من مفكرة سفير عربي في اليابان

يرجع تاريخ مملكة البحرين لأكثر من خمسة ألاف عام، حيث كانت مركز لحضارة ديلمون، التي كانت تعتبر أرض الخلود، حيث كانت تدفن موتى المنطقة فيها، للاعتقاد بأن من يدفن في أرض ديلمون، يرجع من جديد لحياة أبدية. وهناك أكثر من مائة وسبعين ألف من المدافن الديلمونية في مملكة البحرين، وتحتوي هذه المدافن على كنوز تاريخية، حيث كانت تدفن الموتى مع ممتلكاتهم المتواضعة، للاعتقاد بأنهم سيحتاجون لها، حينما يرجعون للعيش حياة أبدية رغيدة. ولكون مملكة البحرين في منتصف طريق السلك التجاري، الذي ربط الحضارة الفرعونية بالحضارة الصينية، فقد كانت منذ القدم مركز استراتيجي وتجاري هام، لذلك توجد بمملكة البحرين الاثار التاريخية لمختلف العصور، من العصر الديلموني، وعصر الأغريق، والرومان، وحتى عصر الامبراطورية الاسلامية، وعصر الأمبراطورية العثمانية، ومن ثم التاريخ الأوربي الحديث، من البرتغاليين وحتى البريطانيين. وقد استقلت مملكة البحرين من بريطانيا العظمى في عام 1971، وفي مرحلة حرجة من تاريخ العالم، حيث كانت الحرب الباردة على أوج نيرانها بين الفريقين الرأسمالي الغربي والشيوعي السوفيتي. وقد بدأت تجربة الحداثة البحرينية في هذه الفترة الحرجة، كما كان عليها فرضا، الاختيار بين أحد المعسكرين، فوجدت مستقبل حداثتها في نظام الرأسمالية الغربية، بعلومها وتكنولوجيتها وتجارتها، لا في الشيوعية السوفيتية. لذلك تعرضت مملكة البحرين لعواصف صراعات جبهات متضادة، من شيوعيين، واشتراكيين، وماركسيين، وحتى القوميين، والناصريين، والإسلاميين بمختلف ألوانهم، وأقنعتهم. ولكن استمرت الدولة في مملكة البحرين الاصرار على طريقها في الحداثة منذ سبعينيات القرن الماضي، فوضعت دستور للبلاد، وشكلت برلمان منتخب، وقد ترافق ذلك بإرهاصات معقدة، عطلت عمل الحكومة، مما أدى لتجميد التجربة البرلمانية، مع الاستمرار في عملية الحداثة.
فاختارت الدولة حكومة فاعلة، استطاعت أن تجمع خيرة التكنوقراط من البحرينيين، للعمل على تحقيق برنامج الحداثة، فدعمت المشاريع التجارية والصناعية، كما نجحت الحكومة خلال ثلاثة عقود تطوير الرعاية الصحية والتعليمية، بعد أن ارسلت عدد كبير من الكفاءات البحرينية لتخصص في مجالات مختلفة، كما طورت الخدمات الاسكانية والبنية التحتية في البلاد، وعملت الدولة على توفير الوظائف للمواطنين، وحدثت خدمات الحكومة، بتطوير ديوان الخدمة المدنية وإدخال الحكومة الالكترونية، كما طورت خدمات الرعاية التقاعدية والبطالة. فخلال ثلاثة عقود تحولت مملكة البحرين من قرية تاريخية صغيرة، لدولة حداثة متقدمة، ولتصبح مركز مالي وتجاري وصناعي، بتنوع اقتصادها الوطني.
وفي عام 2001، تحركت مملكة البحرين لمرحلة الحداثة الثانية، لتهتم بتطوير نظامها الديمقراطي، ورأسماليتها اللبرالية، واقتصادها المندفع، ومن خلال الرؤية الاقتصادية لعام 2030. ولم تبدأ الألفية الثالثة إلا وبمملكة البحرين في طريقها للتحول إلى مملكة دستورية، بعد أن صوت 98.4% من شعب مملكة البحرين على ميثاق عمل وطني، لتبدأ طريقها في تجربة ديمقراطية فتية جديدة، كما فتحت سوقها على العالم، وطورت قوانينها التجارية الدولية، بالتوقيع على اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومع دول كثيرة أخرى. وقد نشطت في هذه الفترة تيارات سياسية متباينة، عاشت صراع شديد على السلطة، فحاربت بعضها البعض، بل وانفصلت عن بعضها البعض، لتتفتت لمجموعات صغيرة متناحرة ومتنافسة، ولتبرز من خلالها مجموعات متطرفة، تطالب بالقضاء على المملكة الدستورية، وتحويلها لجمهورية ثيولوجية. وقد استغلت هذه المجموعات فرصتها حينما بدأ في نهايات عام 2010، ما سمي في دول الغرب، بانتفاضات الربيع العربي، والتي هي في الحقيقة انتفاضة عالمية، بدأت من في شوارع نيويورك ولندن وانتشرت في باقي الدول الاوربية وامتدت لمنطقة الشرق الاوسط، بعد أن تحولت الرأسمالية من رأسمالية عدالة اجتماعية، إلى رأسمالية عولمة متوحشة، زادت من تباين الثراء، وانكمشت معها الطبقة الوسطى الغربية التقليدية، كما زادت من نسب الفقر فيها. وقد تأثرت مملكة البحرين من انتفاضة العولمة هذه، حينما خرج في شهر مارس من عام 2011 مواطنيها، كمواطني باقي دول العالم مطالبة بإصلاحات اقتصادية اضافية، وقد استغلت مجموعة متآمرة هذه الظروف، لتدفع بالمطالبة للقضاء على المملكة الدستورية، والدفع لنظام جمهورية ثيولوجية. وقد قررت دول الخليج أن تقف وقفة أبية لمنع أن تنتهك قدسية عروبة مملكة البحرين. وقد استغلت هذه الارهاصات من جماعات متطرفة، حاولت خلق الشقاق بين فئات المجتمع البحريني المتماسك، باستخدمها التزمت، والعنف، والطائفية سلاحا. والحمد لله، فبحكمة جلالة ملك البلاد، تمكنت الدولة السيطرة على الوضع، واستمرت في طريق الحداثة والإصلاح.
وتعيش مملكة البحرين اليوم مرحلة جديدة على المستوى الوطني، والخليجي، والعربي، والشرق أوسطي، والعالمي، حيث قربت موعد الانتخابات النيابية والبلدية، بعد أن أكد جلالة الملك بحلم، وحزم، وحكمة، على ضرورة استمرار تطور التجربة الديمقراطية بمملكة البحرين، فحددت تاريخ الانتخابات القادمة، وتم توزيع المناطق الانتخابية، بثوبها الجديد. كما جمعت حوارات القوى السياسية المختلفة، ووضعت في صورة توافقية، عرضها سمو ولي عهد البلاد، على خيرة من الكفاءات البحرينية، العلمية، والاكاديمية، والصناعية، والتجارية، ليؤكد، بشكل غير مباشر، بأن الاصلاح هو عملية تنمية اقتصادية مستدامة، تحتاج لخيرة عقول وتكنوقراط البلاد، وليست منحصرة على جهود السياسيين التقليديين. والسؤال المطروح لعزيزي القارءئ: هل ستكمل مملكة البحرين تجربتها التاريخية بمرحلة ثالثة من الحداثة، لتحقق لشعبها السعادة والرفاهية والاستقرار؟ وهل ستستفيد هذه الحداثة من بعض التجارب الغربية الناجحة وخاصة في الدول الاسكندنافية، أم من التجارب الاسيوية في كوريا الجنوبية، واليابان، وسنغافورة، وربما الصين وماليزيا واندونسيا؟ وهل من الممكن أن تخلق مملكة البحرين نموذجا جديدا يحتدا به من الحداثة العربية؟ وهل ستلعب المعارضة البحرينية دورا ايجابيا في تحقيق هذه الحداثة، لتعلب دورها في خلق الرفاهية، والسعادة، والتطور، والاستقرار، لشعب مملكة البحرين؟ وقد يتساءل البعض: ما هي دلالات السعادة والازدهار في مجتمعات الحداثة العصرية، التي يحتاج أن يحققها الشعب البحريني، بالتعاون والتناغم مع الدولة؟
&لقد كتبت الاستاذة ساره الشمالي مقال بصحيفة ايلاف الالكترونية في 21 من سبتمبر الماضي، وبعنوان: بالثقة وحدها يعيش الدنماركيون، فيهنأون في حياتهم، لتكون دولتهم أكثر الدول سعادة في العالم لسنوات عديدة، فما هي الأسباب؟ فتعلق بقولها: "فلطالما ظهرت الدنمارك البلد الأكثر سعادة في العالم.. فما الذي يجعل شعبا بهذه السعادة؟ ليست وصفة سحرية بقدر ما هي وصفة إنسانية، لا علاقة لها بالدين، أي دين، ولا بالعلمانية أو الديمقراطية، إنما تتعلق بما هو طبيعي في الإنسان... الثقة. فأن يثق شعب بحاكمه، أي أن يعرف أن النساء يلدن الطفل فلا يتكلفن وأزوجهن فلسا في الولادة، ولا فلسا أخر في تعليمه، حتى يصبح فتيا قادرا على العمل. وإن لم يجد عملا، وهذا نادر.. فإن حكومته تسعفه. ومتى شاخ، يعرف بأن شيخوخته مضمونة، لا يتعذب فيها، ولا يتعرض لذل السؤال، ومهانة الطلب، إذا طرأ عليه طارئ... ويعمل الدنماركيون 33 ساعة أسبوعيا... وهذا يسمح لهم المتسع من الوقت ليهتموا بأنفسهم، وبعائلاتهم، وليتمتعوا بما وهبهم إياه حظهم، بمجرد ولادتهم في البلد. وفي العمل، لا فارق بين سائق الشاحنة أو الطبيب، فكلهم سواسية أمام القانون، وعلى أساس واضح، هو "لست افضل من غيرك"، أي أن كل فرد واثق كل الثقة بأن حقه محفوظ، مهما كان عمله. والثقة تمتد إلى الشارع، حيث يثق الدنماركي بأن ليس هناك لص سيسرق دراجته الهوائية... بينما هو يغط في نومه العميق، وبأن لا خاطف يخطف طفلا في عربته، تركته والدته خارج محل تجاري. وهذا وحده كفيل بخفض منسوب الاجهاد البشري لمستويات دنيا. إلى ذلك، لا يهتم الدنماركيون بالتكنولوجيا الحديثة، وهذا وحده كفيل بأن يدس العدوى في النفوس. فهل هذه وصفة سحرية للهناء." ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: هل ممكن أن تتهيأ مملكة البحرين، شعبا وحكومة ومعارضة، لتستفيد من التجربة الدنماركية، في خلق مجتمع حداثة متناغمة، ومتعاونة، تركز على سعادة شعبها بالتنمية الاقتصادية المستدامة؟ ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان