ألمانيا كانت اول بلاد ظهرت فيها عبارة "دولة القانون" في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي تحت حكم دولة بروسيا الاستبدادي، وهو مذهب قانوني وفكري يقصد به إخضاع الدولة لقواعد قانونية تصبح بمقتضاها (اي الدولة) كيانا محكوما بالقانون، مما يقيد من سلطاتها ويحد من مجال تدخلها، فيتيح ذلك للمواطنين قدرا اكبر من الحقوق وحيزا اوسع من الحرية. وكان هدف رجال القانون الألمان وقتها كبح جماح النظام السياسي والحد من سلطاته عبر إخضاعه للقانون، سواء في تنظيم اجهزته او انشطته، حتى يتمتع المواطنون بحد ادني من الاعتبار في حريتهم وحقوقوهم الاساسية. (المصدر: ويكيبيديا – الموسوعة الحرة). 

في يوم الخميس، الثالث من الشهر الجاري، تلقت رئيسة الوزراء البريطانية "تيريزا ماي" صفعة قوية غير متوقعة، عندما حكم ثلاثة قضاة في المحكمة العليا البريطانية بأن عملية الخروج من الاتحاد الاوروبي من صلاحيات البرلمان البريطاني ذي السيادة، وليس الحكومة وحدها. صدر هذا الحكم في القضية التي رفعتها المواطنة البريطانية السيدة "جينا ميلر" من خلال مكتب المحاماة "ميشكون دو ريا" بشأن حق رئيسة الوزراء البريطانية في بدء عملية الخروج من الاتحاد الاوروبي من دون تصويت في البرلمان.

المواطنة البريطانية التي رفعت الدعوى، هي قائدة حملة "تحدي الشعب ضد بريكسيت"، نشأت وترعرعت في بريطانيا، وكانت درست التسويق وإدارة الموارد البشرية في جامعة لندن. تعرضت السيدة "ميلر" لضغوط شديدة بما فيها التهديدات بالقتل كما ذكرت في تصريحاتها، ولكنها لم تأبه لهذه التهديدات لقناعتها بأن الاحتكام الى القانون يصب في مصلحة الجميع، والقبول بتجاوز الحكومة لصلاحيات البرلمان يؤسس لسابقة تمكن رئيس الحكومة ان يقرر مستقبلا بشأن الحقوق التي يملكها والحقوق التي لا يملكها المواطنون، وبالتالي العودة بالديمقراطية 400 سنة الى الوراء.

من جانبه، اكد ممثل رافعة الدعوة المحامي "ديفيد بانيك" ان المسألة ليست في ما إذا كانت بريطانيا ستبقى ضمن الاتحاد الاوروبي او تخرج منه، القضية تتعلق بمسائل قانونية حول حدود السلطات التنفيذية ومعرفة ما إذا كان ممكنا للحكومة ان تتصرف بشكل احادي في قضايا شائكة ومصيرية، أم انها بحاجة لموافقة البرلمان للقيام بذلك.

المعلوم ان الكثير من المواطنين البريطانيين ممن صوتوا لصالح الخروج من الاتحاد الاوروبي قد ابدوا اسفهم على ذلك بعد ان وضحت لهم الصورة بشكل افضل بخصوص المشاكل التي قد تتعرض لها بريطانيا، منها انخفاض سعرالجنيه الاسترليني بشكل كبير، واحتمال مغادرة الكثير من الشركات والمؤسسات المالية الى المانيا وفرنسا، وزيادة المخاوف من انكماش الاقتصاد البريطاني. آخر استطلاع للرأي نشرت نتائجه بين ان اغلبية البريطانيين سيختارون البقاء ضمن الاتحاد الاوروبي لو تم إستفتائهم الآن، هذا ما اكده الاستطلاع الذي اجرته مؤسسة BMG أن 45% من الذين أستطلعت آراؤهم فضلوا البقاء، بينما فضل 43% الخروج، أما الـ 12% الباقية فلم يدلوا برأي.

الحكومة البريطانية سوف تستأنف قرار المحكمة العليا مطلع الشهر القادم، واذا رفض القضاء اعتراض الحكومة، سوف يتعين على رئيسة الوزراء ان تطلب موافقة البرلمان قبل تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة التي تنظم عملية الخروج. من الناحية القانونية والنظرية، يستطيع نواب البرلمان ان يصوتوا ضد تفعيل هذه المادة، لكنهم قد لا يفعلوا ذلك لأنهم لا يريدون ان يتجاهلوا نتيجة الاستفتاء الذي اسفر وقتها عن تأييد الأغلبية الخروج من الاتحاد الاوروبي، وإن كان الأغلبية في الوقت الحاضر يودون البقاء ضمن الاتحاد. هذا مجرد رأي شخصي قد يصيب او يخطئ. 

اعجبني تعليق احد البريطانيين حين قال: "بريطانيا لم تصوت لصالح إستعادة السيطرة على مقدراتها من اوروبا لكي تسلمها الى رئيسة وزراء لا تمثل إرادة الشعب بتفويض انتخابي بل بإجتهاد شخصي، والبرلمان هو المنبر الذي تحسم فيه التفاصيل المعقدة لعملية بريكسيت، ومن ينكرون على البريطانيين هذا الحق هم اعداء الشعب.

هذه دولة القانون والمؤسسات التي تمكن مواطنيها من مقاضاة حكومتهم وكسب القضايا ضدها. اتساءل: هل يستطيع اي مواطن عربي مقاضاة حكومته؟ في اكثر البلدان العربية لا يستطيع المواطن ان يرفع قضية ضد أبناء او اقرباء الحكام، لأن هؤلاء يتمتعون بحصانة تعلوا حتى على حصانة الدولة نفسها.

في احدى الدول الخليجية، يصدر ديوان الرقابة المالية تقاريره السنوية منذ حوالي 13 عاما، وفي كل عام يكون التقرير مليئ بالتجاوزات المالية المخالفة للقوانين والتي يرقى بعضها الى مستوى النهب والهدر المتعمد للمال العام وهما جرائم بحكم القانون، ولكن حتى يومنا هذا لم تتخذ الجهات المختصة اي اجراءات قانونية ضد اي من المسؤولين عن هذه التجاوزات. في كل سنة عندما يصدر التقرير، تثير الصحافة المحلية العواصف الهوجاء مطالبة بمحاسبة المسؤولين عن التجاوزات المالية، وبعد اسبوع واحد تهدأ العواصف وكأن شيئا لم يكن.