لقد أخصبت أزمة ثقافة الثأر أذهان الكّتاب والنقاد، المفكرين والباحثين على جانبي القضية، حيث هناك من انطلق من هذه الأزمة ليبرهن عبثية الفكرة الثقافية المتسامحة، ولنفي احتمالها وتبخيس حدوثها واعتبارها حقلاً أثبت فشله أو فانتيازيا ثقافية حدثت وانتهت إلى غير رجعة.
إلا أن هذا الكلام أو الموقف الثأري الذي أنتجته الأزمة، لم يقنع من آمنوا بفكرة التسامح، وتشبعوا بالموقف الثأري كطريق للثأر الثقافي فكان هذا السقوط والإقصاء الذي تلاه من قبل الثقافة الجديدة حافزاً على البحث عن الأساليب والأشكال والطرق التي تؤدي إلى تأكيد الثأر من عدم التوقف، ولإعادة اللغة التلقينية القديمة ذاتها بأن الثقافة لا تزال تابعة وأن ما حدث، من تغيير، لا يعدو أن يكون سقوط تجربة وأن عدم الإفادة من أخطاء الماضي خير معين في تصويب الخطوات نحو الموقف الثأري.
ليست المهمة سهلة سواء في إقناع الثقافة المحسوبة على السلطة أو المثقف المنضوي بضرورة الالتفاف مجدداً حول فكرة الثأر أو في توليد الأفكار المغلقة ووضع المناهج التعبوية لإعادة التوازن إلى الفكرة ذاتها والتي عانى منها الكثيرون من المثقفين المستقلين.
ليس الناس العاديون مُلامين في موقفهم الشكّي من الثقافة طالما أن من وُصفوا بالمثقفين في مجالها ومن حقلها قد داخلهم الشك بها وتنوّعت مواقفهم إلى الحد الذي أظهر هروب الكثيرين من تحت مظلة الثقافة الخالصة والتنكّر لها ومهاجمتها، ويحدد البعض ممن كانوا يصنّفون (تقدميين) أو(حداثويين) بين الانتقال إلى النقيض أو الإصابة باليأس واللامبالاة أو التمسك بالماضي بكل ما فيه من سلبيات أدت إلى ما وصلنا إليه، في حين يبقى البعض... هذا البعض القليل هو الذي أدرك الكارثة الثقافية والأخلاقية، النقدية والفكرية قبل وقوعها وأن مثقفاً عقائدياً مستعاداً أو دليلاً يتخلق من القديم (التقدمي، الحداثوي) وعلينا انتظار ولادته ونضوجه وتهيئة الشروط العبثية لذلك.
في هذا المقال المبتسر الذي نحن بصدده نتساءل: هل للتسامح مستقبل في ثقافتنا العراقية الراهنة؟ إذ أن هذا السؤال يتضمن سؤالاً مغايراً يبدو أنه ينطوي على شيء من الشك، إذ قد يأتي الجواب بنعم أو بلا، وبالتالي تتكافأ (النعم) مع (اللا) ريثما تتم البرهنة على أحقية إحدى الإجابتين، في حين كان الموقف الثأري يحمل احتمال الإيجاب بلا فقط، فإلى أي جواب سنصل؟ وبأي ثقافة سنحلم؟
سأكتفي هنا ببعض الأسئلة المتعلقة بثقافة الموقف الثأري التي تعاني من عدم الوضوح في الفرز أو النقد، فما حال الثقافة الأخرى؟ وكيف لنا أن نلومها؟ هل يجوز أن يكون ما أنتج من نقد لتجربة ثقافة الثأر، وقد اتسم مفهوم الثأر نفسه بالصرامة والكراهية أو الإقصاء المستعاد، مصنفاً البعض في خانة التخوين؟ من هنا يصبح الثأر خادعاً لأنه يسير في نفس الطريق، متى ستصل هذه الثقافة أو تلك إلى مرحلة التسامح؟ وكيف؟ هل فكرة تجاوز الثأر تنتمي إلى حقيقة الثقافة الخالصة التي لم تحسم يقينياتها ولا تزال في التجريب أم أنها بداية التلمس أو العودة للطريق الثقافي القديم؟ ما موقف المثقفين القانطين الهاربين المشككين التوفيقيين والأدلاء وهم يرون ويقرأون هذا الموقف وتلك الكتابات؟
إن مصداقية التساؤلات التي أثرتها تتعزز، كما نعتقد، عندما نجدها هي وأمثالها تستثار تعليقاً على الموقف الثأري أو ممن يُعدّون من أتباعه. يكفي أن أقول هنا، إننا لم نتعلم من كل التجارب وقد أصبح الموقف الثأري شعاراً مفارقاً لثقافة التسامح وهدفاً بذاته ولذاته، أما الآن وقد أصبح شعار الثأر شعاراً مفارقاً فمن حقنا، أخلاقياً وحضارياً ومعرفياً أيضاً، أن نثير الأسئلة التي أشرنا إليها، إن بناء عالم ثقافي أخلاقي متسامح لا يكون من خلال الموقف الثأري بل من خلال أخلاقيات الثقافة، والحقلان غير متطابقين.
لا شك في أن الحلم الثقافي الخالص والمغاير يعتبر هدفاً معرفياً أو مهمة أخلاقية يجب تحقيقها وتأمين ظروفها، خاصة فيما يخص الموقف الفكري وحرية التواصل مع المعرفة دون اعتبار المؤثرات الضاغطة، لكن حبذا لو يكون هذا الحلم سابقاً لوضع الشعارات العقائدية التي يسوغ لها العقائدي الجديد المستعاد. لقد تعودنا أن نجد المسوغات الجاهزة لمن يريد أن يبقي الحياة والجمال والفكر جامداً في زمن مختلف وواقع مختلف.
لا يسعنا تعليقاً وكتابة أو نقداً لكثير من المواقف الثأرية إلا إثارة الأسئلة التي تحمل موقفاً ما من هذه المواقف أو توحي بالموقف منها، فإذا كانت ثقافة التسامح عاجزة عن فهم التحولات الجديدة، فكيف تستطيع تجاوزها؟ هل التجاوز، مع عدم الوعي النقدي، يعني طمس المشكلة وتركها لتكون ألغاماً ثقافية راهنة تنفجر فتفجر المستقبل كما حدث في الماضي؟ أليس من المضحك المبكي أن نعجز عن وعي التحولات ثم ندعو إلى تجاوزها باعتبار أنها تحولات ثأرية يتم تجاوزها مع منظوماتها، أعني بعض مؤوسساتها وصحفها وكّتابها، التي أوجدتها؟
في تعبير جليّ ودون مواربة نطرح خيار التفاؤل (التسامح) من خلال تلمس كتابات بعض الأقلام النقدية الرصينة لكي لا نقع في خيار التشاؤم (الثأر) بطريقة القسر، فلكلا الخيارين طريقة في التعاطي، وإذا كان الخيار الثاني قائماً في نظر الإعلام المحتل والرسمي والمؤسساتي المملوك فإن الخيار الأول سيظل أفقاً مفتوحاً رغم ضبابية الرؤية وغرابة الإشارات الانطباعية عند البعض ورغم أن أحلام الثقافة الخالصة معلقة به.

&