من مفكرة سفير عربيي اليابان

ليسمح عزيزي القارئ أن أشاركه في رسالة تلفزيونية، ارسلها لي صديق دبلوماسي عربي، على الواتس أب، يتحدث فيه شاب بخطاب دخل لأعماق وجداني، بل درف الحزن من مخالج شعوري، يقول فيه: "سلام عليكم وعلينا السلام. سلام اليكم والينا السلام. وسلام على من رد السلام. وسلام على حتى من لم يرد السلام. سلام باسم الرب السلام، رب العباد الله الصمد، سلام ترعرعنا فيه. سلام معجون بأرض هذا البلد. سلام ما عدنا نسكن فيه. سلام ما عاد يسكن فينا. سلام نراقبه، وهو يحزم حقائبه ليهجر رويدا رويدا اراضينا، ليحل مكانه تسليما واستسلام لتأسلم لا اسلام فيه، وكأن اسلام اجدادنا ما عاد يعنينا. اتدرون لما يهاجر منا السلام؟ اتدرون لما يعم فينا الظلام؟ ببساطة، لأننا مجتمع يخاف. نحن مجتمع يخاف الإختلاف. كلماتي لن تعجب بعضكم او جلكم، او كلكم، أعرف، ولكني سأقولها، لأنني رافض لأكون من الخراف. نحن مجتمع يرفض الاعتراف بأننا نعيش التخلف، نحن مجتمع يصيح بكل صفاقة، ويدعي بأنه حامل لفكر مختلف، نحن مجتمع يهوى التعالي من فراغ، ويدعي أنه مجتمع مثقف. يا ويلي من هذا القرف، فقبول الاختلاف عدنا، ليس إلا غلاف. اختلاف اللون يؤدينا، اختلاف الشكل يؤذينا، اختلاف الفكر يؤدينا، اختلاف الدين يؤدينا، حتى اختلاف الجنس يؤدينا، لذا& نحاول اغتيال كل اختلاف فينا. تحولنا لبعضنا سم زعاف. نحن مجتمع أحمق من الحمق، نعم، نحن مجتمع احمق من الحمق، نتنازع على التفاهات، والترهات، والخرافات، ونرفض دوما ان نغوص في العمق. ولا ابرأ احدا، لا مدنيين ولا ساسة. لا لمن يستكين لبلادة الصمت، ولا من& يدعي فينا القداسة. لا من يتبع الغرب كالاعمى، ولا من يريد أن يعيد امجاد الخلافة، والنخاسة، وتقطيع الارجل من خلاف. دعونا اليوم نجرب ان نغوص فينا، في أعماقنا. دعونا ان نجرب أن نعانق أرواحنا. دعونا أن نجرب أن نعانق في الارواح اختلافاتنا. ها أنا امامكم بلوني، بشعري، بأطواري، بأفكاري. أنا لا أخافكم، أنا لا أخاف اختلافكم عني، لأنكم مني، ولأني منكم. دعونا نخلق فن، دعونا نغوص في الحلم، لنرسي ثقافة بلا سخافة. ليكون الرقي فينا، هو أسمى خلافة. دعونا ندوب الأعراف، الأجناس، والأعراق، والأطياف، والألوان، والأفكار، والأديان، ولا نرى سوى الإنسان."
ويبقى السؤال لعزيزي القارئ: ما سبب هجرة السلام من أراضينا؟ بل ما سبب عدم تحمل مجتمعاتنا للخلاف؟ لننتهي بهاوية قطع الأطراف والأعناق، بل بحرق البشر وهم أحياء، وقتل الأطفال الرضع، وسبي النساء، وبيعهم في سوق النخاسة كالعبيد، بل وفي عالم عولمة الألفية الثالثة. فما الذي يحول الإنسان عن ضميره الإنساني المرفه، وفكره البشري العقلاني، وشعوره التعاطفي،&& لوحش أحيانا بكلماته الجارحة، واحيانا بأفعاله، ليرضي غرائزه الزواحفية التمساحية؟ وكيف نعالج هذه الظاهرة المرضية؟ فهل نبدأ بنظرية أوقية من الوقاية خير من قنطار علاج؟ ومن أين تبدأ هذه النظرية؟ هل تبدأ من التعليم أم من المواطنة؟ وأي نوع من التعليم؟ تعليم التغدية بالمعلقة أم تعليم المسائلة؟ وأي نوع من المواطنة؟ مواطنة حب "القضية"، أم مواطنة الاخلاص للوطن؟
للإجابة على هذه الأسئلة، نحتاج أن نتذكر عزيزي القارئ بأن من أهم وظائف الدولة الحديثة التأكد من توفر الأمن الغذائي، والتعليمي، والوظيفي، والسكني، بالإضافة للسلام المجتمعي، للمواطن، في قلب وطنه، بعيد عن الايديولوجيات الرنانة المزيفة، أو الثيولوجيات السرطانية المفرقة. كما يؤكد التاريخ بأن شعوب منطقة الشرق الأوسط مهيأة للعيش بتناغم وسلام، بين أطياف شعوبها المختلفة، مذهبيا، ودينيا، وعرقيا، ولغويا، فقد عاشت شعوب هذه المنطقة مع شعوب الغرب، وضمن مختلف الاديان ومذاهبها من إسلام ومسيحية ويهودية، في خلال حكم الأندلس، لما يقارب الخمسة قرون بتناغم وسلام، والذي أكده مؤرخو الغرب، وخاصة المؤرخة البريطانية كارن ارمسترونج في عدد من كتاباتها. كما أن مجتمع الشرق الأوسط غني بالموارد الطبيعية والبشرية، فمن المتوقع ان يصل سكان هذه المنطقة مع قبول عام 2050 إلى حوالي السبعمائة مليون، كما أن بها طاقات متجددة طبيعية لا حدود لها، وغنية بمخزون نفطي وغاز طبيعي كبير، وأراضي زراعية كثيرة، وأنهار عظيمة، والكثير من المواد المعدنية المتعددة، بالإضافة لموقعها الجغرافي الاستراتيجي، وتاريخها الحضاري الطويل، وبمتاحفها الغنية، والتي ممكن أن تكون مورد كبير للسياحة. وقد عانت هذه المنطقة منذ انتهاء الحرب& العالمية الثانية، من حروب متكررة مدمرة، وايديولوجيات براقة مزيفة أو ثيولوجيات سرطانية مريضة، والتي أدت لعمق تأثيرها الوجداني والنفسي المرضي على الكثير من شباب المنطقة، مما دفع لزيادة التطرف الفكري، مع أنواع متناقضة من المقاومة المتوحشة.
وقد نحتاج للوقاية من صراعات مستقبلية مدمرة، لتفهم سيكولوجية هذا التطرف والتوحش. ولكي نحقق ذلك، علينا تفهم تطور عقل الإنسان، والبيئة المحيطة به، من خلال دراسة ماضيه، وحاضره، ومستقبله. ويعتقد العلماء بأن تطور العقل البشري مر بثلاثة مراحل في التاريخ، وكانت المرحلة الأولى قبل ما يقارب الخمسمائة مليون سنة، وذلك بتطور الجزء الزواحفي (التمساحي) من العقل البشري، المسئول على حب البقاء، بالصراع لتوفير الأكل، والشرب، والجنس، والمئوى، وبكل وسيلة غريزية سلمية أو وحشية ممكنة. وقد تطور هذا العقل ليضاف عليه قبل حوالي المائة والخمسين مليون سنة، الجزء المختص بالتعاطف، وعواطف الحب، والشفقة، والرحمة، والمغفرة، بالإضافة لعواطف الإنفعال، والغضب، والغيرة، وحب الذات. وقبل ما يقارب الخمسين ألف سنة تطور الجزء الخاص بالتفكير والحكمة في العقل البشري، ليبدأ الانسان بمرحلة جديدة في الدراسة، وتحليل واقعه الحياتي، والتفكير في صيغ عملية لمعالجة تحدياتها. ولنتذكر عزيزي القارئ بأن العقل البشري يتكون من التريلونات من الكومبيوترات البيولوجية، وهي الخلايا العصبية، والتي تحتاج للتناغم الكامل لكي تقوم بوظائفها بشكل سوي. ويحتاج ذلك لتطور قانون اخلاقي مجتمعي يحدد القيم التي يتبعها السلوك البشري، كما تتأثر الخلايا العصبية بالمحيط البشري من الظروف المجتمعية والبيئية.
وهناك أيضا الحاسة السادسة، التي من خلالها نستطيع الدخول لاعماق عقولنا، لنتفهم انفسنا، ولنتعرف على طبيعة شخصيتنا، وأسباب سلوكنا، وعواطفنا، وشعورنا. كما أن هناك الحاسة السابعة، التي نستطيع من خلالها قراءة عقول الآخرين، وتفهم شخصيتهم، وأفكارهم، وعواطفهم، وانفعالاتهم.& وبالإضافة لذلك هناك "ساتيليت" بيولوجية موجودة في داخل عقولنا تسمى بالخلايا المرآة، نستطيع من خلالها التواصل مع خلايا المرآة في عقول الاخرين، لنستطيع من خلالها تبادل العواطف والانفعالات، بل وحتى الافكار.
ولنتذكر عزيزي القارئ، بأن ما تفكر وتعتقد به عقولنا من عقائد وايديولوجيات ما هي إلا افكار نسبية، لا تمثل الحقيقة إلا في عقولنا وإدراكنا، لأن كل وقائع الحياة نسبية. بل هناك حكمة صينية قديمة تقول: "تبحث عن الحقيقة فليس هناك حقيقة." أي كل فكرة في حياتنا البشرية ما هي إلا حقيقة نسبية، ومعرضة لأن تكون جزء منها صائب، وجزء اخر خاطئ. كما قالها الفيلسوف الالماني "نتشه"، ليس هناك حقيقة، بل هناك إدراك أي صورة يتصورها عقل الإنسان للحقيقة. وطبعا أثبت العلم الحديث كل ذلك، فمثلا كنا نعتقد بأن نظريات علم الفيزياء هي حقائق ثابتة وقد بينت الابحاث والتكنولوجيات المتقدمة بأن الكثير من هذه النظريات التقليدية ثبت خطئها. فمثلا اعتمدت نظرية "الكوانتم" الرياضية الفيزيائية على أن اسرع موجة في الكون هي موجة الضوء، ولكن أثبتت الابحاث التكنولوجية المتطورة الحديثة بأن هناك موجات في الكون أسرع من موجات الضوء.
وقد يؤكد واقع حياتنا ذلك، حينما تدرك عقولنا وجود الماء في الصحراء الحارة، ليتبن لنا بعدها بأننا أمام ظاهرة سراب لا الماء. وقد اكد العلماء هذا الادراك العقلي النسبي، بالقيام بتجربة بحثية، حيث جمعوا فئة من المشاهدين في غرفة مغلقة، وعرضوا عليهم فيلم تلفزيون لمباراة لكرة السلة بين فريقين أحدهم لابس قمصان بيضاء، والأخر لابس قمصان سوداء، وطلب من المشاهدين أن يعدوا المرات التي تقع كرة السلة في يد كل من هذين الفريقين. وبعد الانتهاء من مشاهدة مباراة السلة، سؤل المشاهدين عما شاهدوه خلال المباراة، فاستغرب المشاهدون من السؤال، حيث كانوا يتوقعون بأن يكون السؤال: ما عدد المرات التي التقط فيها كل من الفريقين كرة السلة؟ ورد المتفرجون ببساطة، بأنهم شاهدوا لعبة كرة السلة بين فريقين، بقمصان بيضاء وسوداء. وبعدها، طلب الباحثون من المشاهدين الاسترخاء، ومشاهدة الفيلم مرة أخرى، بدون التركيز على العد هذه المرة. وقد كانت صدمة المشاهدين كبيرة، حينما شاهدوا هذه المرة غوريلا سوداء ضخمة، تظهر فجأة في منتصف الملعب، وتختفي، والتي لم يشاهده الكثير منهم في المرة الاولى، حينما كان تركيزهم على العد.
ولنتذكر أيضا عزيزي القارئ بأنه كلما نمى العقل البشري بطريقة سليمة، من خلال تربية متزنة وبقيم واخلاقيات وممارسات انسانية، كلما تطور هذا العقل بشكل سليم، وتعرف على كفاءة العقل البشري، ومحدودية تفكيره. وحينما يتعرض العقل البشري، وخاصة منذ بدء الطفولة، للممارسات والخبرات المناقضة للقيم الانسانية،& يختل نمو هذا العقل، وتضطرب وظائفه. فمن المعروف بأن العقل البشري يتكون من وحدات بيولوجية تسمى بالخلايا العصبية، والتي تكتمل عددها قبل الولادة، لتبلغ مئات المليارات من الخلايا العصبية، والتي ممكن تشبيهها بمئات المليارات من الكومبيوترات. وتحتاج هذه الخلايا العصبية او الكومبيوترات البيولوجية لتؤدي عملها بشكل تناغمي، للتواصل بالاسلاك أو الألياف العصبية لترتبط ببعضها البعض، بل ولترتبط بباقي أعضاء الجسم. وتنمو هذه الاسلاك، او الالياف العصبية، بتطور خبرات الانسان بعد الولادة، حسب التربية، وحسب الظروف والبيئة العائلية والمجتمعية التي يعيشها الطفل. فالظروف العائلية والمجتمعية الطبيعية، وبتربية تشمل قوانين قيم انسانية، تنشأ إنسان سعيد متزن خلوق، وبسلوك إنساني اخلاقي، أما الظروف المجتمعية القاسية، والشاذة بأفكارها المتطرفة، وبسلوكها المتوحش، قد تنشئ إنسان مريض متطرف ومتوحش. وقد أثبتت التجارب العلمية بأن خلايا العقل البشري تتأثر بالظروف السيئة المحيطة، لكي يتراجع عقل الحكمة والتفكير والتعاطف، إلى عقل الغرائزي الزواحفي المتوحش. ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان.