وفق وسائل الإعلام التركية أن مقاتلات تركية نفذت يوم الخميس 26 ضربة جوية على قوات سوريا الديمقراطية الحليفة لواشنطن في محاربة تنظيم داعش، وحسب زعم تلك الوسائل بأن الغارات الجوية قتلت ما يزيد عن مئة شخص منهم، وبخصوص الغارات ذاتها فقد أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان بأن "غارات المقاتلات التركية طالت قرى الحصية وأم القرى وأم حوش التي استعادتها قوات سوريا الديمقراطية من براثن تنظيم داعش"، علماً أن تركيا أيضاً تعتبر نفسها جزءاً من التحالف الدولي ضد داعش، فكيف إذن تضرب تركيا مواقع مَن يضرب داعش!؟

عموماً ففيما يتعلق بنقاط التلاقي والتشابك بين القوات الموجودة في سوريا، كانت السي إن إن قد نشرت منذ مدة قصيرة انفوغرافاً تظهر فيه نقاط التلاقي والتصادم بين مجمل تلك القوات، إذ لم يجعل الانفوغراف جيش الأسد محوراً في الصراع الدائر، ولا اعتبرته صانعاً للإرهاب الأول في سوريا، ولا جعلته الهدف الرئيس الذي يتفق الكل معه أو عليه، إنما جعل الانفوغراف تنظيم داعش هو المحرك والمحور، بينما قوات النظام الاسدي هي مجرد واحدة من تلك القوات التي تشكل دائرة الصراع في ذلك البلد، والتي تحيط بداعش لتكتمل الحلقة المؤلفة من النظام السوري يليه، إيران، روسيا، حزب الله اللبناني، الجيش الحر، ومن ثم قوات سوريا الديمقراطية من ضمنها وحدات الحماية الشعبية، فتركيا من خلال الفصائل المدعومة من قبلها، أمريكا، ومجموعات اسلامية أخرى مدعومة من دول الخليج، وهكذا حتى تكتمل حلقة القوى المحركة للصراع في سوريا.

وحيال ذلك الشد والجذب القتالي يبدو وكأننا نقارب ما تحدث عنه المفكر اللبناني علي حرب في كتابه "تواطؤ الأضداد" المنشور عام 2010 بل وكأن الرجل تنبأ بكل ما سيحدث في بلادنا، مستشرفاً ما ستؤول إليها الأمور قبل حدوثها، وذلك من خلال قدرته على فهم طبيعة المنطقة وعقلية طوائفها وأنظمتها، إذ أن ما أشار إليه علي حرب قبل الثورة السورية هو عين ما يجري الآن فيها بعد مرور ستة أعوامٍ على الثورة، حيث يشبه المتوقَع في كتابه قائلاً: "تتواطأ الأضداد على صناعة الخراب الذي يتباكى الآن على أنقاضه مَن أسهموا في إنتاجه، مِن دعاةٍ ومثقفين وإعلاميين بعقولهم الملغمة المفخخة ومسلماتهم العمياء وتوجهاتهم المقلوبة، وتشبيحاتهم الأيديولوجية"، ولكن رغم غرائبية ما وصفه حرب قبل حدوثه، ومع كل تلك القتامة لا يزال واحدنا يتطلع إلى صناعة غدٍ أرحب من الأمسِ، ومستقبلٍ أقل ظلاميةً من ماضي البلد في ظل حكم العفالقة وآل الأسد.

لذا قد يقول واحدنا لعلنا على غرار التجربة الغربية نكون غيرَنا بعد حينٍ من الدمار، ونستفيد على الأقل مما تجرعه السوريون طوال الفترات التي سبقت الثورة وأوانها، طالما أن قدراتنا الذهنية كانت عاجزة عن الاستفادة من تجاب الآخرين.

إذ يُقال بأن من بعض أسباب ولادة العبثية الفنية في أوروبا هو إطالة أمد الحروب وانغلاق باب الحلول عليها، وطغيان ملامح الظلام في الأفق، ودوام عمر الدمار والخراب والقتل اليومي، إذاً فما الذي يميزنا عنهم؟ ألسنا نعيش نفس العبثية التي عاشها الاوربيون؟ وذلك عندما تقدم أمريكا الدعم اللوجستي والعسكري وتأمن الغطاء الجوي لتقدم قوات سوريا الديمقراطية نحو الدواعش، ومن ثم تسمح أمريكا لتركيا بأن تهجم على قوات سوريا الديمقراطية وربما تبارك في السر خطواتها، مع أن قوات سوريا الديمقراطية تحارب داعش، والجيش الحر يحارب داعش، وتركيا أيضاً ولو إعلامياً تحارب داعش، وفي مكانٍ آخر ترى الجيش الحر يُحارب قوات سوريا الديمقراطية بمؤازة تركيا، كما أن ألد أعداء تركيا قبل الأسد والدواعش هم وحدات الحماية الشعبية التي هي بمثابة عمود فقري لقوات سوريا الديمقراطية، حيث تتبارى كل من تلك القوات والغرب وتركيا في محاربة داعش، وكأن تنظيم داعش غدا بمثابة تحويلة رئيسية في خارطة الحرب والتغيير في المنطقة، إعلامياً الكل يحارب داعش، وبنفس الوقت قد تكون ثمة تقاطعات بين معظم تلك القوى التي تحارب التنظيم أرضاً وجواً.

وبالعودة الى الانفوغراف المذكور أعلاه فيبدو فيها جلياً نقاط التقاطع وكذلك الاشتباكات بين مجمل القوات الموجودة على الأرض السورية أو الداعمة لبعض أطرافها عن بُعد، فدولة البعث تحظى بدعم متواصل ومعلن من حزب الله وإيران وروسيا، وجميع تلك القوات تقاتل الثوار مثلها مثل داعش، وكذلك يحارب ذلك الحلفُ كتائب الجيش الحر والاسلاميين بوجهٍ عام، فيما تقدم أمريكا وبعض الدول خليجية دعماً علنياً للجيش الحر الذي يخوض معاركه مع الأسد من جهة ومع داعش من جهةٍ أخرى في بعض الأوقات، وكذلك تخوض مواجهات مماثلة مع وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي في بعض الأمكنة من حدود عفرين إلى تخوم تل أبيض مروراً بمنبج والباب والرقة وحيناً غالباً الأحيان في موقع الكاستيلو بحلب إضافة الى اشتباكاتهم في محافظة الحسكة.

الغريب في الخلطة القتالية بسوريا أن أمريكا تدعم فصائل الجيش الحر الذي يُحارب بدوره وحدات الحماية الشعبية التي تلقى الدعم العسكري نفسه من واشنطن والغرب وروسيا، فيما تركيا التي تحاول جاهدة إظهار نفسها من القوى التي تحارب داعش، تراها تقصف مواقع قوات سوريا الديمقراطية التي تحارب داعش، لئن تبقى غايتها الأساس هو النيلُ من وحدات الحماية الشعبية وحزب الاتحاد الديمقراطي بعينه وليس داعش، فالمشهد عبثيٌ للغاية، إذ أن الكل من خلال داعش يتواصل مع الكل، والكلُ يتفق من خلال دعوة محاربة داعش مع الكل، وأغلبهم ينتقم من بعضه عبر الغول الداعشي نفسه!!!

كما أنه إلى جانب القوى الكبيرة هذه، تنتشر على الأرض مجموعات إسلامية أخرى عديدة تتقاطع مصالح بعضها مع قوى إقليمية وخليجية ودولية، ولبعضها الآخر صلات بـ"جبهة فتح الشام" التي كانت تنشط سابقا تحت اسم جبهة النصرة" التابعة للقاعدة، ليبقى تنظيم داعش الجامع المحوري بين جميع الأطراف، باعتباره غدا الهدف الرئيسي لمجمل القوى المتحاربة، إذ أن داعش لم يساهم في تفتيت الخارطة فقط، إنما رفع أيضاً من منسوب الأهمية الوجودية للأسد لدى أغلب الدول الأوربية عدا عن محوره الخاص، حيث صار دكتاتور سوريا الذي كان المُساهم الأول والفعلي لتفريخ الخلايا الداعشية في المرتبة الثانية لما يُشكل من الخطورة على السلم الأهلي في المنطقة، وكذلك لدى الدول الغربية بعمومها، ومع كل تلك التقاطعات حيناً والتنافرات في بعض الأحيان فلم يوقف ذلك التقارب الجوهري حدة الاشتباكات بين أغلب القوى المتناحرة على أرض سوريا، إذ أن سوريا بحقولها الخضراء غدت ميداناً عالمياً لمصارعة ثيران الدول الاقليمية والغربية.

ومن باب المقاربة بين ما يحدث في سوريا مع ما حدث في الدول الغربية من قتال، فمعروفٌ أن الحروب العبثية في أوروبا ولّدت فنون وأوجدت في طريقها النظرية العبثية في حقول الإبداع، فيا ترى بعد كل هذا القتال العبثي الذي قرأناه أعلاه هل سنشهد حركة مماثلة لها في سوريا؟ ليس تقليدا لما كان في الغرب، إنما باعتبار أن الواقع العبثي الذي يعيشه السوريون قد يكون مؤهلاً لولادة أمثال أولئك الغربيين في عالم الفن والكتابة مثل: صامويل بيكيت الرائد الأول لمذهب العبث، الذي ألف في جميع الأشكال الأدبية ومُنح جائزة نوبل عام 1969م، وكذلك الكاتب الفرنسي أوجين يونسكو الذي يُعد من أركان مسرح اللامعقول، إذ أن من بين الشعوب والدول التي ذاقت مرارة الحروب المذهبية مثل السوريين وعاش مواطنوها كل ويلات الصراعات الدموية خرج من بين ركام خراب بلدانهم كتاب ومبدعون يكتبون وجهة نظرهم فيما يرونه وينتصرون للقيم الإنسانية بعد تعرض بلادهم لكافة أشكال الدمار.

ولكن مع عدم استحالة التجربة التي نشير إليها، إلا أن ثمة فارق جوهري بين مبدعيهم وأغلب مبدعينا، إذ أن الأدباء والمفكرين الغربيين لم يبتعدوا كثيراً عن مواقع الأحداث، فحتى منافيهم كانت على مقربةٍ من ديارهم، واستطاعوا أن يستفيدوا من معظم المفارقات الحياتية البائسة والقاتلة حينها، بل ووظفوها بأبهى حُلة فنية وإبداعية، بينما المبدع السوري الذي قطع الفيافي والبحار وصار بينه وبين مكان الحدثِ آلاف الكيلومترات فأنى له التعبير عن ذلك الخراب وتقديمه بصورة فنية خلاقة، وهو قد لا يعرف شيء عن تفاصيلها إلّا من خلال وسائل الاعلام شأنه شأن أي مواطنٍ غريبٍ عن بلده، وأي أثر سيُحدثه فيما مشاعره وأحاسيسه وانفعالاته لا تتجاوز مشاعر وأحاسيس وانفعلات أي مواطنٍ آخرٍ من العالم؟