كعادتي مساء كل يوم ، وقبيل موعد النوم ألوذ بكتاب انتقيه جيدا مسبقاً لأقرأ فان كان رفيقي خفيف الظل ومرح القراءة فيحلو لي ان ترافقه موسيقى خفيفة وهادئة هي الاخرى تؤنسني في وحدتي ، تعلمت ان اصغي للموسيقى واستمع لاغانٍ ناعمة الجرس وعيني على سطور الكتاب لأنهل من هذا وذاك عسى ان احقق شيئا من الهارمونية بين القراءة والصوت الممتع ؛ اما لو كان محتوى الكتاب دسم المعنى عاتي الفكر فألجأ الى اطفاء صوت الموسيقى او الغناء للولوج في ثنايا سطوره الوعرة المسلك منتظرا سطوة النعاس ريثما يأذن لي سلطان النوم ويربت على رأسي خفيضا مشيرا الى وسادتي لأسند رأسي عليها حتى أغفو
غير ان الامر جرى في تلك الليلة التي عطفت عقلي وعكّرت صفو عادتي اذ حدث ما لم يكن في الحسبان وجرت الامور على عكس ما تشتهي رغباتي في ان احضن كتابا وأتوغل في سطوره ، ودون سابق انذار داهمتني غشاوة لم اعتد عليها من قبل بحيث صرت ارى الصفحة البيضاء رمادية مائلة للسواد وتداخلت الكلمات مع بعضها البعض وقد صعب عليّ مواصلة القراءة وكم كان هلعي شديدا حينما بتّ محروما من طقوسي وعاداتي المألوفة بالقراءة هذه الليلة اكثر مما هلعت عن مصير عينيّ ومااصابهما من وهنٍ وعارض خطير منعني من تكملة مااريد ، تلك القراءة الليلية هي شغفي الدائم وحسائي الفكري الذي لم انقطع عنه مهما حدث لي
لم أشأ ان اوقظ احدا من اسرتي فقد غطوا في نوم عميق اسرعت الى قنينة مرمية في البرّاد منذ شهور تحتوي محلولا& سائلا لتنظيف العيون ، غمستُ عينيّ في هذا السائل لأجل تطهيرها وإزالة ماعلق بها من وعث تراب او شوائب عالقة كما حسبتُ وعدت للقراءة بعد ان انتهيت من غسلها تماما بالمحلول المطهر عسى ان اكمل مابدأت
لم يتغير شيء بل ازداد الامر سوءا فصرت ارى غشاوة سوداء تحجب صفحات الكتاب عني ؛ ولأن الساعة قد قاربت الثانية بعد منتصف الليل فقد تحرّجتُ من الاتصال بأحد معارفي المختصين بطب العيون لكن الامر ازداد سوءا ولم اعد ابصر اي ملمح سوى خيوط سود تهيم هنا وهناك مع ان الاضاءة كانت على اشدّها في غرفتي
تجرّأت قليلا واتصلت بالطبيب ونصحني بترك كل شيء والاستسلام للنوم على ان القاه غدا صباحا في المشفى الخاص الذي يعمل فيه وكم كانت ليلتي نابغية بطيئة الكواكب مثقلة بالوساوس والقلاقل لكني ارغمتُ نفسي والتففتُ ببعضي متوقعا اسوأ النتائج&
اصبح الصبح ونظرت حواليّ بإمعانٍ ، مازالت عيناي متعبتين مع وجود تحسّن بطيء نسبيا بعد ان اخذتُ قسطا كافيا من النوم على شدّة القلق والوساوس التي ظلّت تساورني ؛ لكني قدرت ان استدل على الطريق نحو الحمام وتغيير ملابسي استعدادا لمواجهة الطبيب
وصلت اليه الضحى ، تفحص نظري وزرق سائلا في حدقتيّ مقرّبا مجهره من عدسة العين ثم اشار لي بالذهاب الى المختبر لفحص الدم ، قلت له : وماعلاقة الدم في وضعي ؟! سخر مني قليلا دون ان يجيبني
في غرفة المختبر اجري لي تحليل دمي فظهرت نسبة السكّري عالية ومخيفة جدا الى حدّ ان اخذت تؤثر على ناظريّ ، بطل العجب بعد ان عرفت السبب
عدت ادراجي الى البيت مهموما شارد الذهن وانا محمّل بعقارات وأدوية وسكّرين ونصائح جمّة تعينني على تحمّل هذا الداء الذي لم اكن اعلم انه مقيم بداخلي ساكنا وديعا ودون ان يتحرك قيد أنملة ليشعرني بما انا فيه ، قرّ في دمي ردحا من الزمن غير قصير وها هو يبلغني بمكوثه بعد ان استفحل ونشبت اظفاره وبانت نواذجه في اضعف وارقّ عضو في جسدي وهي العيون
استجمعت بقية شجاعة في حشاشة اعماقي ورحت ادندن في ابيات احفظها منذ فتوتي وأغيّر في بعض مفرداتها وألاعبها على هواي كما لو كنتُ أطبّب وجعا وأخفف من عبئه :
سبحان من قسم العيونَ فلا اعتراض ولا ملامةْ
اعـمى واعشى ثـم ذو بصـرٍ فـزرقاء اليـمـامـة
والسعـد مثل الطيف او كالضيف ليس له اقامة
والعشْوُ حتـمٌ ثـم بعد العـميِّ اهــوال الـقـيامـة
فالعـيش في الدنـيا سوادٌ غـيرُ مرجـوِّ الادامـة
رحت اساءل نفسي كيف لي ان اتملى الجمال واقف شاردا ساهما امام لوحة باهرة المرأى او ارى سماء ساطعة بالنجوم او مشهدا ساحرا او اقرأ شعرا وأبصر كلمات مؤثرة وانا في هذه الحال المزرية
فما لي للبصيرةِ من مرادٍ -------------- اذا قحلتْ عيوني من جمالِ
لم يجانب ابو العلاء المعريّ الصواب حين رفع يده للسماء حزينا عاتبا على حالته حرمانه من البصر يوم سمع قربَهُ مواءَ قطّة وقال عبارته التي تتفجّر ألما وحسرة :
" سبحانك ربّي ، انت توهب هذه القطة الشاردة السائبة الضالّة عينين ساحرتين زرقاوين وتحرمهما عليّ ، هل ضاقت بك عدالتك على رحبها وسعتها ان تكرمني ببصَرٍ يكشف لي مسالك ومضائق طريقي لأفسح في مباهجها وأطير في فضائها "
كم من النفائس التي نحلم بها في هذه الدنيا البذيئة لاتساوي ضرقة عصفور امام نظر ثاقب ورؤية حادة ( فتبيّنوا ياأولي الابصار )

[email protected]
&