سنةً بعد سنة ومرحلة إثر اخرى يبدأ العدّ التنازلي في الهبوط بمستويات التعليم عندنا الى حالة مفزعة من الانحطاط والدرك الاسفل وهذا يعني ان انهيار التعليم يساوي انهيار أمّة وفقدان الوعي والاستئناس بالتخلّف وتكون ربوعنا مفاقس لولادة الافكار السقيمة والماورائيات والغيبيات وتعطّل الانتاج العقلي والابتكار والابداع والنماء .

وكلما انظر بعيدا وارى ماحلّ بالتعليم في بلداننا العربية من إسفاف وانحدار هائل اقول مع نفسي ان الجهل صار سلاحَ تدميرٍ شامل قد يفوق بمؤثراته المدمّرة ما تفعله الاسلحة الفتاكة ، تلك الظاهرة المخزية حقا أصبحت وبالاً علينا ، فالنجاحات في كلّ المراحل الدراسية تتحقق بالمال والرشى وجهّال تسيّدوا المواقع الرئيسية ولم تسلم حتى المواقع الثقافية الكبرى من أن يركبها الجهل وشهادات عليا تباع وفق تسعيرات متباينة وبليدون يتحكمون وصنّاع قرار يأمرون ويتخذون قرارات مصيرية ؛ والنجاح يكال بما لديك من دولار وهدايا في موازين عرجاء كسيحة حتى تثقل كفّته وينال امتيازا ، فاذا اراد الله ان يخزي اقواما منع عليهم العلم والابتكار وضيّع عقولهم في متاهات الجهالة والظلامية واشغلهم بجمع المال وأزاد فيهم الطمع والاستحواذ وأفقدهم الواعز الاخلاقي والمساعي باتجاه تنوير العقل وتخليصه مما علق فيه من شوائب مرَضية وترهات وكسل وعجز .

ومن البديهيات التي لانقاش فيها ان المجتمعات ترقى بعقولها وإرادتها وعزمها كدحاً ذهنيا وبسواعد صلبة واول عتبة الرقي هو التعليم السليم القائم على قواعد تجريبية مادية لصناعة بنيان تحتي رصين يعمل على تحريك نبض الصناعة والزراعة وكل النشاطات الاقتصادية الراكدة وإحياء نبض الحياة فيها ومن ثم اعادة النظر بالبناء الفوقي ومجمل الارث الثقافي السائد والجرأة في طرح كل مايعيق النهوض والنماء ورميه في نفايات الفكر الذي لم يعد نافعا بل قد يكون معيقا للخطى التي لابد من الشروع بها للوصول الى مانريد .

هنا لامجال للتردد والاستكانة والخوف من ردود فعل قد تقف امامك من قبل فئات مجتمعية منتفعة لايروق لها ان يختفي الجهل ويسود العلم وهنا علينا ان نجابه ونكون مثل مصدات الرياح مهما كانت تيارات التخلف عاتية اذ لابد من اعداد القوة الكافية والكفيلة القادرة على المواجهة ، عدا ذلك سنصل سراعا الى الحضيض لو بقينا مكتوفي الايدي واذا كنا مغموسين الان في أدران الجهل ومناقع التخلف وأوحاله التي أوشكت ان تلامس صدورنا فقد يأتي زمن نغرق فيه غرقا يعلو رؤوسنا وسنكون حتما في عداد العرب البائدة .

فالشعوب بلا تعليمٍ راقٍ تجريبي هو هلاكٌ مابعده هلاك .. وكيف لنا ان ننتج عدلا اذا كان قضاتنا بلا رصانة الإنصاف ويميلهم المال والهوى والمحاباة الى خانة ظلم الأبرياء وإدانة الأسوياء وإطلاق الإجرام وتبرئة المارقين والسارقين والعابثين بثروات أوطانهم المادية والمعنوية .

وهل تنمو الأذهان والعقول الشابة والفتية على أيدي من يسمونهم أساتذة سبق ان ارتقوا بأساليب الغشّ وحصلوا على شهاداتهم بالمال والرشى والاعتبارات غير العلمية السائدة الان في أروقة جامعاتنا ومعاهدنا العليا ؟؟ .

يزداد السوء سوءا اذا كان المعلم الذي تتأمل منه خيرا للارتقاء بالنشء الجديد هو نفسه الشرّ بعينهِ ومصدر من مصادر التخلف والتراجع والانحدار .

وكيف يتطبب مريض معنّى ويشفى على يد طبيب بليد غير ماهر لا يحسن تشخيص الداء ولا اختيار الدواء الناجع ويرتعد اذا مسك مشرط الجراحة وترتجف يده كلما اقتربتْ من جسد عليل لأنه نجح بماله ورشى معلميه ومشرفيه كي يتخرج ويستلم شهادته ؟ .

لست آمن ان يظللني بيت بُنِي تحت اشراف مهندس جاهل لم يتعلم ويهضم اختصاصه ولا يفهم حتى مبادئ عمله ومن يدري فقد يسقط البناء والسقف على رأسي ورأس عيالي على حين غرّة .

كيف عليّ ان اطمئن لمعلم التربية الدينية المغرق في السلفية الجهادية ولا يعرف غيرها وهو يحشو ادمغة صغارنا وفتيتنا بمفاهيم غاية في العنف والدموية وهو يحكي لهم عن الجهاد وعن آيات السيف والقتال ويغفل عامدا عن الاضاءات الانسانية وعن قيم الخير والرشاد والبرّ التي يزخر بها الدين نفسه ؟ .

وكم نخاف لو ان الحظ العاثر جلب لنا سياسيا جاهلا جرفته الاحزاب السياسية الينا وهو بلا مهارات او مران او تجارب مسبقة فلا ديبلوماسية او حنكة او منطق سليم او اهتمام بأحوال الرعية وحاجاتها ليقود الملأ المتعب من شعبه الى المهاوي ويزيد من هموم التخلف ويكثر من عبئنا أعباء اخرى ! .

كل ذلك يحصل في ظلّ تعليم هابط مشوب بالمنافع والاطماع ،خالٍ من النزاهة والحرص على شؤون العباد والبلاد .

لست في حاجة الى التذكير على مدى اهتمام العالم المتمدن بالمعلم وتبجيله وإعطائه الدرجة العليا التي يستحقها والمرتّب الذي يغطّي حاجاته ليعيش موسّرا دون ان يلجأ لمدّ يده ارتشاءً ؛ ففي اليابان مثلا يمتلك المعلم حصانة قد تفوق حصانة الديبلوماسي ويمنع استجلابه للمحاكم او مراكز الدرك والشرطة وهو يأتي طواعية وحده بلا جرجرة البوليس في حالة وجود قضية ما يستدعي حضوره للاستجواب كما ان مرتبه في تصاعد بحيث يبقى عفيفا مكتفيا بحيث لايضطر الى ان يسيل لعابه طمعا ويهفو لما يقدّمه الفاشلون ارتشاء ، وله من المكانة الاجتماعية والفكرية مايفوق مواطنيه العاملين في المجالات الاخرى .

والمحزن اننا لم نشهد في عالمنا العربي اي اهتمام ملموس بالتعليم ورعاته ويكاد يكون المعلم بالمرتبات القريبة من الدنيا من ناحية العوز وعدم الاهتمام باستثناء الامارات العربية المتحدة التي أولت رعاية مقنعة الى حد كبير به قياسا بما يجري في العالم العربي ، ففي الامارات يستذكر المسؤولون فيها معلميهم الكبار الاوَل ويضفون عليهم هالات من الاعتبار والتقدير بين حين واخر تثمينا لدورهم وتفانيهم في صنع اجيال لم تنس من وضع بذور المعرفة منذ الصغر في اذهانهم وقد رأيت بأمّ عيني مشاهد مؤثرة لمعلمي الامارات الاوائل ومنهم من كان مُقعدا كسيحاًعلى الكرسي المتحرك يسارع المسؤولون الاماراتيون للانحناء عليهم وتقبيلهم ، ولنكن في غاية الصراحة فان عيد المعلم يمر علينا يوما واحدا في السنة مرور الكرام بل مرور عدم الاهتمام وكأنه عابر سبيل لرسول المعرفة بلا وفاء او تبجيل لهذا المتفاني الذي رسخ في عقولنا حبّ المعرفة .

لنعترف بان سوءاتنا كثيرة جدا لكن أكثرها إيلاما وخطورة مايصيب التعليم من درك وتدنٍّ خطيرين جدا لو بقي الحال على هذه الشاكلة المعيبة جدا ولا نبالغ لو أصررنا بان الخطوة الاولى نحو النماء والرقي والبناء السويّ تبدأ من التعليم فلا بدّ اولا من تحديثه وفق النظم الجديدة المعاصرة ليكون موائما لطموحاتنا في الصعود والوقوف في مصاف الدول التي اعتمدت قبلنا تلك المعايير السليمة وعلينا الاّ نخجل من طرح برامجنا الرثة جانبا أو رميها في حاويات النفايات التي لم تعد تنفع في واقعنا الحداثوي الراهن مثل السلَفيات والمرويّات الهزيلة المشكوك في صدقيتها وقلب الطاولة على الاساليب غير المجدية التي اثبتت خطلها وبدائيتها وكفانا النوم في الوحل والاستئناس بقيعان الجهل والبلادة بينما بقية الاقوام تنام على فراش التحضّر الوثير .