برغم القناعة شبه الثابتة بأن الرئيس المنتخب دونالد ترامب صادق وجاد في عزمه، قلبا وقالبا، على تغيير قواعد اللَّعبِالأمريكي مع إيران، ومع قوى ودول أخرى في المنطقة والعالم. إلا أن هناك مخاوف محتملة من أنه قد يُضطر لتخفيف اندفاعه، وتبريد حرارة توعُّده لدول الخارج الغنية، خصوصا إيران، بسلوك أمريكي جديد سيرمي بجميع مواقف الرئيس (الخامل) أوباما وسياساته، خصوا ما يتعلق منها بإيران.

ومع الإقرار بأنه غير مدين بفوزه لعموم الجمهوريين، وبأنه ليس ملزما بتنفيذ جميع سياسة الحزب الجمهوريوقراراته وأهدافه، إلا أنه قد يُضطر إلى الانحناء لإرادةالحزب الذي تمكن من بسط سلطانه على الكونغرس بمجلسيه، وبالتالي على البيت الأبيض، شاء سيدُه أم أبى، فيتخلى، أو يعدل، أو يقلل، أو يُجمل بعض وعوده، وبعض وعود صقوره المتشددين الذين جمَّعهم حوله دون استشارة قيادات الحزب التقليدية، ودون أن يطلب منها إجازة.

وحصريا تجيء في مقدمة الملفات المعرضة للتعديل مسألة تشخيص إيران كدولة داعمة للإرهاب، ومارقة، ومتمردة على إرادة المجتمع الدولي فيما يتصل بتدخلاتها في شؤون دول المنطقة وزعزعة أمنها، وملف الصواريخ، وحقوق الإنسان، وضرورة أن تعمل إدارة الرئيس الأمريكي الجديد على لجمها وإجبارها على العودة إلى داخل حدودها، وعدم استخدام أموالها في تمويل المليشيات والتنظيمات المصنَّفة إرهابية، كحزب الدولة والقاعدة وغيرها.

وتتزايد هذه المخاوف حين يقوم المراقب المحايد بإجراء متابعة تاريخية عميقة متأنية لمجمل مواقف الجمهوريين في النصف الثاني من القرن الماضي، وحين يضع يده على حقيقة أنهم هم الذين استكملوا ونفذوا خطط الديمقراطيين الهادفة إلى إسقاط نظام صدام وتسليم الوطن العراقي لحكامه الحاليين، وتركهم في غيهم وفسادهم يعمهون.

وتعالوا نعُدْ قليلا إلى وراء، إلى عام الغزو 2003، ونتذكر حيرة الكثيرين من العراقيين والعرب والعجم في تفسير اللغز الشائك المتمثل في إصرار (الجمهوريين) بوش ورامسفيلد وبريمر ومعاونيهم ومستشاريهم، على تسليم العراق لمجموعات سياسية عراقية يعلمون، علم اليقين، بأنها مرتبطة بإيران، بل إن بعضها إيراني بالولادة، وبعضَها الآخر بالرضاعة، وهم الذين كانوا لا يكفون عن الشكوى المريرة من خطر إيران على أمن المنطقة واستقرارها، ومن رعايتها للإرهاب، واستمرارها في تمويل أحزاب وتجمعات ومليشيات مارقة مشاكسة، وتصديرها إلى دول عديدة لإثارة القلاقل، وزعزعة الأمن فيها، وخاصة في العراق ولبنان ودول الخليج وفلسطين، رغم كل قرارات الشرعية الدولية، وتحذيراتها، وإنذاراتها، وعقوباتها.

ويتذكر رفاقنا في المعارضة العراقية السابقة أن أمريكا (الجمهورييين)، حتى قبلَ غزو صدام للكويت بسنين، كانت تمد جسورا خفية تارة، ومعلنة تارة أخرى، مع تجمعات المعارضة العراقية الشيعية والكوردية، وهي تعرف أن قادتها، وأغلبَ أعضائها، مقيم في إيران، وبعضهم مُمولومجهَّز بالكامل من مخابراتها، أو مدعوم ومؤيَّد وملتزَم إلى أبعد الحدود.

بصراحة، إن أمريكا (الجمهوريين) لم تُخدع بأولئك القادة، ولا بارتباطاتهم وتوجهاتهم وأهدافهم، لا السرية ولا العلنية، منذ أن فرضتهم علينا في المعارضة السابقة، وأجازت لهممصادرة مؤتمرات المعارضة، وصياغة قراراتها، ودعوة من يحبون لحضورها، بالتفاهم مع جلال الإيراني الأمريكي، ومسعود التركي الأمريكي الإسرائيلي، ومع بعض العرب السنة (المقطوعين من شجرة)، أمثال الشريف علي بن الحسين، وحسن النقيب، وعدنان الباجه جي، ونصير الجادرجي، ومحسن عبد الحميد، ومحمود المشهداني،وطارق الهاشمي، والذين استبدلتهم بعد ذلك بالأخويْن أسامة وأثيل النجيفي، وصالح المطلق، والأخوين كربولي،وسليم الجبوري، ومشعان.

وحين دخلت قوات الاحتلال الأمريكي (الجمهوري) إلى العراق لم تتراجع لا وزارة الدفاع ولا الخارجية ولا السي آي أي ولا إدارة بريمر عن قرار اعتماد تلك الأحزاب وريثة شرعية ووحيدة لنظام صدام، بل منحتها الكلمة العليا في صياغة الدستور وقانون الانتخاب وتوزيع المناصب والمراكز والألقاب. وهي تعلم بما سوف يصيب المنطقة وأمنها واستقرارها عند اكتمال الهيمنة الإيرانية على العراق.

ثم تذرعت برغبة الفريق الإيراني وإصرار القياداتالكوردية فلبَّت على الفور طلبَهم إلغاءَ الجيش وأجهزة الأمن والشرطة ووزارت الإعلام والتربية والتخطيط والصحة والخارجية، ونسفت، معهم، دولة العراق بكامل جسدها وعقلها وقلبها، بحجة إعادة بنائها على أسس ديمقراطية متحضرة. 

وكان في إمكان القيادة المدنية والعسكرية الأمريكية (الجمهورية) أن تجعل المواطنة هي الأساس، وأن تستدعيالقوى الديمقراطية الوطنية العراقية غير الطائفية وغير العنصرية، وتُمكنها من تشكيل حكومة تكنوقراط مؤقتة نزيهة وقوية تفرض حكم القانون، وتحاسب الفاسدين، وتمنع انزلاق الوطن إلى الخراب الذي جاء فيما بعد على أيدي أكثر العراقيين تطرفا، طائفيا وقوميا، وأشدهم تخلفا وطمعا وانتهازية.

لكنها لم تفعل شيئا. بل أغمضت عينها، وسدت أذنها، وبلعت لسانها، وهي ترى، من الأيام الأولى للغزو، خصوصا في فترة سلطة جو غارنر قبل وصول بول بريمر، قادة الأحزاب الشيعية المُصنعة إيرانيا يستقبلون، علنا ودون مواربة، آلاف المسلحين القادمين من إيران، زاعمين أنهم أعضاء أحزابهم الذين كانوا مبعدين إلى إيران من قبل النظام السابق، وأغمضت عيونها كلها، وتركت لهم الساحة يلعبون بها كا يشاؤون.

ثم حين انتهت صلاحية مجلس الحكم سيء الصيت كانت إيران، برضا (الجمهوريين) وتبريكاتهم، قد تحولت إلى قوة فاعلة حقيقية في العراق، تُعز من تشاء وتُذل من تشاء، وتفرض أتباعها ومريديها وجواسيسها على الرئاسات والوزارات والسفارات ومجالس المحافظات والبلديات والمؤسسات العسكرية والأمنية والمالية، وحتى محطات بيع الوقود، علنا وعلى رؤوس الأشهاد.

إن من يعرف دواخل الأمور في واشنطن لا يقاوم فكرة المؤامرة. فالديمقراطيون والجمهوريون، معا، وبالتساوي، تُسعدهم أدخنةُ الحرائق المشتعلة في كل مكان من هذه المنطقة المشؤومة، وتُسعد حلفاءهم الوحيدين في المنطقة، الإسرائيليين، دون ريب.

وزحلقة السعودية، ومعها دول الخليج، في اليمن، وجرجرةتركيا إلى مغاطس العراق وسوريا وإعادة تشغيل وجَعها الكوردي التركي، وترويع مصر في سيناء، وتدويخها بليبيا، وإغراق إيران في سوريا والعراق واليمن ولبنان وفلسطين والبحرين، أوراقٌ رابحة للديمقراطيين وللجمهوريين، معا. 

فكل استنزاف بشري ومالي وسياسي وأمني لشعوب الإقليم، وكل تشبيك الحابل بالنابل في المنطقة، تدويرٌ وإنعاشٌ للمصانع الأمريكية والأروربية، وراحة كاملة لشعب الله المختار. 

والأهم الآن، وعلى ضوء ما تقدم، هو السؤال الكبير الوحيد الذي يشغل بال كل عربي وإيراني، سواء كان من الملائكة أو الشياطين، مَن سيكسر يد مَن، ترامب أم حزبُه، أم تعود حليمة إلى عوائدها القديمة، في دوائر صنع القرار الأمريكي، لا كاسر ولا مكسور، لا غالب ولا مغلوب؟ و(يا خبر اليوم بفلوس غدا ببلاش).