من مفكرة سفير عربي في اليابان

وصل الممثل الأمريكي المتميز دينزل واشنطن إلى طوكيو في الشهر الماضي لحضور حفل افتتاحية فلمه الجديد quot;فلايتquot;، الذي صور بشكل درامي سينمائي جميل صراع الانسان في عصر الرأسمالية الفائقة بين إدمان العادة والذكاء الروحي. ويناقش هذا الفيلم مشكلة البحث عن النشوة والسعادة من خلال عادة الادمان في الجنس البشري. ولنتذكر عزيزي القارئ بأن انتشار ظاهرة الادمان ليس محدد فقط بالمخدرات والكحول والتدخين والقمار، بل أيضا معرض الإنسان للإدمان حتى في الشرب والأكل وسماع الموسيقي ومتابعة الانترنت ومشاهدة التلفزيون، لا بل أيضا الإدمان على مغامرات شراء الأسهم وبيعها. ولنتذكر أيضا دور شركات العولمة برأسماليتها الفائقة في خلق بيئة الادمان من خلال شركات الدعاية والإعلام التلفزيوني والسينمائي، وأرتباط كل ذلك بضعف مستوى اخلاقيات العمل في شركات العولمة الجديدة، التي تناضل إداراتها لكي تسجل ربحية قليلة الأمد ربع سنوية، لإرضاء المستثمرين المعروفين بركضهم على شراء الأسهم والتخلص منها، تبعا لربحيتها القصيرة الأمد ومدى تأثير ذلك على أداء الشركات وإفلاسها. كما يبحث العقل البشري عن النشوة أو السعادة أحيانا بالرجوع للإدمان بالوسائل السالفة الذكر، فهل فعلا تحقق هذه الوسائل النشوة والسعادة المرجوة للبعض؟ وهل هناك خلط بين مفهوم السعادة والنشوة؟ وهل علينا التفريق بين النشوة الآنية والسعادة الحقيقية؟ يقول الراهب البوذي ديلجو رينبوش: quot;الباحث عن السعادة في نشوة الادمان، أو الغنى، والقوة، أو الشهرة، أو البطولة، هو كالطفل الساذج الذي يحاول مسك قوس قزح، متخيلا بأنه معطف يريد أن يلبسه.quot; فإذا لم تكن النشوة هي السعادة، فما هي السعادة إذا؟
لقد تحدث الكثير من الكتاب عن الحب، وتربية الأطفال، والسعادة، في رواياتهم، وخير من كتب عن ذلك الكاتبة شارلوت برونتي، وقد عبرت عن مفهوم السعادة في أحد رواياتها قائلة: quot;أستغربت حينما سمعت طبيبي يتكلم عن زراعة السعادة! فقلت له: هل تزرع السعادة؟ كيف يمكنك ذلك؟ فهل السعادة بطاطة لتزرع وتغذى بالسماد وتروى بالماء؟quot; والسؤال لعزيزي القارئ: هل فعلا نحتاج لجهد كبير لكي نزرع السعادة في نفوسنا، ونغذيها باللطف وحسن الخلق، ونرويها بالتفاؤل والرحمة والبهجة، لتتفتح أزهارها في أروحنا، وتتشعب جذورها في مجتمعاتنا؟
لقد بحثت مجلة الاكيونوميست عن سر السعادة في القاعدة المعلوماتية العالمية للسعادة، فوجدت ارتباط السعادة بالعوامل الشخصية والاجتماعية كالاستقرار العاطفي والعائلي والعقائدي. وبينت هذه الدراسة بأن المتزوجين والمتفائلين أكثر سعادة من العزاب والمتشائمين، كما أن الشخصيات المتفتحة اجتماعيا والمحافظة عقائديا أكثر سعادة من الشخصيات المنغلقة واللبرالية. والغريب بأن الدراسة بينت أن الممرضات أكثر سعادة من موظفي البنوك، كما أن المتدينين، والناشطين جنسيا، وخرجي الجامعات، والقريبين من مواقع وظائفهم، أكثر سعادة من أقرانهم، وعلقت المجلة بالقول: quot;الأغنياء يطربون بالحياة أكثر من الفقراء، ولكن نشوة طربهم لا يزيد من سعادتهم.quot;
ودرس الباحثون سبب قلة السعادة بين الأمريكين، بالرغم عما يقال عنهم من أنهم يمتعون بالحرية والفرص والغنى، فوجدوا بأن السبب الرئيسي هو سوء التصور بان السعادة استحقاق طبيعي، لا يحتاج للعمل الجاد لتحقيقه. فالأمريكيون يعملون ساعات طويلة لتحقيق السعادة، ولكن يعانون من ارتفاع نسب الطلاق للضعف، مع زيادة نسب انتحار المراهقين لثلاثة اضعاف، وارتفاع نسب الجريمة لأربعة أضعاف، وتزايد عدد السجناء لخمسة أضعاف، كما زادت نسب أمراض القلق والكآبة. ويعاني المجتمع الأمريكي من ثقافة الاستهلاك، والتزمت الديني، والفساد السياسي، والسلبيات المرافقة للتطور التكنولوجي. ويعلق الفيلسوف الأمريكي، أريك هوفر، على كل ذلك بقوله: quot;الشعب الأمريكي مهووس بالبحث عن السعادة، وذلك هو السبب الرئيسي لانعدام سعادته. بينما يعتبر الشعب السويسري من أكثر الشعوب سعادة، ويربط سعادته بجمال الطبيعة، وكفاءة الحكومة، ودقة مواعيد المواصلات، وقلة نسب البطالة، بالإضافة لنظافة الحمامات. وارتبطت السعادة في الدول الإسلامية بالإرادة الإلهية، بينما يشغل الشعب التايلاندي نفسه بالعمل لكي يكون سعيدا، ولذلك ليس لديه الوقت لمعرفة معنى السعادة. وتعتقد شعوب الدول الاقل سعادة بأن قلة سعادتها هو نتيجة للشعور العام بعدم الثقة في مجتمعاتها وانتشار الوساطة والفساد والغيرة.quot; ويعتقد جان جاك روسو بأن: quot;المجتمع البشري بأكمله يريد أن يكون سعيدا وليستطيع أن يحقق هذه الرغبة علية معرفة ما هي السعادة.quot; والسؤال: هل من الممكن أن نعرف السعادة؟ فهل هي أحساس قناعة، أم طمأنينة نفسية، بتوفر الصحة، وحاجيات الإنسان الفسيولوجية، كالشراب والغذاء والجنس والملبس والمسكن، والحاجيات النفسية، كالعمل المنتج ووفرة الاصدقاء وبناء العائلة مع توفر الأمن والاستقرار المجتمعي والتناغم بين الإنسان والطبيعة؟
لقد كتب العالم الفرنسي ماثيو رتشارد في كتابه، السعادة، يقول: quot;حينما كنت في العشرينات لم تعني كلمة السعادة لي الكثير. فقد كنت نموذجا للشاب الباريسي، أشاهد أفلام انشتين وماركس، اعزف الموسيقى، اخرج في مظاهرات جامعة السوربون، وأحب الرياضة ومشاهدة الطبيعة. فلم أعرف كيف أقيد حياتي بل كنت العبها يوما تلو اليوم الآخر. ولكني أحسست بأن هناك طاقات يمكن أن تزهر في داخلي، ولكن لم اعرف كيف أحقق ذلك.quot; ويتذكر الكاتب حديث لبعض زملائه بعد تخرجهم من الجامعة، حينما سئلت زميلته عما تريد أن تفعل بعد تخرجها. فردت بأنها تريد أن تكون سعيدة. فأستغرب أحدهم فسألها: quot;كيف يمكن لشخص موهوب مثلك ألا يريد إلا أن يكون سعيدا.quot; فردت بقولها: quot;ولكني لم أقل كيف أريد أن أكون سعيدة. فهناك طرق كثيرة للسعادة: الزواج، الأطفال، الوظيفة، المغامرة، مساعدة صديق، وإيجاد طمأنينة النفس الداخلية.quot; ويعتقد رتشارد بأن كلمة السعادة هي كلمة مبهمة، مع إنها تعرف الكفاءة التي يعيشها الإنسان كل لحظة من حياته. كما يعرفها علماء الاجتماع بأنها الدرجة التي يقيم الشخص كفاءة حياته ايجابيا، ودرجة حب الإنسان لحياته التي يقودها.
وكتب العالم الفرنسي لوكا كافالي سفوقزا يقول: quot;السعادة لا تأتي عفويا فهي ليست هدية يجلبها الحظ السعيد ويأخذها الحظ التعيس، بل خلق السعادة تعتمد على الشخص نفسه، تبنى تدريجيا بالجهد والمثابرة والصبر يوم تلو اليوم الآخر، ولذلك يحتاج كسبها للجهد والوقت الكثير، ولكي نصبح سعداء نحتاج لمعرفة كيف يمكن ان نغير انفسنا.quot; ويعتقد علماء النفس: quot; بأنه بالعمل الجاد والمضني، لتغذية الانفعالات الايجابية في نفوسنا، يمكنننا من أن نهيئ حقول لزرع ورود السعادة في نفوسنا وأذهاننا، ومع أن الجهد الجسمي له حدوده الفسيولوجية، ولكن آفاق الذهن واسعة، لزرع زهور الحب والطمأنينة والرحمة في القلوب، والتي تجلب الغبطة والسعادة.quot; ولنا لقاء.


سفير مملكة البحرين في اليابان