محمد بوخزار 

تسير المشاورات السياسية في أفق الإعلان عن الحكومة المغربية الجديدة ؛ بإيقاع هادئ وطبيعي ،خاصة بعد أن نجح المكلف تشكيلها عبد الإله ابن كيران في تذليل أكبر الصعوبات والحواجز النفسية بلقائه مع خصميه ومعارضيه الشرسين: حميد شباط أمين عام حزب الاستقلال وإدريس لشكر، الكاتب الأول (الامين العام) لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي طالما اتهم من قبل حزب العدالة والتنمية ،أنه باع روحه بدون مقابل ولا مكاسب لحزب" الأصالة والمعاصرة".

وكيف ما كان مآل المشاورات السياسية التي لها سقف دستوري ، فإن رئيس الحكومة المنتهية ولايته ، يشعر أنه قطع أصعب مراحل السباق بمجرد ما أن تمكن من تجاوز منافسه الأخطر "الأصالة والمعاصرة "في شخص أمينه العام إلياس العماري؛ وقطع عليه النصر ؛ وبالتالي فإن المراحل المتبقية للوصول إلى ساحة "المشور" بالقصر الملكي حيث يوجد مقر رئاسة الحكومة ،ليست طويلة، من دون استبعاد حدوث مفاجآت لم تكن في الحسبان ، في أخر لحظة.

ويسود اعتقاد بين المكونات الحزبية المغربية، أن شبح تكليف حزب أو شخص آخر، بتأليف الفريق الحكومي، بات مستبعدا بل ليس له ما يبرره لا دستوريا ولا سياسيا، بالنظر إلى أن الاستحقاقات التشريعية الأخيرة، لم تفرز منتصرا كاسحا ولا منهزما ضعيفا بالمرة.

والواقع ان نتيجة اقتراع يوم السابع من أكتوبر، تساءل الجميع، ولا تشكل مبعث رضا للإسلاميين المعتدلين، ولا لمن يوصفون بالمصطفين في الصف التقدمي بكافة أطيافه وألوانه اليسارية والليبرالية.

لم تقبل الكتلة الناخبة المغربية بنسبة عالية على صناديق الاقتراع مثلما لم يسجل البالغون سن التصويت أنفسهم في اللوائح الانتخابية ؛ وهذا في حد ذاته خطأ فادح لا يهم معرفة من يتحمل مسؤوليته ولا يتلاءم مع الفرص التي أتاحها للبلاد دستور 2011.

وعلى سبيل المثال فإن إسابنيا ،جارة المغرب الشمالية ،تمر منذ سنوات بسلسلة أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية وملفات فضائح مالية كبرى، وتهديد حركات سياسية تطالب بحق جهاتها في فك ارتباطها مع الدولة المركزية الإسبانية لإعلان دولتها المستقلة، لدرجة ان اقليم كاتالونيا قطع خطوات خطيرة وسريعة في سياق وضع الحكومة الوطنية أمام الأمر الواقع.

هذا الوضع المعقد والشائك، تسبب في إعادة الانتخابات التشريعية في البلاد ، في ظرف ستة أشهر، من دون أن تسفر نتيجتهما عن فرز أغلبية برلمانية واضحة تضمن استقرار الولاية التشريعية والحكومية لمدة أربع سنوات. وما زال شبح تكرار الانتخابات للمرة الثالثة ممسكا برقاب الطبقة السياسية الإسبانية، ما لم تسمح بقيام حكومة أقلية يقودها الحزب الشعبي الحائز على المرتبة الأولى أصواتا ومقاعد في البرلمان الوطني.

وفي كل الاستحقاقات التشريعية والجهوية، لم يتخل أغلبية الناخبين الإسبان عن القيام بواجبهم الوطني كما لم ينزل معدل المشاركة عن نسبة 70 في المائة.
صحيح أن حدة الاستقطاب الحزبي كانت قوية في إسبانيا إلى جانب تمايز البرامج ؛ لا تماثلها المزايدات الكلامية التي ميزت الحملة الانتخابية في المغرب حتى لا نقول المهاترات حيث غاب معها الحديث عن جدوى البرامج والنقاش الموضوعي بخصوصها ؛ ما يمكن أن يعد ذلك سببا ضمن أسباب أخرى، حالت دون إقبال نسبة مهمة من الناخبين المغاربة على صناديق الاقتراع ومعازل التصويت.

فما جرى في المغرب أثناء الحملة من تبادل خطير للاتهامات بين المتصارعين وخروج في بعض الأحيان عن التقاليد المتعارف عليها ،واستعمال خطاب التهديد من هذه الجهة أو تلك.. كل ذلك كان ينذر بمشهد متأزم شديد الاحتقان ؛ ومن حسن الحظ أن هدأت الأطراف المعنية في الحكومة والأحزاب، وانتهت إلى أن عدم التحكم في العواطف والأهواء يمكن أن يجهز ليس على العملية الاقتراعية بحد ذاتها، بل على التجربة الديموقراطية الفتية برمتها.

وفي هذا الإطار سارع" فقهاء "الشر " إلى إصدار الفتاوى وإنجاز قراءات متعسفة لبنود الدستور، دعا بعضهم إلى تعديله في اقرب وقت ممكن وإلغاء الاقتراع الذي منح حزب العدالة والتنمية المرتبة الأولى، بفارق مهم عن الحزب الثاني.

والحقيقة أن صنفا خاصا من المحللين السياسيين والمتخصصين في القانون الدستوري، تحمسوا لأفكارهم لأن الدولة المغربية مارست في الأيام الأولى تعتيما سياسيا أربك إلى حين حسابات المراهنين في البورصة السياسية ، لدرجة أن البعض منهم رأى في عدم تهنئة الملك محمد السادس الفائز في الانتخابات غداة ظهور النتائج ، مؤشرا سلبيا قد تدفع الجالس على كرسي الحكم إلى التفكير في حل بديل بالاستناد إلى اجتهاد دستوري.لقد نسوا أن ملك البلاد لا يتصرف كحزب يسارع إلى تهنئة منافسه ، وإنما بناء على اعتبارات أخرى.

لكن الملك محمد السادس ، الذي تعايش مع ولاية ابن كيران المنتهية، بسلبياتها وإيجابياتها، لم يكن مستعدا لإجهاض التجربة ، إذ لا يوجد مبرر مقنع لفعل ذلك ؛ فالإسلاميون المغاربة رغم كل ما يمكن أن يقال عنهم ،هم كتلة مختلطة فيها المحافظ والمعتدل، وبينهم فئات من الطبقة الوسطى التي تصوت عليهم ولا تذهب بالضرورة بانتظام إلى المساجد.

بعد إشارات التهدئة وانقشاع السحب المنذرة بالعواصف، خففت الأطراف من اللهجة الاتهامية ، بل لعلها أدركت مغزى التلميحات الملكية.

ولو لم يحدث ذلك لما تجاوب ادريس لشكر، أمين عام الاتحاد الاشتراكي مع دعوة ابن كيران ،فأتى إليه في مقر حزب العدالة والتنمية، بينما كان الأمر أسهل بالنسبة لزعيم حزب الاستقلال الذي أظهر علامات الرغبة في المصالحة مع ابن كيران قبل الانتخابات بشهور.

ومن المؤكد أن لشكر هو أكثر شعورا بالإحراج بين كافة الفاعلين الحزبيين ؛ فإذا شارك بنتيجة حزبه الضعيف فإن سهام النقد ستوجه إليه من الجهات الأربع، وإن عارض فسينظر إليه على أنه المتسبب في نهاية الاتحاد الاشتراكي .والبدائل والخيارات تبدو أمام القائد الاتحادي، محدودة وضيقة ، ما عدا تركه الجمل بما حمل والانسحاب من القيادة بعد ترتيب الدعوة إلى مؤتمر عادي أو استثنائي لحزب القوات الشعبية.

بيد ان الذين يعرفون لشكر، يستبعدون إقدامه على هذه الخطوة الانتحارية . ويرون انه سيحاول علاج الوضع الحزبي والتنظيمي بما أوتي من مهارة في المناورة إلى آخر مدى.

لكن الجديد حقا في المشهد الحزبي المغربي، هو التحول الخطير في موقف زعيم "الاصالة والمعاصرة" إلياس العماري.

فبعد أن خاض حربا شبه صليبية ضد "العدالة والتنمية" ، إذا به يظهر في الأفق بثوب جديد مهادن وعقلاني من خلال مقال نشره اخيرا في احدى المواقع الالكترونية المغربية ، داعيا فيه إلى السلم والتساكن والتعايش بين الأفكار ومعتنقيها ونسيان الأحقاد والتوترات، واستبدال كل ذلك بالحكمة والتأمل في التحديات المحدقة بالمغرب جراء العولمة واضطراب الأوضاع الإقليمية وأسباب أخرى.

مقال العماري فاجأ كثيرين رغم إعجابهم باللغة الرصينة الهادئة والمحبوكة التي حرر ربها خلت من المفردات الإقصائية التي روجها العماري على لسانه أو ضمن أدبيات "الأصالة والمعاصرة" ، عوضها بجمل تنهل من القاموس الفلسفي والسياسي الغربي الحديث وكأننا نقرأ لمحمد عابد الجابري اوعبد الله العروي أو حتى انطونيو غرامشي، منظر "الكتلة التاريخية".

هذه الرياح الجديدة التي أوحى بها من دون شك، موقف العاهل المغربي المتبصر، من خلال حرصه على قيادة السفينة السياسية بهدوء واطمئنان؛ هي الدليل، إلى حين ثبوت العكس ، على أن ابن كيران لن يواجه عراقيل كبيرة لكنه في المقابل مطلوب منه أن يبرهن على مهارته في التفاوض والإقناع ؛ فلم يعد من حقه أن يحمل إخفاقه المحتمل للعفاريت والتماسيح وربما الثعابين التي تتربص به في كهوف وغيران ودواليب الدولة العميقة بالمغرب.

قصص الحيوان تلك، نفدت من الأسواق بعد نتائج انتخابات 7 أكتوبر. وإن بقيت نسخ منها فيجب منع تداولها.