"الدين هو الذي سيحل مشكلاتنا" شعار براق نفحم به خصومنا ونجبرهم على السكوت إذ لا يتوقع أن يعترض أحد على دين الله، لكن دعونا نتجاوز بريق الشعارات ونسأل كيف سيحل الدين مشكلاتنا، وهل الرجوع إلى القرآن سيقلبنا إلى كائنات أخرى بوصفة سحرية!
الدين لا يطبق في فراغ إنما يتم تنزيله على واقع معين ذي خصائص ثقافية واجتماعية وما لم تكن البيئة الثقافية مهيأةً لتشرب معاني الدين وتمثلها فإن الإسلام لن يغير أحوال الناس بمعجزة خارقة للسنن الاجتماعية..
الإنسان لا يمكن أن يقرأ النص الإلهي متجرداً من الثقافة التي يتشربها من مجتمعه، لذلك فنحن نمارس إسقاطاتنا الثقافية والمعرفية على النص، ولن نفهم النص بشكل متجرد وكلما كانت هناك عوائق ثقافية أكبر كلما حال ذلك بيننا وبين ملامسة معاني الدين..
يقول القرآن: "إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا تتلى عليهم آياتنا يخرون للأذقان سجداً".. هناك ربط بين تأثرهم بالقرآن وبين العلم المسبق الذي أوتوه.
إننا سنلبس القرآن ثوبنا الثقافي وإسقاطنا النفسي، فحين تقرأ نفس مشبعة بالرحمة والسلام الداخلي القرآن فإنها ستخشع أمام آيات الرحمة والعدل والسلام، أما حين تقرأ نفس مريضة بالعنف ذات القرآن فلن يستوقفها سوى آيات القتال والقتل، ويا ليتها ستضعها في موضعها الصحيح أو تفهمهما في سياقها الاجتماعي والتاريخي الذي تتناوله.
هو قرآن واحد و قراءات متعددة..
كيف نفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعز الإسلام بأحب العمرين إليك"!
هل الإسلام هو الذي أعز عمر أم أن عمر هو الذي أعز الإسلام!
لقد كانت هناك خصائص فطرية في عمر سابقة لدخوله الإسلام وهذه الخصائص مشتركة مع إمام الكفر أبي جهل عمرو ابن هشام وما أحدثه الإسلام هو أنه وجَّه الخصائص الفطرية لابن الخطاب في الاتجاه المثمر في حين أن أبا جهل ظل محتفظاً بذات الخصائص لكنه وجهها في اتجاه معاكس..

الدين لا يخلق القابليات الفطرية في الناس، لكن هذه القابليات المسبقة هي التي تحدد مدى كفاءة الإيمان وفاعليته.
"الله أعلم حيث يجعل رسالته"؛ هذه الآية يفهم منها أن هناك خصائص لكل مجتمع وفرد تجعلهم متفاوتين في كفاءة حمل الرسالة، فمثلاً العرب قبل الإسلام كانوا أهل صدق وفطرة، وهذه الخصائص جعلتهم أكثر الأمم تهيئاً لاستقبال رسالة السماء آنذاك..
لو تحول الشعب الياباني اليوم إلى الإسلام فسيكون إضافةً نوعيةً للإسلام. هل نقول حينها إن الإسلام هو الذي أوجد في الشعب الياباني قيمه الإيجابية؟ إذاً لماذا يوجد ملايين المسلمين اليوم عالةً مستهلكين لا منتجين ولماذا لم يحولهم الإسلام إلى الكفاءة والإبداع الذي نجده عند غيرهم.
القول بأن الدين هو الذي سيحل مشكلاتنا وإن كان شعاراً جميلاً على الصعيد النظري إلا أنه لا يكفي وحده فلا بد من إصلاح الثقافة حتى تكون نفوسنا بيئةً خصبةً تتلقى تعاليم القرآن كما تتلقى التربة الخصبة مياه الأمطار فتنبت نباتاً حسناً: "والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً"..
لا بد من حالة نفسية وقلبية سابقة لتلقي النصوص.. لا بد من عدل في داخلنا ينجذب إلى العدل الكامن في النصوص حتى تتحقق فاعلية هذه النصوص ويقوم الناس بالعدل والقسط..
العدل الذي في داخلنا هو الأساس، والنصوص لا تعمل أكثر من كونها كاشفةً لاستعداداتنا القلبية وضابطةً لمؤشراتنا..
يقال "قاض عادل و قانون ظالم خير من قانون عادل و قاض ظالم" وهذه القاعدة صحيحة جداً وهي تنطبق أيضاً على النصوص الإلهية، فالنص الإلهي عادل لكن حين تتلقاه نفس ظالمة فإنها ستحرفه عن مواضعه وستطمس الهداية التي يشتملها، لذلك فإن القرآن لا يفتأ على التأكيد على تجاوزه مربع النص القانوني عبر التنبيه دائماً بعد أوامره ونواهيه إلى الدائرة الأوسع وهي دائرة التقوى والإحسان التي لا تتطلب نصاً واضحاً بل يكفي فيها الاستعداد الداخلي للخير في الإنسان ليسارع إلى الخير ويتجنب كل ما تدرك فطرته السليمة أنه شر..
نحن بحاجة إلى إطار أوسع في فهم دين الله.. هذا الإطار يتمثل بإعادة الاعتبار إلى العدل بمعناه الفطري الوجودي السابق للنصوص: "والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان".. والنصوص ليست سوى تجل لهذا الميزان لكن معنى الميزان أعمق وأشمل كثيراً من كل النصوص مجتمعةً.

"وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم"
[email protected]