قال الشاعر الهنغاري جيولا ايلياس ذات مرّة: ”في كلّ فترة تصبح فيها السياسة مُلغاة من الحياة، فإنّ الثقافة هي التي تأخذ مكانها". وبسبب احتكار ألأحزاب الشيوعيّة التي حكمت بلدان ما كان يسمى ب"الكتلة الإشتراكيّة" للسياسة، تحوّلت الثقافة شيئا فشيئا الى وسيلة لمواجهة القمع، وكبت الحريات العامّة والخاصّة. وكان المثقفون الرّوس هم الأوائل الذين أطلقوا صرخة الإنذار بالخطر الداهم. فكان جواب ستالين ارسال أعداد وفيرة من الكتاب والشعراء والمثقفين الى المعسكرات السيبيريّة حيث حصد الموت والمرض والبرد قسما كبيرا منهم. والذين تمكّنوا من البقاء على قيد الحياة، غادروا معسكرات الإعتقال وقد فقدوا الرغبة في الحياة. آخرون آنتحروا يأسا مثل ماياكوفسكي، وايسنين، أو أدخلوا الى مصحات ألأمراض العقليّة، أو فرّوا الى المنافي. ومُدْركين للخطر الذي تمثّله الثقافة على وجودهم، وعلى سياستهم، بَسَط قادة الحزب الشيوعي السوفياتي نفوذهم خارج المجال السياسي والإقتصادي ليشمل الحياة الثقافيّة والفنيّة في مجملها. وهكذا ظهرت الواقعيّة الإشتراكيّة التي كان الهدف ألأساسيّ منها اخضاغ كلّ الفنانين والمفكرين والمبدعين للقواعد والقوانين الصارمة التي سنّتها الأحزاب الشيوعيّة في كلّ ما يتّصل بالأدب والفكر والفن.ومنذ ذلك الحين، أصبح كلّ ما يتجرأ على مخالفة تلك القواعد، وتلك القوانين، مُتّهما ب"الخيانة الوطنيّة"، وب"الإنحياز للثورة الضادة وللقوى الرجعيّة".وهذا ما حدث مع بوريس باسترناك، ومع سولجينستين، ومع أنّا أخماتوفا، ومع آخرين كثيرين. وقد توسّع نفوذ الواقعية الإشتراكية التي كان جدانوف منظرها المهاب الجانب، ليشمل كلّ البلدان التي أصبحت تحكمها أحزاب شيوعيّة بعد الحرب الكونيّة الثانية مثل بولونيا، وما كان يسمّى بتشيكوسلوفاكيا، وألمانيا الشرقية، والمجر، وألبانيا،والصين، وكوبا، فيتنام. وبالرغم من حملات القمع الرهيبة التي تعرضوا لها، فإن قسما هامّا من المثقفين والمبدعين في البلدان المذكورة ظلّوا متشبثين بمفهومهم للثقافة كفضاء للحرية، وكوسيلة لمقاومة الإستبداد، والدوغمائيّة الإيديولوجيّة. وكان كتاب:”يوم من أيّان ايفان ديسينوفيتش" لألكسندر سولجينتسين أولّ من كشف قسوة الفترة الستالينيّة، مُبرزا بشكل فنيّ رائع مُعاناة ضحايا المعسكرات في سيبيريا.
وفي مطلع الخمسينات من القرن الماضي،،ظهر من أصبحوا يسمون ب"المثقفون المنشقّون". وقد لعب هؤلاء أدوارا هائلة في النضال ضدّ السلطات الشيوعيّة في بلدانهم. وكانت آنتفاضة العاصمة المجريّة بوداباست ثمرة جهود مثقفين وشعراء وكتاب آشتهروا في ذلك الوقت بآسم"جماعة حلقة بيتوفي". وكانت آنتفاضة براغ في ربيع عام 1968 من وحي المثقفين المنشقين أيضا. في نفس تلك السنة، آندلعت في بولونيا حركة تمرديّة بسبب منع السلطات البولونيّة الرسميّة معرض مسرحيّ لمثقف منشقّ. وكان المثقفون البولونيّون هم الذين بعثوا للوجود منظمة"تضامن" العماليّة التي سوف تتحول بسرعة الى حركة معارضة قويّة وعتيدة.
والآن،وبعد مرور أزيد من ربع قرن على آنهيار الأنظمة الشيوعيّة وجدار برلين، يطرح الكثيرون السؤال التالي: أين المثقفون المنشقّون؟ و لعلّهم محقّين في طرح مثل هذا السؤال. فبعد أن كانوا يحتلون المشهد على مدى ما يزيد على أربعة عقود، ها هم يختفون حتى لكأن وجودهم في السابق كان مجرد وهم. وعن هذا الإختفاء السريع والفجئيّ، كتب انطونان ليهم، وهو من قدماء المنشقين في ما كان يسمى بتشيكوسلوفاكيا، يقول:”عندما آنهارت الشيوعيّة، كانت حركة المثقفين المنشقين كبيرة. وقد حفرت في تلافيف وعيها بأن النظام الشيوعيّ بات أبديّا. ولم يفكّر المعارضون للشيوعيّة بطريقة جديّة في ما يعني"الخروج من الفترة الشيوعيّة". فلمّا آنهارت الأنظمة الشيوعيّة فجأة، وبتلك السرعة التي لم يتوقّعها أحد، شرعوا في البحث عن الحلول الممكنة للمرحلة الجديدة. غير أنهم لم يلبثوا أن وجدوا أنفسهم يسبحون في فراغ رهيب. والذين توصّلوا منهم الى بعض الحلول، لم يكونوا من المثقفين المنشقين، وإنّما كانوا من أهل الإختصاص في مجال الإقتصاد، والمال. وأغلب هؤلاء كانوا يعملون في مؤسسات النظام القديم. وقد قبل من كانوا يُسَمّون بالمثقفين المنشقين بهذه النزعة الليبرالية الجديدة معتقدين أنه يجب التخلص من المؤسسات العامة لأنها تمثّل في رأيهم العدو رقم واحد للثقافة. ونتج عن ذلك آنحسار المساعدات الماديّة التي كانت تقدم للثقافة بشكل هائل. وبين عشيّة وضحاها، وجد المثقفون انفسهم خاضعين خضوعا تامّا لمتطلّبات السوق وقوانينه. وكان ذلك بمثابة الضّربة القاضية للثقافة الوطنيّة. ولعل المخرج السينمائي البولوني أندريه وَجْدَا هو أفضل من حدّد ملامح المرحلة الجديدة في المجال الثقافي عندما قال:”لقد ناضلنا طويلا من أجل حرية السينما. والآن نحن نمتلك الحرية، لكننا لا نملك سينما". وعن الفراغ الثقافي الذي أصبحت تعيشه البلدان التي كانت تحكمها أنظمة شيوعيّة، يقول انطونان ليهم:”لقد أخطأ المثقفون المنشقون مرتين: ففي المرة الأولى آعتقدوا أن الأموال العامة هي العدو الأكبر للثقافة، وأن الثقافة التي تمولها الدولة تذكر بالأساليب الشيوعية. أما الخطأ الثاني فهو هيكليّ بالأساس. ولتوضيح ذلك أقول بإن مرحلة إعادة البناء التي بدأت منذ آنهيار الشيوعيّة، تركزت على الأمور المتعلقة بالمسائل السياسيّة والإقتصادية والإجتماعية، تاركة للثقافة مساحة ضيّقة للغاية. وقد كانت مرحلة إعادة البناء في مُجْمَل بلدان اوروبا الشرقيّة بلا أفكار، وبلا برامج، وبلا روئ محددة. ثم إن الفراغ الفكري لا يَخُصّ البلدان المذكورة وحدها، وإنما يخصّ أيضا بلدان اوروبا الغربيّة التي تزعم انها تملك الحلول لإعادة بناء البلدان التي كانت خاضعة للانظمة الشيوعيّة. ويرى انطونان ليهم أنّ المثقفين عادة ما يكونون سياسيين سيئين، وأن المثقف عادة ما يكون "شقيّا اكثر مما يكون سعيدا". وهو "يحبّ أن يطرح أسئلة تحرج رجال السياسة، وتزعجهم". بل قد "يشكك في نفسه وفي وجوده". لذلك قّرر ميلان كونديرا العيش في المنفى لأنه أراد ان يتفرغ للكتابة. أما فاتسلاف هافل فقد فضّل البقاء في موطنه لأنه كان يرغب في ان يكون رجل سياسة!
ومجيبا على السؤال: أين المثقفون المنشقّون؟ كتب المثقف اليوغسلافي المرموق بيتراغ ماتشيفيتش يقول بإنه خلال الزيارات التي أدّاها الى موسكو وسانت بطرسبورغ، سعى الى أن يلتقي بمثقفين كانوا مضطهدين في الحقبة الشيوعية، بل أن البعض منهم أمضوا فترات طويلة في المعسكرات، أو في المصحات العقليّة، غير أنه لم يفلح في مسعاه. وقد آكتشف في النهاية أنّ هؤلاء فضلوا الإحتجاب عن الأنظار لأن الشجاعة التي أظهروها خلال الحقبة الشيوعية تُذكّر كثيرا بجبن الآخرين. لذا فإن الناس يتحاشونهم تجنبا للإحراج. ويرى ماتشيفيتش ان المثقفين المنشقين كانوا قادرين على النقد، وعلى الهدم، لكنهم أظهروا في النهاية أنهم عاجزون عن البناء، وعن المساهمة في تشييد مجتمعات جديدة على أنقاض الشيوعية. كما أظهروا عجزهم عن مواكبة التطورات والتحولات المتلاحقة. ويتابع ماتشيفيتش كلامه قائلا:”إن سولجنيتسين الذي كان خلال الحقبة الشيوعية رمزا من رموز الثقافة المنشقة، عاد الى روسيا وهو مصمّم على أن يلعب دورا مّا. لكن حال وصوله، تيقن أنه عاجز عن أن يفعل أي شيء في بلد تحكمه المافيات والعصابات الجشعة. وسعيا منه للتخلص من هذا الوضع المشين، راح سلوجنيتسين يطوف في أنحاء روسيا بحثا عن الكنائس القديمة. أما ساخاروف فقد بهتت ذكراه حتى لكأنه لم يعش أبدا. ولو عاد تروتسكي الى روسيا لما وجد لنفسه مكانا، غير ذلك المكان الجهنمي الذي خصصه له ستالين. وبإمكاننا ان نسأل: أين باتوشكا الذي كان أحد رموز ربيع براغ عام 1968، والذي دفع الثمن غاليا بسبب معارضته للشيوعية الستالينية؟ أما "مبدأ الأمل" عند أرنست بلوخ فلم يعد يهمّ أي طالب في الفلسفة في أيّ جامعة من جامعات اوروبا الشرقيّة. وقد توفي المثقف الكرواتي المنشق انطون شيليغيا في منفاه من دون أن يسمع به أحد. وفي بوداباست لم يعد أحد يقرأ نصوص تيبور ديري الذي كان أحد زعماء الانتفاضة التي هزت المجر عام 1956”.