الإبداع الفكري شأنه شأن التفوق الذهني لدى مراحل نشوء الوليد الجديد الذي ترتسم على محياه علامات النباهة الفذة منذ حَبوهِ، وبما يتعالى بتدرج فيما بعد عبر مراحل حياته، وكأنه أحياناً من النوابغ في نظر المدركين لسلوكه بما يثبته من ممارسات غير مألوفة لدى الأسوياء، لتميزه وعلو شأنه في خلق موضوع ما أو مادة معينة ذات جدوى وفريدة من نوعها.
من فحوى هذا المنطلق، وعلى مدى غير محدد إعتلى لهيب المخاض الفكري لدى الدكتور ليون برخو ليعلن صوته وبصرخة مدوية، ها هو ما دعاني ألملمه من خيوط شرنقة الصحافة، وجعلني أنسج صورة لجسد الواقع الإعلامي، مستدرجاً من طبيعة الشكل النظري ما يستوجبه عمل التطبيق الفعلي أو العملي بلباس مساحة نزاهة القنوات الإعلامية بحقولها المتفاوتة التي تكحلها الأخبار والتقارير وما إليها من أبواب أخرى في دائرة الصحافة والاعلام ليستمتع بها القارئ والسامع والمشاهد.
رغم الإيجابية التي يضمنها د. ليون في مؤلفه الحديث والموسوم quot;من النظرية إلى التطبيق: كيف نقيم ونمتحن التزاهة في الأخبار والتقارير الصحفيةquot; لا نستبعد عن مخيلتنا مفهوم التقارير الإخبارية المطعمة بسرد ممغنط بديناميكية التحكم على من يقصدهم الصحفي أو المُخبر أو المراسل المُعتمد رسمياً لنقل ما يستوجب نقله للجهة التي تعتمده، لتجعل من استجابات البعض سلباً ومن البعض الآخر إيجاباً بدافع التفاعل الإستدراكي لوقت ومكان وطبيعة أهمية الحدث، لينطلق بالتالي كل متلق بتأويلاته المُعتمدة والمُستمدة من مصادر أخرى مشابهة، فيها نوع من التفاوت النسبي في العرض المُفبرك بتفاصيل الحدث الذي يتبعه بعض المراسلين المعتمدين، وبأهم نقاطه الرئيسية لدى البعض منهم، وذلك بغية إعتماد سرعة التحرير ونشر الخبر بسرعة البرق من منطلق صفات السبق الصحفي المألوف في عالم الصحافة وفق التقنيات الحديثة من إيصال المعلومة وما تتضمنه من أبعاد مقصودة، كما كان الحال في العهود القديمة من خلال اكتشاف التلغراف والإرسال اللاسلكي المُشفر بطريقة قاعدة quot;الهرم المعكوسquot; حسب ما يصطلح عليه في عالم الصحافة، والذي يُعنى به إدراج الوقائع بترتيب تناقص أهميتها.
وهنا ليس بالغريب أن يتبحر المؤلف القدير الأستاذ ليون على ادراج صفة النزاهة في موضوعه عن الصحافة والإعلام في الأخبار والتقارير، طالما الصحافة مهنة ورسالة ومسؤولية، مهنة البحث عن المتاعب ورسالة نقل الحقائق ومسؤولية وظيفية، وإلا لأصبحت الصحافة مهنة الخدع الفنية إن لم تتسم بالنزاهة والصدق والوضوح، إضافة للدقة التي تدعمها وتؤطرها الصور التوثيقية والأفلام المباشرة لنقل وإثبات حقيقة الأخبار والتحقيقات والتقارير الصحفية السمعية والمرئية والمقروءة المستمدة من أفواه من هم على قدر كبير من المسؤولية فيما يخص الحدث أو مشاهدته ومعايشته بشكل مباشر. فيكون دور المراسل والحالة هذه متحلياً بحكمة الثقة المتبادلة وكوسيط بين مصدر ما يحصل عليه وجهة النشر المتمثلة بوكالات الأنباء والمحطات الإذاعية والتلفزيونية والشبكات العنكبوتية والصحف اليومية الصباحية والمسائية.
وبما أن مفردة النزاهة بمعناها اللغوي وكمصطلح للصفات الحميدة، عادة ما يتشعب استعمالها وفقاً لما تتحلى به شخصية الفرد بإقدامه على تجريد وانتزاع كل مثلبة من سلوكه في تعامله مع الآخرين وعن متطلبات العمل الوظيفي، أي أن يكون عادلاً في حكمه كعدل القضاة، وأن يترفع عن جذور الذم والحقد والإساءة حفاظاً على هيبة شخصيته وعفة مسؤولياته وإلتزاماً بما تعنيه مفردة النزاهة من معان ايجابية لمبعث الثقة والإخلاص والإستقامة في تحرير ما يعنيه المُخبر أو المراسل الصحفي المُعتد، بعيداً عن المماطلة والإفراط في صياغة نقل الخبر كمبرر لنشره أو الإنحياز بدوافع إنتمائية لأسباب لا يرتضيها المدركون ممن يكيلون بالقسطاس المستقيم.
هذا ما يذهب اليه دكتورنا الفاضل في عنونة وتتويج ما إرتآه في مؤلفه الإعلامي الجديد ليقتدي كل إعلامي بتلك المواصفات النزيهة التي ترتقي به لعالم الرقي والشهرة من خلال إيمانه الحقيقي بمهنة الصحافة ودعوته الصريحة في إثارة مدارك ووعي أكبر عدد من المهتمين من الناس بالأخبار والتقارير والتحقيقات، وبما فيهم من المتلهفين للتواصل بما ينضوي تحت سمائها من موضوعات إعلامية كونها تستحوذ على اهتمام أكبر عدد من الناس في العالم وبالطرق المشروعة التي تقرها قوانين الصحافة والإعلام المرعية.
ومما لا شك فيه ان ممارسات د. ليون في الكتابة الصحفية بلغت شأواً بعيداً من خلال ما دبجه يراعه ونشره في العديد من المجلات العالمية والمواقع الالكترونية سواء باللغة الإنكليزية أو العربية. وهذه حقيقة لا يمكن نكرانها، كونه يدرك من اين يمسك مربط الفرس بتعليقاته وردوده وتحليلاته المشوبة بمنطق علمي وأدبي واسلوب سلس متحل بالمرونة والعقلانية الخالية من غضب فوضوية التشرذم والتقوقع الذاتي والتعنت الفكري طالما يثبت ويؤكد لنا نزاهة التحرير والتدوين عن كثب من مضمون مولوده الفكري الجديد بدعم وشهادة آراء ووجهات نظر كبار أساتذة الإعلام والنقاد المحررين من الخبراء العاملين في الحقل الصحافي والإعلامي.
قد يظن البعض بأن هذا الإطراء منبعه تواصلنا الدائم وربما تقاربنا في العديد من الأفكار رغم خلافنا في أحيان أخرى لغوياً في بعض الآراء، ولكن الحقيقة ينبغي أن تقال. لهذا فإن مؤاخذتي الإيجابية هذه المرة على تطلعات دكتورنا الطموح، يتسنى لي من فحوى مولوده الجديد أن أحصرها من جوهر ما ينطلق اليه في كتاباته النقدية والتحليلية التي تخلو من مادة في غاية الأهمية والمحصورة في عالمنا الإعلامي الآشوري / السرياني الذي طافت به قنواتنا ومحطاتنا الإعلامية في وطننا الأم بلاد ما بين النهرين وبشكل خاص العمل الصحفي بعد السقوط ورحيل السلطة الغاشمة، وما أقدمت عليه مؤسساتنا في بلدان المهجر والوطن بالصحافة الورقية والإلكترونية والإذاعية والتلفزيونية باللغة الأم. لذا بتحريري لهذه المؤاخذة لا أظن بأنه على بعد من هذا الواقع، كونه من الحريصين والمدافعين عن الإحياء اللغوي والتراث القومي، كما ولا أظنه يلتحف ظاهرة التقاعس إن لم يكن الإنشغال والنسيان أو أنه في دور البحث والإستقصاء ليباغتنا بإصداء جرس جديد عن عالمنا الإعلامي رغم محدوديته ومرجعيته الإنتمائية ليتعض المشرفون والعاملون المهنيون من خبراته وممارساته النظرية والعملية من أجل عمل يتماشى والنظريات الحديثة في ميدان الصحافة الخاصة والرسمية منها، علماً بأن تاريخ نشأة الصحافة الآشورية سبقت تاريخ نشوء الصحف في العديد من الدول، حيث يعود تاريخها الرسمي لعام 1849 بإصدار أول صحيفة آشورية في إيران بعنوان quot; زهريرا دبهرا ـ أشعة النورquot; ليمتد بريق اشعتها في دول عديدة من أماكن تواجد أبناء شعبنا كتركيا وروسيا ولبنان وأمريكا والأرجنتين ودول أخرى التي منها العراق في الوقت الذي صدرت فيه أول صحيفة عربية رسمية باللغتين العربية والتركية بإسم quot;الزوراءquot; عام 1869 أي بعد عشرين عاماً من صدور أول صحيفة آشورية، وعلى آثر ذلك تبعتها إصدارات أخرى باللغة الآشورية ولغات البلدان التي تصدر فيها. ومن الجدير ذكره ان الواقع الذي نحن بصدده يزيدنا مفخرة وأسفاً في ذات الوقت. نعم مفخرة أن تصدر أول صحيفة آشورية قبل صدور العديد من الصحف في بعض البلدان العربية كلبنان (حديقة الأخبارعام 1858)، تونس (الرائد التونسي 1860)، سوريا (جريدة فرات 1865 في حلب وجريدة سوريا 1867)، ليبيا (جريدة طرابلس 1860)، المغرب (جريدة المغرب 1889)، الأردن ( جريدة الحق 1920) وغيرها..
مما يزيدنا أسفاً أن تتراوح مسيرة الصحافة الآشورية بين الحياة والموت، الإهمال واللامبالاة، المصادرة والمنع والإغلاق من جراء ألاعيب الدول الكبرى التي مدت يد العون لدعم وإسناد الشعب الآشوري بعد أحداث الحربين العالميتين دون جدوى من الوعود المزيفة بأباطيل العالم الغربي الذي حفز شعوب سكنة الدول التي استعمرتها على قمط مسيرة الشعب الآشوري في تحقيق مآربهم وامانيهم، والتي كان من أبشعها في التاريخ الحديث مذابح مجزرة سيفو عام 1915 في سهل اورميا وتركيا وأحداث مجزرة سميل عام 1933 ولحد يومنا هذا الذي يعيشه أبناء شعبنا في العراق وسوريا.
ولا يسعنا هنا إلا أن نكتفي بهذا القدر من أن يجرنا الحديث إلى دور الصحافة والإعلام عموماً كسلطة رابعة بعد التشريعية والتنفيذية والقضائية، وما ينبغي أن تتمتع به لإداء دورها وفعلها الحقيقي بتجردها من سلطة مقص الرقيب والحكومات الدكتاتورية التي تكبل دوائرها بقضبان حديدية، وتكتم أفواه مسؤوليها من استنشاق نسمات الحرية والديمقراطية، تلك الحرية التي فتحت لها أبواباً حديثة النشأة عبر قنوات التواصل الإجتماعي الألكتروني الذي سرى مفعوله في تغيير خارطة واقع العالم العربي وبدأت تمتد عدواه لدول عالم الغرب والشرق قاطبة.
لم يبق لنا في نهاية ما أشرنا إليه إلا أن نشيد بجهود وإهتمامات الأخ ليون الذي إجتاز المسافات ليطل على حدود آفاق أوسع دار نشر لجامعة شيكاغو كأعرق جامعة غربية، إضافة لدار نشر بريطانية شهيرة وتبنيهما لإصدار نتاجه الجديد والرابع في قائمة اصداراته، ليتضمن 258 صفحة في أحد عشر فصلاً بتناوله ثلاثة محاور أساسية متمثلة بالنظريات، الممارسة والتطبيق، جاعلاً منها ثالوث الصحافة النزيهة