ما الذي ينفخ النار ويبث الحياة في المعادلات الرياضية ويزودها بعالم أو بـ "كون" يتطلب الوصف والتوضيح؟ هذا ما تساءل به عالم الفيزياء النظرية البريطاني الشهير ستيفن هاوكينغ أشهر وأكبر خبير عالمي بموضوع الثقوب السوداء إلى جانب العالم ليونارد سوسكين الذي شن عليه حرباً قبل سنوات عرفت بحرب الثقوب السوداء بين العالمين ويعلق سوسكين بالقول: أننا جميعاً علماء كلاسيكيين لكننا نشعر في أعماقنا بالقوى والقوانين والسرعة والتسارع التي تسير الكون. ومن المعروف إن الثقوب السوداء هي أحد أغرب وأعقد الأشياء التي توجد في الكون المرئي وأشدها غموضاً، ولقد كرس العالم الفذ ستيفن هاوكينغ حياته العلمية لسبر أغوارها وكشف أسرارها ومعرفة كل شيء عنها على مدار عقود طويلة، وفي الآونة الأخيرة ألقى محاضرتين علميتين لعموم الجمهور عن هذا الموضوع سأحاول أن ألخص فحواهما كما فهمتهما واستوعبتهما لما فيهما من عمق وفائدة علمية جوهرية وبلغة سهلة ومبسطة يمكن لمختلف القراء من كافة المستويات فهمها واستيعابها . 

كثيراً ما يقال أن الواقع يتجاوز أحياناً الخيال، وهذا هو واقع الحال فيما يتعلق بالثقوب السوداء. فغرابتها تتجاوز كل ما تفتقت عنه مخيلة كتاب الخيال العلمي، وهي في نفس الوقت وبلا أدنى شك، حقيقة علمية لا تقبل الشك أو الجدل كما كان الحال قبل بضعة عقود. احتاجت الأوساط العلمية لسنوات عديدة، وأمضى الباحثون وقتاً طويلاً قبل أن يفهموا بأن النجوم الفائقة الكتلة يمكن أن تنهار على نفسها بفعل ثقالتها أو جاذبيتها الهائلة. وتأخر الباحثون كثيراً قبل أن يدرسوا سلوك تلك الأجرام السماوية المهولة الناجمة عن حالات الانهيار الثقالي المشار إليها أعلاه. 

في عام 1939، كتب البرت آينشتين مقالاً أكد فيه انه لايمكن للنجوم الفائقة الكتلة أن تنهار على نفسها بفعل جاذبيتها، فلا يمكن للمادة أن تضغط إلى أبعد من حد معين أو إلى درجة ما محدودة. ولقد شاطر عدد من العلماء آنذاك وجهة نظر آينشتين فيما عدا العالم الأمريكي جون ويلير John Wheeler، بطل قصة الثقوب السوداء على أكثر من مستوى. كانت أبحاثه لسنوات 1950 و 1960 تركز على حقيقة أن عدداً من النجوم سوف ينتهي بها المآل إلى أن تنهار على نفسها، وأشار في نفس الوقت إلى الصعوبات التي تطرحها هذه الإمكانية على الفيزياء النظرية، كما توقع جون ويلير كذلك عدداً من الخصائص للأجسام المتولدة من جراء عمليات الانهيار والتي عرفت فيما بعد باسم الثقوب السوداء.

إذا كان تعبير الثقوب السوداء يبدو يسيرا إلا أنه لم يكن من السهل تصور أحدها على نحو ملموس في الفضاء. يمكننا تخيل سيفون siphon عملاق يدور فيه الماء كدوران الإعصار قبل أن يبتلعه ، بمجرد أن يتم تجاوز الحد الخارجي الذي سمي بــ" أفق الحدث horizon des événements"، وبعد العبور لن يكون من الممكن الرجوع أو العودة أو الخروج. فالثقوب السوداء من القوة بمكان بحيث يمكنها أن توقع في الفخ piègent كل الأشياء بما فيها الضوء ولهذا السبب لا يمكننا رؤيتها. بيد أن العلماء باتوا مقتنعين بوجودها علمياً لأنها تؤثر على النجوم القريبة منها وتهز الفضاء المحيط بها . إن تصادم ثقبين أسودين قبل مليار سنة كان السبب وراء ما نسميه اليوم بــ " الموجات الثقالية أو موجات الجاذبية ondes gravitationnelles"، التي تم كشفها ورصدها عملياً مؤخراً والتي كان لها صدى مذهل في الأوساط العلمية.

فالنجم العادي، ولمدة تصل إلى عدة مليارات من السنين، يمكن أن يعوض جاذبيته بالضغط الحراري الداخلي pression thermique interne، المتولد من جراء التفاعلات النووية التي تحول الهيدروجين إلى هليوم. ولقد قارنت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا النجوم بقدر الضغط حيث إن القوة التفجيرية للاندماج النووي الداخلي fusion nucléaire interne يولد ضغطاً باتجاه الخارج وهو ضغط تحتويه الثقالة التي تمارس ضغطاً معاكساً له.

وفي نهاية المطاف يستهلك النجم وقوده النووي ويبدأ بالتقلص والانكماش se contracter. وفي بعض الحالات يبقى على قيد الحياة على شكل قزم ابيض naine blanche. ولقد اثبت العالم الهندي سوبراهامانيان شاندراسيكارSubrahmanyan Chandrasekhar، سنة 1930، أن الكتلة القصوى للقزم الأبيض لايمكن أن تتعدى الـ 1.4 من كتلة الشمس. بينما حسب العالم السوفيتي ليف لاندو Lev Landau حدود الكتلة المشابهة للنجوم المكونة كلياً من النيتورونات neutrons. تجدر الإشارة إلى أن الأقزام البيضاء والنجوم النيوترونية هي شموس أحرقت كل وقودها ولم تعد لديها أية قوة داخلية تدعمها، فلا شيء يمنع الجذب الثقالي من أن يضغطها إلى أن تغدو أجساماً من بين الأكثر كثافة في الكون المرئي. ولكن من بين تصنيفات النجوم فإن الأقزام البيضاء والنجوم النيوترونية هي الأكثر خفة، فقوتها الثقالية ليست كافية وليست مهمة لدرجة أنها تؤدي إلى انهيارها كلياً، وهذا لا ينطبق على النجوم فائقة الكتلة عندما تصل إلى نهاية حياتها.

فما هو مصير العدد الكبير من النجوم التي تتجاوز كتلها بكثير كتل الأقزام البيضاء والنجوم النيوترونية، عند استهلاك كامل وقودها النووي؟ اهتم العالم روبير أوبنهايمر Robert Oppenheimer بهذا الموضوع قبل أن يكرس جل وقته وطاقته لصناعة القنبلة النووية الأولى ويصبح مشهوراً بها. وبرفقة جورج فولكوف George Volkoff و هارتلاند سنيدر Hartland Snyder، أثبت في مقالين علميين نشرهما عام 1939، أنه ليس بوسع نجم أن يبقى حياً فقط بفضل ضغطه الداخلي، وإذا استبعدنا ضغط الحسابات، فإن نجماً منتظماً uniforme، كروياً sphérique متماثلاً من كافة جوانبه symétrique سوف يتقلص وينكمش إلى حد نقطة ذات كثافة لا نهائية يمكننا تسميتها بالفرادة singularité . ما يعني أن نجماً عملاقاً هائل الكتلة ينضغط إلى نقطة لا يمكن تخيلها من الصغر ، مما سيقودنا حتماً إلى هذه الفرادة، وهو مفهوم مهم شغل اهتمام ستيفن هاوكينغ ، فهو ليس فقط يقودنا إلى نهاية النجم فحسب، بل وأيضاً إلى فكرة جوهرية تتعلق بنقطة البدء أو الانطلاق لتكوين الكون المرئي برمته. فالأبحاث الرياضياتية لستيفن هاوكينغ حول هذه النقطة ضمنت له الاعتراف العالمي والشهرة. فكل نظرياتنا الفيزيائية عن الفضاء والمكان أو بالأصح الزمكان l'espace-temps الآينشتيني، تستند على المسلمة التي تقول أن الزمكان ناعم أو أملس l'espace-temps ومسطح تقريباً presque plat ، وإن هذه المسلمة تفقد معناها بوجود الفرادة لأن انحناءة الزمكان عندها ستكون لا نهائية. فالفرادة تؤشر نهاية الزمن نفسه، لذلك وجد آينشتين صعوبة في تقبل ذلك. فعند فرادة الثقب الأسود لن يعد هناك زمن، لا ماضي ولا مستقبل ، بل ولا حاضر ، إنما هو زمن متوقف عن السريان والحركة والمضي والتعاقب.

تنص النسبية العامة لآينشتين على أن الأشياء ذات الكتلة في الكون المرئي تشوه distordent الزمكان وتبعجه من حولها مثلما لو تخيلنا كرة لعبة البولينغ على شبكة القفاز الترامبولين trampoline التي تعدل وتشوه شكل الشبكة وتجعل الأشياء أو الجسام الأصغر تدور متجهة نحوها، وبهذا المثال يمكننا أن نشرح ونوضح تأثير الجاذبية. ولكن عندما يصبح تحدب أو إنحناء الزمكان أكثر فأكثر حدة، إلى حد اللانهاية، فإن القواعد العادية للمكان والزمان تتوقف عن الصلاحية والتطبيق، أي لم تعد صالحة. 

عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية وجه معظم العلماء جل اهتمامهم وأبحاثهم نحو الفيزياء النووية بمن فيهم روبرت أبونهايمر ورميت مسألة الإنهيار الثقالي إلى سلة النسيان، إلا أن اكتشاف الأجرام البعيدة الناصعة والمتلألئة أو اللامعة التي سميت بالكوازارات، أعادت هذه المسألة إلى واجهة الاهتمام العلمي بها. فالكوازارات هي الأجرام الأكثر نصوعاً ولمعاناً في الكون المرئي رغم بعدها، حيث تعتبر هي الأبعد التي تم رصدها لحد الآن. وتسميتها جاءت من كونها " تقريباً نجمية أو شبه نجمية quasi-stellaire " أو مصادر الإشعاع الفلكية شبه النجمية sources de rayonnement astronomique quasi-stellaire وتوصف بأنها أقراص مادية والتي تدور كالدوامة tourbillonnent حول الثقوب السوداء.

كان أول كوازار تم أكتشافه سنة 1963 هو 3C273وتوالت من بعد ذلك اكتشافات متتالية لعدد كبير من الكوازارات البعيدة جداً جداً عن الأرض، ويجب أن تكون غاية في اللمعان لكي تكون مرئية عبر هذه المسافات البعيدة. لن تكون التفاعلات النووية وحدها كافية لتفسير إنتاج هذه الكمية من الطاقة لأن الكوازارات لا تحرر إلا جزءاً يسيراً من كتلتها في وضع الاستراحة على شكل طاقة محضة. والتفسير الوحيد الممكن هو الطاقة الثقالية أو طاقة الجاذبية énergie gravitationnelle المحررة من جراء إنهيار الجاذبية أو الإنهيار الثقالي l'effondrement gravitationnelles. ولذلك عاد موضوع الانهيار الثقالي إلى صدارة الاهتمام العلمي وتصدر واجهة الأبحاث وبات مفهوم ستيفن هاوكينغ عن تقلص وانكماش نجم عادي منتظم وكروي إلى حد نقطة الكثافة اللانهائية، أي الفرادة، أمراً بديهياً لدى العلماء. والحال أن معادلات آينشتين تفقد صلاحياتها إزاء مثل هذه الفرادة، ما يعني أنه عند نقطة محددة لكثافة لا نهائية une infini densité يصبح من المستحيل توقع ما سيحدث أو التنبوء بالمستقبل ، مما ينطوي على أن شيئاً غريباً سوف ينتج عن ذلك في كل مرة ينهار فيها النجم. وسوف نمس مباشرة ونتأثر بهذا العجز عن توقع المستقبل إذا كانت الفرادات عارية les singularité nues أو بعبارة أخرى إذا كانت مخفية عن أنظارنا ورؤيتنا . والمراد بالفرادة العارية هنا هو سيناريو نظري ينهار فيه النجم على نفسه دون أن يتكون حوله أفق الحدث ما يجعل الفرادة مرئية . 

أدخل جون ويلير تسمية " الثقوب السوداء" سنة 1967، وكان العلماء يتحدثون قبل ذلك التاريخ عن نجوم هلامية étoile gelée ، أو النجوم المغطاة astres occlus، والصيغة التي اختارها جون ويلير تؤشر على إن بقية النجوم المنهارة على نفسها هي مواضيع دراسة مكرسة لها كلياً بمعزل عن طريقة تشكلها. وكانت التسمية موفقة وحازت على النجاح والانتشار وهي توحي بشيء معتم وغامض. إن تعبير الثقب الأسود trou noir له دلالة جنسية في اللغة الفرنسية لذلك لم يحبذه الفرنسيون في البداية لأنهم اعتبروه تعبيراً فاحشاً obscène فهو يوحي بالعضو التناسلي للمرأة ، ومع مرور الوقت أذعن الفرنسيون وصاروا يستخدموه بمعناه العلمي البحت. فليس بوسع أحد أن يقاوم سحر هذه التسمية، فمن الخارج يغدو من المستحيل معرفة ما في الداخل للثقب الأسود ويمكن أن نرمي بأي شيء في داخله والمعلومة الوحيدة التي سنجنيها هي كتلته sa masse، و زخمه الزاوي son moment cinétique ، وشحنته الكهربائية sa charge électrique . ولقد اشتهر جون ويلير بتعليقه الساخر المناكف تعقيباً على تردد الفرنسيين حين قال :" إن الثقب الأسود أملس يفتقد للشعر أو لا يوجد لديه شعر un trou noir n'a pas de poils، مما زاد من شكوك الفرنسيين وامتعاضهم.

للثقب الأسود حدود سميت بأفق الحدث. وفي هذه المنطقة تصبح الجاذبية أو الثقالة من القوة بمكان بحيث أنها تحرف وتحول أو تسجن الإشعاعات الضوئية ولا تسمح لها بالخروج من الثقب الأسود. وبما أنه لا يوجد شيء يسير بأسرع من الضوء، فإذا كان الضوء نفسه لا يستطيع الإفلات من الثقب الأسود فما بالك بباقي الأشياء الأخرى. فعبور أفق الحدث يشبه التجديف في قارب صغير فوق شلالات نياغارا، فمهما حاولت المقاومة فأنت خاسر في النهاية، فلا توجد هناك عودة ممكنة فالتيار يزداد كلما اقتربت من منطقة السقوط الحادة ويمكن أن يتحطم ويتمزق القارب جراء قوة الضغط. نفس الشيء يحدث في أفق الحدث للثقب الأسود فعند سقوط المرء في ثقب أسود فإن أول من سيدخل إليه هو الرأس وإن قوة الجاذبية أو الثقالة ستكون أكثر قوة وكثافة في منطقة الرأس مما هي في أسفل الجسم بمستوى الأقدام لأن الرأس هو الأقرب للثقب السود، عند ذلك سيحدث هناك شد وتمدد étiréللجسم بالمستوى الطولي ويسحق أفقياً. ولو كانت كتلة الثقب الأسود تعادل كتل النجوم فسوف يمزق الجسم ويتحول إلى سباغيتي أو معكرونة طولية حتى قبل أن يبلغ أفق الحدث . وبالمقابل لو سقط الجسم في ثقب أسود أكبر بكثير من ذلك ، مليون مرة أكبر من كتلة الشمس، فسوف يبلغ الجسم الساقط أفق الحدث بلا صعوبة. ولو كانت نية الشخص الساقط في فوهة الثقب الأسود تقصي ما في داخله واستكشافه فينبغي والحال هذه اختيار ثقب أسود أكبر بأربعة ملايين مرة من كتلة الشمس، ومثل هذا الثقب موجود في مركز مجرتنا درب التبانة la voie lactée . ويعتقد العلماء أن في قلب أو مركز كل مجرة ثقباً اسوداً هائل الكتلة والحجم . وحتى لو لم يلاحظ الشخص الداخل للثقب الأسود العملاق شيئاً ملفتاً للانتباه بعد تجاوزه نقطة اللاعودة، فإن مراقباً من خارج الثقب الأسود لن يرى الجسم وهو يلج إلى داخل الثقب الأسود أبداً فسوف يتكون لديه شعور أو انطباع بأن الجسم الساقط يبطيء الحركة قبل أن يبدو في حالة الطفو والسباحة إلى ما لانهاية والصورة تغير سحنتها وألوانها قبل أن تختفي عند ذلك يعتبر العالم الخارجي خارج الثقب الأسود أن الجسم ضاع واختفى إلى الأبد بالنسبة للعالم الخارجي . 

بما أن الضوء لا يمكنه أن يفلت من عمق الثقب الأسود فلا يمكن لأي شاهد أن يتابع سقوط الجسم داخل الثقب الأسود ولكن من خارجه مهما كانت وسائل الرصد التي لديه متقدمة ومتطورة، ففي الفضاء لا أحد يستطيع أن يسمع صرخة أحد وفي الثقب الأسود لا يستطيع أحد متابعة سقوط شخص داخل الثقب واختفائه. 

في سنة 1970 ساعد اكتشاف رياضي تقدم الفهم والاستيعاب، على نحو مدهش، لهذه الظواهر الغريبة في الكون المرئي التي عرفت بالثقوب السوداء. فسطح أفق الحدث ومنطقة الحدود من حول الثقب الأسود تمتلك الخاصية التالية:" فمساحته تزداد كلما سقطت في داخله مواد أو إشعاعات" . وقد أوحت هذه الميزة أو الخاصية بوجود تشابه بين المساحة وأفق الحدث للثقب الأسود وفيزياء نيوتن الكلاسيكية، وعلى نحو خاص مبدأ الأنثروبي للترموديناميك أو للديناميكا الحرارية principe d'entropie de la thermodinamique، حيث يؤخذ الأنثروبي باعتباره مقياساً لدرجة الفوضى في نظام ما أو افتقاد المعرفة بشأن حالته الدقيقة. فالمبدأ الثاني للديناميكا الحرارية يقول بأن النثروبي يزداد مع مرور الوقت ، وإن اكتشاف عام 1970 الرياضي كان بمثابة الخطوة الأولى لإقامة الصلة أو الرابطة الجوهرية الحاسمة crucial.

إن زيادة الأنثروبي تعني فقدان الأشياء المنتظمة لنظامها مع مرور الزمن كالطابوق المرتب بانتظام لبناء جدار على نحو صارم ومنتظم فلو أهمل مع مرور الوقت سيتحول إلى كومة من الركام والأحجار المتراكمة على نحو عشوائي وكلما مر الزمن أكثر كلما ازدادت حالته إلى أن يتحول إلى غبار وهذا يسمى الأنثروبي القوي وهذه الصيرورة هي التي تصف المبدأ الثاني للثرموندياميك. 

فحتى لو بدت العلاقة القائمة بين الأنثروبي ومنطقة أفق الحدث بديهية l'aire de l'horizon des événments، فإننا لا نزال نجهل أو لا نفهم كيف يمكن تشخيص هذه المنطقة في أنثوربي الثقب الأسود نفسه، وعلينا أن نتساءل ماذا نعني بأنثروبيا الثقب الأسود؟ في سنة 1972 كان هناك طالب يدعى جاكوب بكنشتين Jacob Bekenstein، في جامعة برينستون الأمريكية، وأصبح فيما بعد عالماً لامعاً في جامعة القدس، وقدم هذا الطالب آنذاك مقترحاً صار له شأن كبير ومؤثر فيما بعد يقول: عندما يتشكل ثقب أسود إثر إنهيار ثقالي لنجم ما، فإنه يتموقع على الفور في حالة مستقرة état stationnaire، تتسم بثلاث معالم ، كتلته وزخمه الزاوي الذي يقيس دورانه وشحنته الكهربائية. وفيما عدا هذه الخصائص الثلاثة، لا يحتفظ الثقب الأسود بأية خصائص أخرى من الجسم أو الجرم السماوي المنهار على نفسه. 

وكان لهذه الفرضية آثار implications على مستوى المعلومة، بالمعنى الذي يضفيه العالم الفيزيائي للكلمة : كل الجسيمات و كل القوى في الكون المرئي تحمل في ذاتها جواباً ضمنياً للسؤال المزدوج نعم/ لا . المقصود بالمعلومة في هذا الصدد تمثل كل المعلومات التي تصف كل جسيم وكل قوة وكل قانون له ارتباط بالجسم أو النجم ، قبل وبعد انهياره. فكلما كان الشيء غير منظم، كلما كان الأنثروبي مرتفعاً، كلما احتجنا للمعلومات اللازمة لوصفه . تنطوي هذه الفرضية أو النظرية théorème على خسارة أو ضياع كمية كبيرة من المعلومات أثناء الإنهيار الثقالي. فالحالة النهائية للثقب الأسود لا تعتمد على مزايا وخصائص الجسم المنهار على نفسه: فحقيقة أن هذا الأخير مكون من مادة أو من مادة مضادة matière ou antimatière، أو سواء أكان كروياً أو ذو شكل غير منتظم irrégulière، فلا أهمية لذلك على الإطلاق. بعبارة أخرى، إن ثقباً أسود ذو كتلة معينة وزاوية زخم معينة وشحنة كهربائية معلومة، يمكن أن ينتج عن عدد كبير من التركيبات أو التكوينات configurations للمادة ، خاصة للنجوم من النموذج المتنوع جداً. فلو تجاهلنا وأهملنا التأثيرات الكمومية أو الكوانتية، فإن عدد التكوينات الكامنة يغدو لا نهائياً: فيمكن لثقب أسود أن ينجم عن إنهيار سحابة كونية ذات عدد كبير جداً لايحصى من الجسيمات وبكتلة متناهية في الصغر. ولكن هل حقاً إن عدد التركيبات الممكنة لا نهائي؟ هنا يدخل في الحسبان التأثيرات الكمومية أو الكوانتية les effets quantiques. إن مبدأ الريبة أو اللايقين أو عدم الدقة principe d’incertitude للميكانيك الكمومي أو الكوانتي يقتضي ضمناً، ويفترض أن الجسيمات التي لها طول موجة أصغر من طول موجة الثقب الأسود ذاته، هي فقط التي بإمكانها أن تشكل أو تخلق ثقباً أسود. وهذا يعني أن نطاق أطوال الموجة الكامنة محدود و لا يمكنه أن يكون لا نهائياً. تجدر الإشارة إلى أن مبدأ عدم اليقين قد صاغه العالم الفيزيائي الألماني ورنير هيزنبيرغ Werner Heisenberg سنة 1920 ويؤكد استحالة معرفة أو توقع مكان وسرعة جسيم أولي على وجه الدقة في نفس الوقت. فعلى المستوى الكمومي أو الكوانتي، فإن اللايقين وعدم الدقة موجود في الطبيعة بعيداً عن الكون بمستواه اللامتناهي في الكبر كما وصفه إسحق نيوتن بقوانينه.

وهكذا يبدو أن عدد التركيبات التي تؤدي إلى خلق أو ولادة ثقب أسود ذو كتلة معينة وزخم زاوي معطى وشحنة كهربائية معلومة، وإن كان كبيراً جداً، إلا أنه محدود و ليس لا نهائي. وبالتالي فكر جاكوب بيكنشتين أننا، وانطلاقاً من هذا العدد المحدود، يمكننا أن إنشاء أنثروبيا الثقب الأسود، باعتباره القياس الكمومي للمعلومة الضائعة إبان عملية الانهيار المولدة للثقب الأسود.

كان مقترح بيكنشتين يتحلى، ظاهرياً، بخطأ فادح défaut fatal : فإذا كان للثقب الأسود أنثروبيا تتناسب مع منطقة أفق الحدث، فيتعين عليه كذلك أن يتمتع بدرجة حرارة متناسبة هي الأخرى مع الجاذبية أو الثقالة الممارسة على سطحه. وهذا يعني أن يكون الثقب الأسود في حالة توازن، من وجهة نظر الإشعاع الحراري rayonnement thermique، أي لدرجة حرارة أخرى غير الصفر. فحسب المفاهيم المتعارف عليها والمألوفة، فإن مثل هذا التوازن أمر مستحيل، لأن الثقب السود يمتص كل الإشعاع الحراري الذي يعبر أفق الحدث، ولكنه بحسب طبيعته غير قادر على بث أي شيء بالاتجاه المعاكس، حيث أن الثقب الأسود لا يبث شيئاً و لا حتى الحرارة. وعندما نقول بفقدان المعلومة، وهو كما يبدو حال الثقب الأسود، فهذا يعني وجوب انبعاث طاقة، بيد أن ذلك يناقض النظرية التي تقول لا يمكن لأي شيء أن يفلت من الثقب الأسود. من هنا تنشأ المفارقة حيث يبدو منها أن الثقوب السوداء تتحدى المبدأ الجوهري القائل بقدرة الكون المرئي على التنبوء prédictibilité ووثوق أو يقينية التاريخ certitude de l'histoire، وتساؤلنا عما يمكن أن يحدث للمرء في حالة ابتلاعه من قبل ثقب أسود. كان من الصعب مناقضة موقف آينشتين ورفضه لإمكانية حدوث إنهيار ثقالي لكن ثبوت حقيقة وجود الثقوب السوداء قاد الوسط العلمي إلى نوع من تصادم النظريات التي تبدو عديمة التصالح فيما بينها فيما يتعلق بطبيعة وعمل هذه الكائنات الغريبة المسماة الثقوب السوداء.

 

 

الثقوب السوداء حقيقة فيزيائية أم وهم افتراضي ؟ - 2 -

 

د. جواد بشارة

[email protected]

 

الثقوب السوداء، هل هي حقاً سوداء؟ خاصة إذا ما تمعنا في ماهيتها وطبيعتها وما نعرفه عنها نظرياً على الأقل لحد الآن، كونها غاية في الكثافة وناجمة عن انهيار النجوم الفائقة على نفسها بفعل ثقالتها الكبيرة جداً؟. تؤكد إحدى النظريات السائدة في الوسط العلمي الفيزيائي اليوم ، بأن الثقوب السوداء ذات الخصائص المتشابهة يمكن أن يكون أصلها يعود لعدد لا متناهي من النجوم المختلفة، بينما تقول نظرية أخرى أن عدد هذه النجوم محدود ، وبالتالي تبدو المسألة وكأنها محض معلومة، مرتبطة بفكرة تقول أن كل جسيم وكل قوة في الكون المرئي، تتضمن إجابة كامنة في طياتها للسؤال المزدوج أو القضية الثنائية التي لاتحتمل أي رد إلا بنعم أو لا. ونظل نراوح في مكاننا حيث لايمكننا، من خارج الثقب الأسود معرفة ما بداخله عدا ما نعرفه عن كتلته وزخمه الزاوي وشحنته الكهربائية. ومع ذلك يعتقد العلماء وعلى رأسهم ستيفن هاوكينغ أن الثقب الأسود يحتوي على معلومات هائلة لكنها تبقى خفية عن العالم الخارجي. فإذا كانت المعلومات الخفية تعتمد على حجم الثقب الأسود، حسب المباديء العامة المتداولة عنه، حينئذ يتعين على هذا الثقب الأسود أن يمتلك درجة حرارة ويتوهج مثل المعدن المسخن. لكن هذا مستحيل لأنه لا شيء يمكنه أن يفلت من الثقب الأسود أو يخرج منه كما كان معروفاً لأمد طويل، وهذا ما كان يعتقد به العلماء . استمرت هذه المفارقة لغاية بداية عام 1974، وهي السنة التي تجرأ فيها ستيفن هاوكينغ على مخالفة مسلمة آينشتين وموقفه المنشور وتساءل كيف تتصرف المادة المجاورة للثقب الأسود ولكن وفق معطيات الميكانيك الكمومي أو الكوانتي؟ من المعروف أن الثقوب السوداء تقع في نطاق اللامتناهي في الكبر بينما يتعاطى الميكانيك الكمومي أو الكوانتي مع اللامتناهي في الصغر، ويهتم بمعرفة وشرح وتفسير سلوك الجسيمات الأولية الأصغر في الكون المرئي، أي مادون الذرية. وهي لاتؤثر على الأجسام ما فوق الذرية كالكواكب والنجوم، حسب قوانين سبق أن صاغها إسحق نيوتن . فاللجوء إلى علم اللامتناهي في الصغر لدراسة الأجسام الكبيرة جداً ، ومنها الثقوب السوداء، كان هو إحدى مساهمات هذا العالم الفذ وكان هو الرائد في هذا المجال. فلقد اكتشف وهو مندهش أن الثقوب السوداء تبعث جسيمات عندما تبلغ حالتها المستقرة état stationnaire. متخطياً المسلمة المقبولة من قبل الجميع بشأن استحالة أن يبث الثقب الأسود إلى خارجه أي شيء. وقد توصل إلى ذلك بعد تجارب مضنية ومتكررة قادته إلى أن يتقبل الموقف المعاكس للبديهية المتعلقة بعدم إمكانية خروج شيء من عمق الثقب الأسود. واتضح له أن ما توصل إليه هو صيرورة فيزيائية واقعية وحقيقية وليست افتراضية أو نظرية وإن أطوال الموجة للجسيمات المنبعثة من الثقب الأسود تتناسب بالضبط مع الطيف الحراري spectre thermique. فحساباته الدقيقة قادته إلى أن يتنبأ بأن الثقب الأسود يخلق ويبث أو يبعث جسيمات وإشعاعات كأيء جسم اسود عادي مسخن، مع درجة حرارة تتناسب مع جاذبية أو ثقالة سطحه وبالعكس تناسبياً مع كتلته. كانت هذه الحسابات الرياضية هي الأولى من نوعها التي أظهرت أن الثقب ليس بالضرورة طريق باتجاه واحدة لا عودة منه يقود إلى ردب أو طريق مسدودة cul-de-sac. ولقد حملت تلك الإشعاعات إسم مكتشفها وسميت بإشعاعات ستيفن هاوكينغ الخارجة من الثقب الأسود والتي لايراها أو يرصدها أحد بسهولة. وبعد ذلك تم التوصل للدليل الرياضي بشأن انبعاث الإشعاعات الحرارية من الثقوب السوداء من قبل عدد من الباحثين وبمقاربات مختلفة ومتنوعة. إحدى تلك المقاربات تفسر تلك الإشعاعات حسب قوانين ومعادلات الميكانيك الكمومي أو الكوانتي، فمجمل الفضاء مليء بأزواج الجسيمات والجسيمات المضادة الافتراضية ، التي تتجسد مادياً باستمرار على هيئة أزواج تفترق عن بعضها البعض وتتجمع قبل أن تفني بعضها البعض.

يستند هذا المفهوم على مقولة أن الفضاء الفارغ هو في الحقيقة ليس فارغاً تماماً. فحسب مبدأ اللادقة أو عدم اليقين في الميكانيك الكمومي أو الكوانتي، يمكن دائماً لجسيمات أن تظهر حتى ولو لفترة قصيرة من الزمن لا تتجاوز جزء من مليار المليار من ثانية فهي دوماً أزواج من الجسيمات الأولية ذات الخصائص المتناقضة والمتعارضة التي تظهر ثم تختفي. لذلك أطلق عليها تسمية الجسيمات الافتراضية particules virtuelles، فهي على النقيض من الجسيمات الواقعية ، لا يمكن رصدها على نحو مباشر من قبل جهاز رصد للجسيمات. ولكن يمكن قياس وحساب تأثيراتها غير المباشرة، وبالتالي تم تأكيد وجودها من خلال هذا الفارق البسيط أو التحول الصغير petit décalageالمعروف باسم تحول لامب décalage de Lamb، الذي تسببه تلك التحولات على مستوى طاقة الطيف الضوئي énergie de spectre lumineux، الذي تبعثه ذرات الهيدروجين المتواجدة. وفي جوار الثقب السود، يمكن لأحد أعضاء الأزواج الجسيمية الافتراضية أن يسقط في الثقب الأسود، تاركاً العضو الآخر للزوج محروماً من شريكه الضروري له لكي تتم عملية الفناء الذاتي. فالجسيم أو الجسيم المضاد المهجور يمكنه أن يقفز إلى داخل الثقب الأسود بحثاً عن شريكه أو نصفه الآخر، أو أن يهرب بعيداً نحو اللانهاية لكنه يبدو وكأنه صادر عن الثقب الأسود. والحال أن تشكل واختفاء هذه الجسيمات الافتراضية يمر دون أن يلحظه أحد. ولكن لو إن هذه الصيرورة تحدث advient على حدود الثقب الأسود فإن أحد الزوجين الجسيميين يمكن أن يستنشق أو يسحب بينما الآخر يبقى حراً، وهذا ما يعطي الانطباع بأن الجسيم الهارب مرتبط بطريقة ما بالثقب الأسود. فالثقب الأسود الذي لديه كتلة تعادل كتلة الشمس يفقد جسيمات بإيقاع من البطء بمكان يجعل من المتعذر بل ومن المستحيل رصد تلك الجسيمات . ولكن هناك ثقوب سوداء أصغر بكثير وهي المعروفة بالثقوب السوداء المصغرة " الميني" التي لا تتعدى كتلتها كتلة جبل ، فمثل هذا الثقب الأسود يبعث إشعاعات " إكس" وأشعة " غاما" بقوة عشرة مليون ميغاوات‘ وهي كافية لكي تغطي الاستهلاك الكهربائي للعالم كله. فاستغلال طاقة ميني ثقب أسود سيغمر البشرية بالطاقة المجانية لقرون طويلة ولكن ليس ذلك بالأمر البديهي فمن المستحيل في مستوانا التكنولوجي الحالي أن ننصب مثل هذا الميني ثقب داخل محطة لتوليد وتوزيع الطاقة الكهربائية لأنه سوف يخرق المنصة وينزلق نحو مركز الكرة الأرضية و لو نجحنا في المستقبل في الحصول على ميني ثقب أسود فالطريقة الوحيدة لاستغلاله هي وضعه في مدار الأرض مثل الأقمار الصناعية والمحطة الفضائية الدولية. حاول علماء فلك رصد ميني ثقب أسود في الفضاء القريب من الأرض ولكن لم يتمكن أحد منهم من العثور على واحد من هذا النوع. وهناك إمكانية إنشاء ثقوب سوداء صغيرة جداً في المختبر تسمي "ميكرو ثقب أسود micro-trou noir أو في الأبعاد الاضافية للزمكان إذا تمكنا من اكتشافها مستقبلاً. وهذه الأبعاد الزمكانية الإضافية التي ذكرت في نظرية الأوتار الفائقة، موجودة خارج الأبعاد المكانية الثلاثة الواقعية والبعد الرابع الزمن . ولقد ولدت هذه الفكرة عندما حاول العلماء فهم سبب كون الجاذبية أضعف بكثير من بقية القوى الكونية الجوهرية الثلاثة الأخرى كالكهرومغناطيسية وغيرها. فربما يوجد تأثير للجاذبية في الأبعاد الموازية الموجودة على المستوى النظري فقط في الوقت الحاضر.

فلقد ورد في نظرية الأوتار الفائقة إن عالمنا أي الواقع الذي نعيش فيه ليس سوى مكان ذو ثلاثة أبعاد مكانية وبعد زمني رابع يقبع في نطاق من أحد عشر بعداً، عشرة منها مكانية وواحد زمني، وإذا أردنا أن نفهم ذلك ونستوعبه فما علينا سوى مشاهدة الفيلم السينمائي الرائع انترستيلر interstelaire - Interstellar " رحلة بين النجوم"، الذي يقدم صورة واضحة لما يمكن أن يكون عليه واقع متكون من عدة أبعاد كما تصفه النظريات العلمية. لايمكننا رؤية تلك الأبعاد الإضافية لأن الضوء لا ينتشر خلالها بل فقط خلال الأبعاد المكانية الثلاثة الواقعية فقط ، في حين من المتوقع أن الجاذبية بوسعها الانتقال والتأثير داخل و في كافة الأبعاد الموازية وربما هي أكبر بكثير مما هي عليه في عالمنا. وهذا ربما يجعل من الأسهل تشكل ثقب أسود صغير في تلك الأبعاد.وقد نرصد يوماً ما هذه الظاهرة في مصادم الجسيمات الكبير LHC التابع لوكالة الفضاء الأوروبية سيرن CERN، بالقرب من جنيف على الحدود الفرنسية ــ السويسرية. وهو عبارة عن نفق بطول 27 كلم تقذف بداخله حزم للجسيمات باتجاهين متعاكسين بسرعة الضوء قبل أن يتم بينهما تصادم، ومن شأن بعض التصادمات أن تخلق " ميكرو ثقوب سوداء" وهذه الأخيرة تبعث جسيمات تخضع لبعض النماذج التي يمكن التعرف عليها بسهولة . وإذا حصل ذلك فمن المؤكد أن ستيفن هاوكينغ صاحب هذه الفرضية يمكن أن يحصل على جائزة نوبل للفيزياء، والتي تمنح للنظرية التي تثبت صحتها عبر التجارب وقدمت الدليل على صلاحيتها وتعذر دحضها. فعلى سبيل المثال كان بيتر هيغر أحد العلماء الذي اقترح في ستينات القرن الماضي وجود جسيم هو الذي يعطي لبقية الجسيمات ما تتمتع به من كتلة وسمي بوزون هيغز أو جسيم الرب لأنه كان موجوداً في عقل العالم هيغز ولم يكتشفه أحد وبقي على مستوى النظرية. وبعد مرور نصف قرن تم العثور على بوزون هيغز في مصادم الجسيمات وكان انتصاراً للعلم مما ضمن لصاحبه العالم بيتر هيغز الحصول على جائزة نوبل للفيزياء. والحال أنه لم يتم تقديم الدليل العملي والمختبري على إشعاعات ستيفن هاوكينغ الهاربة من الثقب الأسود وقد يحصل ذلك في حياة هاوكينغ أو بعد وفاته. وبهذا الصدد يعتقد هاكوينغ أنه مع مرور الوقت، وعلى مدى تسرب الجسيمات الأولية من الثقب الأسود، يفقد هذا الأخير من كتلته ويتقلص أو ينكمش على نفسه مما يزيد من معدل انبعاث الجسيمات وفي نهاية المطاف، بعد مليارات السنين سوف يفقد الثقب الأسود كامل كتلته ويختفي من الوجود. فماذا سيحصل للأشياء والأجسام التي سقطت داخل الثقب الأسود خلال فترة المخاض؟ لايمكنها أن تظهر أو تنبثق مرة أخرى كما كانت عليه قبل سقوطها داخل الثقب الأسود. يبدو أن المعلومة المرتبطة بالأشياء الهاوية إلى داخل الثقب الأسود تضيع ما عدا الكتلة الكلية والزخم الزاوي والشحنة الكهربائية. ولكن لو ضاعت المعلومة حقاً فإننا سوف نواجه مشكلة حقيقية تضع موضع الاتهام وتشكك بأسس معرفتنا العلمية الحالية. 

منذ أكثر من قرنين تبنى العلماء مبدأ الحتمية العلمية أي الاعتقاد بأن قوانين العلم هي التي تحدد تطور الكون، ولقد صاغ هذا المفهوم بيير سيمون لابلاس ويقول: لو عرفنا حالة الكون في لحظة معطاة فإن قوانين العلم هي التي ستحدد مستقبله كما حددت ماضيه. وكان الامبراطور نابليون بونابارت قد طلب من لابلاس أن يكتب له بحثاً أو دراسة كاملة عن الكون فقام العالم الفرنسي بذلك وقمد بحثه للامبراطور فقال له هذا الأخير بعد أن قرأت البحث أي دور خصصت لله في هذا البحث فأنا لا أرى له أي دور كان فرد لابلاس:" سيدي لست بحاجة إلى هذه الفرضية" . ربما لم يكن لابلاس يعني أو يريد أن يؤكد أن الله غير موجود بل فقط إن هذا الله ، على فرض وجوده، لا يتدخل و لا يخرق أو ينتهك قوانين العلم ، وهو الموقف الذي يتعين على كل عالم حقيقي أن يتخذه. فإذا كان من غير الممكن لقانون علمي أن يعمل على نحو صحيح إلا بتدخل كائن خارق يسمح بسير الأشياء بدون تدخل، عندها لن يكون هذا القانون علمياً إذا كانت صلاحيته مرتبطة بإرادة هذا الكائن الخارق . ففي حتمية لابلاس يجب معرفة موقع وسرعة كل الجسيمات في زمن محدد معطى لكي نتمكن من توقع المستقبل والتنبوء بما سيحدث. ولكن وفي نفس الوقت علينا بالضرورة أن نأخذ بالحسبان مبدأ اللايقين أو عدم الدقة الذي صاغه ويرنير هيزينبيرغ سنة 1923 والموجود في قلب الميكانيك الكمومي أو الكوانتي. وهو المبدأ الذي يقول كلما عرفنا دقة الموقع، كلما قلت دقة معرفتنا بسرعته والعكس صحيح فمن المستحيل معرفة الإثنين على نفس المستوى من الدقة وفي نفس الوقت. كيف يمكن إذن توقع المستقبل ؟ حتى لو لم نعرف على وجه الدقة وبصورة متزامنة السرعة والموقع للجسيم إلا على نحو منفصل وبدرجة متفاوتة من الدقة، إلا أننا يمكن أن نتوقع ما يسمى بــ " الحالة الكمومية أو الكوانتية état quantique" التي يمكن حسابها بنوع من الدقة بمجرد أن نعرف الموقع والسرعة ولو بالتعاقب، ومن هنا نتوقع بالرغم من كل شيء أن يكون الكون حتمياً déterministe: إذا عرفنا الحالة الكمومية أو الكوانتية للكون في لحظة معينة معطاة فمن شأن قوانين العلم أن تسمح لنا بتوقع أي شيء والتنبوء به في أي وقت.

وبذلك يكون ما بدا وكأنه تفسير لما يحدث في أفق الحدث، قد تحول إلى استكشاف وتقصي لمسائل فلسفية جوهرية بالنسبة للعلم. من تصور نيوتن للكون كأنه ساعة كونية مصممة تعمل بدقة وانتظام إلى الأبد إلى قوانين لابلاس ، مروراً بعدم يقين هيزيبيرغ وصولاً إلى زعزعة الإيمان بمعارفنا بهذه النقاط وهذه الحجج بفعل ألغاز وغموض الثقوب السوداء. فنظرية النسبية العامة لآينشتين تقول لنا أن المعلومة الداخلة للثقب الأسود تضيع أو تدمر في حين تقول لنا نظرية الكموم أو الكوانتوم أنها لا يمكن أن تختفي. 

لو ضاعت المعلومة داخل الثقوب السوداء فلن يكون بوسعنا التكهن بالمستقبل لأن بوسع الثقب الأسود أن يبث كماً من أزواج الجسيمات والجسيمات المضادة . ويمكنه أن يتنخم أو يتقيأ كل ما في جوفه من المواد والأجسام التي ابتلعها ولكن ليس هذا هو المهم، بل الأهم أنه لا يوجد أي ثقب أسود بالقرب منا ليشكل خطراً مباشراً علينا. إذا كانت الحتمية أو قدرة الكون المرئي على التنبؤ تنهار أمام الثقوب السوداء، فإنه يمكن أن يخسر أمام أية اختبارات أو تحديات أخرى ، ولو وضعت الحتمية موضع تشكيك ومراجعة فلن يعد بمقدرونا معرفة ماضينا، فكل شيء ، كتب التاريخ ونحن وكل ما يحيط بنا، لن يكون سوى أوهام. والحال أن الماضي هو الذي يخبرنا من نحن وبدونه نفقد هويتنا . لذلك بات من الضروري جداً التأكد مما إذا كانت المعلومة ستضيع نهائياً حقاً داخل الثقب الأسود، أم على العكس يمكن ، مبدئياً ، يمكن استرجاعها. من هنا يعتقد عدد من العلماء أنه لا يمكن للمعلومة أن تضيع نهائياً وإلى الأبد، ولكن لا يوجد واحد من بينهم من اقترح آلية تتيح تفسير كيفية حفظها . توالت المناقشات والأبحاث والسجالات على مدى سنين طويلة ، إلا أن العالم الوحيد الذي اعتقد أنه وجد الجواب هو ستيفن هاوكينغ ويستند حله على فكرة للعالم ريشارد فينمانRichard Feynman ، تقول بوجود، ليس قصة واحدة أو تاريخ واحد ، بل عدة تواريخ مختلفة ممكنة الحدوث، وكل واحد منها له إحتماليته الخاصة به. وهنا يوجد قصتين الأولى هي وجود ثقب أسود يمكن أن تسقط بداخله الجسيمات المادية، وفي الأخرى لا يوجد ثقب أسود. فمن الخارج، لايمكننا معرفة وجود أو عدم وجود ثقب اسود على وجه الدقة. وبالتالي هناك دائماً إمكانية ما تقول بعدم وجود ثقب أسود وهذه الإمكانية كافية للحفاظ على المعلومة، بيد أن هذه المعلومة لن تعاد تحت شكل مفيد، مثلما لو أحرقنا انسكلوبيديا أو دائرة معارف . فالمعلومة التي تحتويها تظل موجودة لو جمعنا الدخان والرماد المتبقي من عملية الحرق إلا أن القراءة لن تكون سهلة كما هي عليه قبل حرق الانسكلوبيديا. وكان ستيفن هاكوينغ قد تراهن مع عالم آخر هو كيب ثورن Kip Thorne ضد عالم فيزيائي آخر هو جون برسكيل John Preskill، حيث كان هاوكينغ وزميله ثورن يعتقدان بأن المعلومة تضيع إلى الأبد عكس ما كان يعتقده برسكيل، وخسرا الرهان بعد أن تأكد ستيفن هاوكينغ من إمكانية حفظ المعلومة واشترى انسكلوبيديا لزميله الذي ربح الرهان جون برسكيل .

من الناحية النظرية المحضة، وفي إطار مفهوم حتمي للكون، يمكننا أن نحرق انسكلوبيديا ومن ثم نعيد بنائها وترميمها بشرط معرفة خصائص وصفات ومزايا ومواقع كل ذرة وكل جسيم داخل الذرة المكونة لكل جزيء ، للحبر وللورق وتشخيصها بدقة لامتناهية في كل ثانية بل وفي كل جزء من مليار من الثانية. وهذا أمر مستحيل في الوقت الحاضر ويحتاج إلى مستوى علمي وتكنولوجي يتجاوزنا نحن البشر يملايين السنين، فلو تمكنا من هذه التقنية فسوف نقوم بعملية النقل الفوري للأشياء والأشخاص كما في أفلام ومسلسلات الخيال العلمي ستار تريك وهي عملية التليبورتيشين téléportation وهي ممكنة من الناحية النظرية لكنها شبه مستحيلة من الناحية التكنولوجية في الوقت الحاضر. ويعمل ستيفن هاكوينغ حالياً مع فريق من زملائه العلماء على نظرية رياضية جديدة اسمها الــ supertranslation من شأنها أن توفر الآلية اللازمة لحفظ المعلومة داخل الثقب السود، حيث تشفر المعلومة قبل ولوجها إلى أفق الحدث للثقب الأسود وتتحول إلى معلومة رقمية افتراضية. كما لو أن المعلومة تتحول إلى هولوغرام ثنائي البعدين أو صورة مجسمة ضوئية ذات بعدين مع أنها تعطي انطباع بأنها مجسمة ذات ثلاثة أبعاد مكانية وبعد زماني هو مدة العرض. ولقد نشر ستيفن هاكوينغ ورقة بحثية بهذا الصدد تحت عنوان :" Soft Hair on Blak Holes ، وبالفرنسية تترجم إلى des cheveux mous sur les trous noirsوتعني بالعربية الشعر الناعم على الثقوب السوداء". تعطي لمحة مبدئية وأولية لسياق هذه النظرية الرياضية المعقدة والصعبة جداً . ولو ذهبنا بعيداً في التأويل والتفسير والافتراضات التي تبدو وكأنها ميتافيزيقية، لقلنا بأن من نتائج هذا التفسير هو أننا لو سقطنا داخل ثقب أسود فائق الضخامة فهل يمكننا أن نخرج منه سالمين؟ ومن أين سنخرج ؟ هل هناك مخرج في الطرف الآخر للثقب السود؟ وهل سنخرج في عالمنا الذي دخلنا منه أم نخرج إلى كون آخر موازي أو متداخل مع كوننا المرئي؟ لو تقبلنا أطروحة ونظرية تعدد الأكوان فسوف يكون هذا السيناريو ممكناً وأن الثقب الأسود أو الثقب الدودي يمكن أن يشكل ممراً نحو كون آخر مجاور بيد أننا لو فعلنا ذلك فلن نستطيع العودة بتاتاً إلى كوننا المرئي مثلما هي رحلة الكائن الحي من الحياة إلى الموت حيث لانعرف شيئاً عما يوجد ما بعد الموت. بعبارة أخرى لو أن ثقباً اسود عملاق يدور بسرعة هائلة تفوق سرعة الضوء فإن قلبه قد لايشكل فرادة عادية كالتي تحدثنا عنها، أي نقطة لامتناهية الكثافة ، بل ستكون فرادة من نوع الحلقات المتصلة كالنفق مما يفتح الباب أما مضاربات وتخمينات وافتراضات حول إمكانية السفر داخل الثقب الأسود ، ومغادرة كوننا المرئي الذي نعيش فيها نحو كون آخر قد يشبهه وقد يختلف عنه كلياً في كل شيء. والرسالة التي أراد ستيفن هاكوينغ إيصالها هي أن الثقوب السوداء قد لا تكون سوداء كالحة ومعتمة إلى هذه الدرجة التي نتصورها فهي لست سجون لامخرج منها ولن يفلت منها أحد فيمكن لأشياء وأشخاص أن يخرجوا من الثقب الأسود ليدخلوا إلى عالم آخر وكون آخر، مرحباً بكم في عالم الأكوان المتعددة كما صرح ستيفن هاكوينغ .