنسبة إلي وفقا لأخلاق، فإنها تنقل قيم هذه الأخلاق وتفرض على الكاتب أن يكون منسجما مع متطلباتها في مجموع ممارساته الاجتماعية والفكرية ومتطلبات الحياة.
إنني أعرف أننا نواجه مشروعا خطيرا، ويجب على المرء أن يكون فاقد البصيرة لكي لا يلاحظ أنه توجد في عدة حالات، شهيرة أحيانا، فجوة كبيرة بين الكاتب وعمله. شخصيا قضيت زمنا طويلا قبل أن أقبل هذه الحقيقة وأن اقرأ، من دون أحكام مسبقة، أعمال بعض الكتاب الموهوبين ولكنهم كأشخاص لا يستحقون الاحترام إلا قليلا.
وإذا كان القدح في هذه الحالات لا يجدي شيئا فإن ذلك لا يمنع من المقاومة على المستوى الشخصي ضد الفجوة ومن البحث ليس على الانسجام الكامل، ولكن على الأقل، عن الاتساق بين مستلزمات العمل ومستلزمات الحياة. فما قيمة عمل أدبي لا يقوم إلا على الظاهر بدل أن يجلو الباطن؟ إنه سيساهم في البهتان المنتصر الذي سيسعى إلى جر الثقافة نحو متاهتها ويفتح الطريق لهمجية جديدة.
وأخيرا يبدو لي أن الإلزام الذي ينكشف في الكتابة هو الذي يحدد كل أنواع الإلزام الأخرى. فبالاستسلام لهذا الإلزام يصبح الكاتب أكثر حرية. وبقبوله لدقته يخلق دقته هو. وبحرصه اليومي على لقائه به يصبح الكاتب حاضرا بالنسبة لذاته وبالنسبة للعالم ويبقى رهن إشارة الأصوات التي ستستعير صوته، ويستقبل الحياة كهبة ويسارع في إعادة القربان عنها.
إن الأدب لا يجني شيئا من ابتعاده عن مبدئه الإنساني. بالعكس إنه سيضعف ويفقد بالتدريج الملكات التي تمكنه من أن يكون في قلب المغامرة الإنسانية ومن أن يخوض المعركة من أجل الدوافع الجميلة كالحياة والحب والأمل والدعوة، دون كلل، إلى انتفاضة الضمائر. بالنسبة إلي، الكتابة هي قبل كل شيء فعل من أجل الكرامة في مواجهة الكوميديا والتراجيديا الإنسانيتين. إنها تجعل البلاهة واللامبالاة والتنازل والتعصب أمورا لا تطاق. إنها مدرسة الإلزام والحرية وبذلك فهي إحدى فضائل الإنسان النفيسة.