لم يمرّ عصر من العصور الفائتة الاّ وكان النزاع والصراع الفكري قائما بين الجديد وبين القديم ؛ هذان يدا الزمان المتخاصمتان ابداً، فالطرفان لا يعرفان الهدنة ولا استراحة المحارب، ومازال الصراع قويا محتدما بين الحداثة التي تريد ان تفرض نفسها علاجا ناجعا لكل الانكسارات والميل والعوَج واللخبطة الفكرية والهرج والمرج الطاغي بيننا وبين الإرث الحضاري والعراقة التي تريد هي أيضا ان تبقى رابضة في عقول الكثير من أهلينا ممن يصبو الى الماضي عشقا وهوسا به ؛ فهذا المفكر المادي الديالكتيكي يسميه صراعا طبقيا وآخر ينعته بانه صراع فكري عام يتجاوز الطبقية بين نظريات مختلفة ترى انها الأصحّ والأسلم بغض النظر عن تقادمها الزمني والمكاني ويمكننا بالضبط ان نسميه صراعاً نظرياً ( Conflict Theory ) قائماً الى ما لانهاية دون هدأة أو استرخاء لفترة محددة، بل ان هذا الصراع يتفاقم ويتعالى ولا يقف عند حدّ معين.

فالانسان مهما كانت ميزات عقله سواء قصيرة المدى او بعيدة الافق يبقى في نزاع دائم مع الاشياء التي لايهجسها نافعة في زمكان معين وقد تكون صلحت في عهد ما لكنها لم تستطع ان تواكب القفزات الهائلة والأشواط البعيدة التي برعت فيها اقدام الحداثة قفزا متواصلا، فهناك نظريات أصبحت كسيحة وعاجزة ان تتسلق قمم الحداثة مهما قيل عنها انها نظرية سامية وكان لها دورها الفعّال فيما مضى وانقضى.

قبل ايام حدثني صديق متقاعد كان يعمل ديبلوماسيا بارزاً في أثينا وقد اصيب هناك بمرض عضال اضطرّه ان يراجع طبيبا يونانيا اختصاصيا حاذقا بين الفينة والاخرى وقد بقي على تواصل معه وترسخت العلاقة بينهما الى حد الصداقة الحميمية وكان يزوره في بيته وعيادته متى يشاء دون ان يصيبه الحرج.

شاءت الصدف ان يمرض الطبيب الاغريقي الحاذق مرضا شديدا ألزمه ان يكون مُقعدا في بيته ولا يستطيع مواصلة عمله بعيادته فعزم على السفر الى اوروبا بعد ان أصيب باليأس من الشفاء في أثينا وعلى أمل ان يسافر الى المانيا لمواصلة علاجه في بلاد الجرمان وكان صاحبي الديبلوماسي دائم الزيارة لصديقه المحبّ الذي عالجه قبلا وخفف كثيرا من عبء سقمه، وفي حوار جرى بينهما خلال ضيافته بمسكنه ؛ رأيت فيه الكثير من العبر والدرس ؛ قال له الديبلوماسي متندراً:
" ما الذي يجعلك تعتزم السفر الى المانيا وانتم الاغريق اول من أرسى دعائم الطب في العالم القديم كلّه وعرف الوقاية وابتكر الادوية الشافية المعافية وانتم من أنجبتم ابا الطبّ " ابيقراط " الذي لازال اسمه تتداوله ألسن امهر الاطباء في العالم ولايتخرج الطبيب في كل جامعات ومعاهد الطب العريقة بهذا الكوكب الاّ واقسمَ قسم جدّكم " ابيقراط".

ضحك الطبيب اليوناني السقيم واردف قائلا :
" نعم هذا صحيح ولكن اين الحداثة والتحديث الطبي الخارق التي برعتْ فيه الدول المتقدمة مثل المانيا وغير المانيا وأنقذت الملايين من الاسقام البدنية والاجتماعية ومعظم نوازل الانسان وبلاياه في حين اننا بقينا نتعكز على وصايا ابيقراط دون ان نضيف اليها تجارب طبية وابتكارات حداثوية انتجتها مختبراتهم وكل يوم نسمع عقارا جديدا شافيا لحالة مرضية ما وأساليب انجع لممارسة عمليات جراحية لم نكن نألفها قبلا، ليس علينا ان نفخر بأطبائنا الاوَل بل علينا ان نضيف ونجدد ونواكب ونتطلع على احدث المبتكرات الخلاّقة ليس في الطب وحده انما في كل العلوم التجريبية والبحتة والعلوم الانسانية كي نرقى، فالتراث لم يعد يهمنا الاّ بالقدر الذي يشير الينا باعتبارنا أمة عريقة موغلة في القدم وهذا في تقديري لايكفي ".

كنت أصغي لمحدّثي وانا افكّر كيف اننا – عربا ومسلمين -- حمّلنا تراثنا ما لاطاقة له لهوان ظَهره وضعفه امام ثقال الازمات الحالية التي كمدت على صدورنا، ومادمنا في حديث الطب والعلاج والوقاية فما زال الكثير منّا من يلوذ بما يسمى بالطب النبوي وهو لايعدو كونه تطبيبا كاذبا مختلقا صنعه حواة ماهرون في الخديعة لابتزاز اموال الناس قصيري الفهم والمبتلين بالازمات النفسية والعقلية ونظرا لحاجتهم الى ايّ بلسم علاج حتى لو كان ايهاما وتضليلا، فصاحب الحاجة اعمى كما يقال في امثالنا السائرة بين الناس وترى المتحذلق المدّعي معرفته بالطب النبوي يتمسك بحديث مبثوث هنا وهناك من الرسول الكريم بشأن البطنة او اختيار الطعام وامور اخرى تتعلق بالصحة قالها الرسول يوما ما.

وتمادى البعض ممن يلعب بالثلاث ورقات تحايلا وادّعاءً وطمعا في الاسترزاق في تحميل القرآن الكريم اكثر مما يتحمل مثل حالة الاستشفاء بالقرآن التي ابتدعها الباحثون عن الرزق الوفير ممن يستغلون الدين وأدبياته وكتبه المقدسة مصدرا للرزق غير المبارك والضحك على ذقون الفقراء المعوزين من الجهلة وضيقي العقل من ذوي الحاجات المبتلين بالاسقام واستنزاف ما ادّخروا من شحيح المال من الدراهم البيض لأيامهم السود المقبلة ليستحصلها هؤلاء الاوغاد ممن يتاجرون بالعقائد ليملأوا جيوبهم من أتعاب الرعية المغلوب على أمرها فمثل هؤلاء يستخدمون الدين ولا يخدمونه ويلعبون بعقول المغفلين ألاعيبهم الماكرة خاصة وهم موقنون تماما اننا امة تكاد تكون كارهة للاصلاح وتأبى ان تنتقد نفسها ذاتيا وتبقى على حالها المتخلف المؤسف ردحا طويلا على العكس من بقية الامم التي اعترفت بجهلها وراجعت ذاتها بجرأة وحاولت الفكاك من أسار وقيود ثوابتها وزحزحة قناعاتها التي لم تعد تفيدها في هذا العالم المتسارع في اشواط النماء والتقدّم.

والغريب ان الميديا الاعلامية عندنا قد فتحت لهؤلاء المخادعين أبوابها على مصاريعها بدلا من ان ترفع سيفها وسوطها بوجوههم فصاروا يظهرون على شاشات القنوات التلفزيونية عيانا وبكل صلافة ليوصفوا للناس كيفية اتقاء الجنّ ومنع تسلله الى بدن الانسان بطرق الشعوذة المتكئة على العقيدة وطرائق اخرى لتحضير الأدعية والآيات القرآنية وقراءتها للمصاب بالعلل النفسانية والعقلية كالفصام وازدواج الشخصية والعته والجنون والخبل.

وامام شاشة التلفزيون تسمع النداءات التلفونية المبتزّة للاموال تنهال على مقدمي مثل هذه البرامج الرثّة طلبا للنصح والاستشفاء وانتظارا لروشتا مصطنعة كاذبة قد تحتويها الحبّة السوداء وعظمة من طائر الهدهد وايقاد شمعة بجانب قبر مع ترديد لنصوص مختارة من سورة كذا القرآنية ثلاث او اربع مرات ويختمها بدعاء الشفاء والتمنّي للمتّصل الخير والهناء وعاجل العافية.

ومن الصلافة ان هؤلاء المخادعين لايكتفون بمعالجة الموجوعين بل انهم نصّبوا أنفسهم مصلحين اجتماعيين بحيث يقدرون على تزويج الأرملة والثيّب ومن فاتها قطار الزواج ليُلحقها بآخر قاطرة زوجها الموهومة به وايضا إرجاع الزوج الى امرأته المطلقة حتى يصل الامر في قدرتهم على إنجاب العاقر لتحبل ذكرا تلو الذكر بدل البنات غير المرغوبات أصلا في اعداد عائلتنا الشرقية.

قبل بضع شهور رأيت مقابلة تلفزيونية مع مخرج عربي يعدّ كبيرا لخبراته الجمّة وتاريخه الفني الحافل بالابداع وكنّا نتلهف الى أعماله بفرح غامر خلال عقود مضت، هذا الفنان المتميز كان يمتلك قناة تلفزيونية يستضيف بها احد هؤلاء المتحذلقين الدجالين المدّعي معرفته بعالم الجان والطب النبوي والقرآني ؛ فمرةً يكون عرّافا وأخرى معالجا وأحيانا فتاح فأل وبصّارا عالما بالغيب وكما يقول أشقاؤنا المصريون ( بتاع كلّو ) وقد اعترف مخرجنا المتألق امام الملأ في حوار عبر التلفاز انه كان يغطي مصاريف وإيجار القناة مما يغدقه ذلك المشعوذ اذ كان يدفع له مابين 20—25 ألف دولار اميركي شهريا لقاء بثّ خزعبلاته ونفثات جهله وسموم كلامه الأخرق على الناس السذج المساكين ليزيد من جهلهم جهلا مضافا بدلا من أن يُفيقهم ويعمل على تنويرهم.

حتى الان توجد اكثر من خمس عشرة قناة تلفزيونية في اقمارنا الفضائية العربية تروّج للماورائيات والغيبيات والعلاجات الطبية الضارة العديمة الجدوى وكل ذلك من اجل الربح الوفير على حساب معاناة المعوزين وذوي الحاجات بالاتفاق مع شركات الاتصالات للاطاحة بفكر شعوبنا أكثر فأكثر نحو هوى الجهل السحيقة.

فما الضير ان تدار دفّة الميديا الاعلامية نحو تنوير المجتمع بالفكر النيّر والاستدلال لمناهج الصواب ومعرفة الطريق الاسلم وتوجيهها للمسار المعبّد بالعلم والتجريب ومن ثم تسفيه مثل هؤلاء تجار الدين ومستغلي هموم الاغلبية الموجوعة الجاهلة والعمل على فضحهم وابراز نواياهم القائمة على الجشع والاكتناز على حساب عذابات الناس واسقامهم الكثيرة وهذا هو دور الاعلام العضوي تماما مثل دور المثقف العضوي.

فما قيمة السطوة المالية والإثراء على حساب الغير اذا رفد الينا من معاناة وعذابات الاخرين بهذا الاستسهال وتلك الخديعة والتضليل ؟؟
لأقولها بملء فمي وانا المتعلّق المولع بانجازات التراث والبناء الفكري والحضاري على مرّ الازمان ؛ لاخير في عراقة تاريخٍ ان لم تفتح صدرها لإبداعات الحداثة وعقارها الشافي، فما نفع الإرث اذا كان مومياءً جامدا لايتحسس مايجري الان من طفرات تجديدية تُشعرنا بالسعادة وتقدّم خدماتها الى الانسان وتخفف من عبء الحياة وثقالها، وكم يكون البناء الفكري سامياً لو تزاوج الإرث اللامع البريق غير المصاب بصدأ التخلّف مع بهاء الجديد النافع وستكون الولادة خلقا باهرا كاملا غير خديج في نموّه ِ دون عسرة المخاض، وهذا هو الجيل الذي نريد.


جواد غلوم
[email protected]