أقصد هنابالمثقفين الألمان أولئك الذين برزوا بعد الحرب العالميّة الثانية، وأخذوا على عاتقهم إعادة كتابة تاريخ بلادهم المنكوبة بهزيمة نكراء، والحفر في طيّاته بحثا عن الأسباب التي أدّت إلى ظهور النازيّة. وكان هؤلاء المثقفون في سنّ العشرين، أو اكثر بقليل عندما انهار نظام الصّرح النازي. وسعيا منهم الى فهم ما حدث، أخذوا يلتقون هنا وهناك لمناقشة القضايا والأوضاع التي كانت تعيشها المانيا في ذلك الوقت بهدف وضع الأسس الكفيلة بالنهوض بثقافتهم التي صادرها النازيون لصالحهم فباتت ناطقة باسمهم، مشرّعة لجرائمهم. كما أنهم شرعوا في إعادة النضارة الى لغة غوته التي سَمّمتها الداعية النازية، وخطب هيتلر وغوبلس الشوفينيّة. ولم يلبث أن أفضت الاجتماعات التي كان يقوم بها هؤلاء المثقفون الى ظهور "جماعة 47”، وهي جمعيّة أدبية كان من أبرز رموزها هاينريش بل، وغونتر غراس، ومارتين فالسر، وهانس ماجنوس انسنسبرغر وآخرون. وجميع الذين انتموا الى "جماعة47”ناصروا الديمقراطيّة، وانتقدوا عبر مؤلفاتهم ومواقفهم الفترة النازية، والجرائم التي ارتكبت خلالها ضدّ اليهود بالخصوص. كماأنهم وقفوا مساندين لجلّ حركات التحرّر والثورات التقدميّة التي عرفها العالم بعد الحرب الكونيّة الثانية.

وثمّة منهم من ذهب الى أبعد من ذلك. وهذا ما فعله هانس ماجنوس انسنسبرغر الذي انطلق الى كوبا لمساندة ثورة فيدال كاسترو وشي غيفارا. وعلى مدى عقود طويلة، مثلت "جماعة 47” ضمير ألمانيا الجديدة ذات الوجه الإنساني.

إلاّ أنه ولا واحدا من رموزها تجرّأ على الجهر بموقفه الواضح تجاه القضيّة الفلسطينيّة، أو إنتقاد اسرائيل. وقد تعاطف هاينريش يل الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1970، مع منظمة "بارماينهوف" من خلال روايته الشهيرة"الشرف الضائع لكاترينا بلوم". وكانت هذه المنظمة اليسارية المتطرفة قد ساندت الأجنحة الراديكالية الفلسطينية. غير أن هاينريش أبى حتى النهاية، إبداء موقفه تجاه القضية الفلسطينية.

ومنذ صدور رائعته"طبل الصفيح" في أواخر الخمسينات من القرن الماضي، والتي أتاحت له شهرة عالمية واسعة، وفتحت له الطريق واسعا لنيل جائزة نوبل للآداب عام 1999، وحتى وفاته، العام الماضي، لم ينقطع غونتر غراس عن التدخل في الشؤون السياسية سواء داخل بلاده، أم خارجها. ففي الستينات، طاف في كبريات المدن الالمانيّة قارعا طبله مساندا الإشتراكيين الديمقراطيين، وزعيمهم فيلي براندت. وفي أكثر من مناسبة، انتقد غونتر غراس تركيا بسبب سياستها المعادية للأكراد. بل وطالب حكومة بلاده بقطع علاقتها مع أنقرة.كما أنه انتقد بحدة سياسة جروج بوش الأب، وسياسة جروج بوش الإبن.

مع ذلك لم يتجرأ على الإفصاح عن رأيه بخصوص القضيّة الفلسطينيّة. وعندما حاول أن ينتقد إسرائيل من خلال قصيدة نثريّة، شنت عليه وسائل الإعلام هجومات عنيفة أسكتته فما باح بعدها بكلام. وفي أواخر التسعينات من القرن الماضي، أدلى الروائي المرموق مارتين فالسر بتصريحات أشعلت جدلا ساخنا ظلّ لهيبه مشتعلا أشهرا طويلة. وفي تلك التصريحات أشار الى أن "الهولوكست" بات شيئا من الماضي، وأن الأجيال الجديدة لم تعد معنية به. لذلك فإن الخوض فيه، والكتابة عنه يعدّ عملا عقيما لا يؤدي الاّ الى المزيد من تبكيت الضمير. وأضاف مارتن فالسر قائلا بأن هناك دولا كبيرة ارتكبت مجازر بشعة بحقّ شعوب، ومجموعات عرقيّة ودينيّة، مع ذلك لم تتم محاسبتها مثلما هو الحال مع المانيا. لذلك يتعيّن على الأجيال الالمانيّة الجديدة التي لم تعش أهوال الحرب، أن تدفن "الهولوكست". مع ذلك لم يسمح مارتين فالسر لنفسه حتى بالإشارة الى القضيّة الفلسطينيّة! ومثلما ذكرت، تعاطف هانس ماجنوس انسنبرغر مع الثورات التقدمية. وخلال انتفاضة ربيع عام 1968 الطلابيّة، كان في طليعة المساندين لها.ك ما أنه هلّل لوصول الاشتراكيين الى السلطة بعد رحيل الجنرال فرانكو.أما القضية الفلسطينية فلم تستأثر باهتمامه ولو مرة واحدة. بل أنه عبّر عن مساندته لإسرائيل في اكثر من مناسبة، غاضّا الطرف عن الجرائم التي اركبتها، وترتكبها تجاه المدنيين الفلسطيين...ولعل الماضي النازي ا هو الذي يجعل جلّ المثقفين الألمان يتجنبون الخوض في أي موضوع أو قضية يمكن أن تحرجهم أمام اسرائيل!
&