&
بعد ثماني سنوات من رئاسة باراك أوباما، طويت صفحة "القوة الناعمة" التي سعى البعض لتطويرها إلى "القوة الذكية"، وجاء الرئيس دونالد ترامب متوعداً باستعادة هيبة الولايات المتحدة ونفوذها العالمي. وبعد شهور قلائل من توليه السلطة، وتحديداً في أبريل الماضي، قال مايك بينس نائب الرئيس الأمريكي في كلمة ألقاها على حشد في مدينة هاريسبورغ التابعة لولاية بنسلفانيا "الرئيس ترامب يدافع عن حلفائنا ويقاتل الأعداء... فقد قام بتحذير إيران ووقف بحزم أمام خطر النظام في الشمالية. العالم يرى قوة وحزم رئيسنا". وأضاف "الخطوات التي اتخذها في سوريا وأفغانستان، تعد شاهدا على عودة الهيبة الأمريكية". وأكد بينس "خلال المئة يوم الماضية من الحكم، استطاع الرئيس ترامب أن يحول أمريكا.. وهذه فقط البداية".
استعادة هيبة النسر الأمريكي تمثل إذن أحد ركائز استراتيجية الرئيس ترامب، وهذا الأمر يفسر ـ إلى حد كبير ـ أسلوب ترامب الصارم في التعامل مع ملفات مثل فنزويلا، التي قال فيها "إنه يدرس خيارات للردّ على الأزمة السياسية المتصاعدة في فنزويلا، تشمل تدخل الجيش الأمريكي”، ملمحا إلى أن فنزويلا ليست بعيدة جدا وبالتالي يستطيع توجيه ضربة عسكرية لها بسهولة إذا لزم الأمر.
الشواهد تؤكد أن الرئيس ترامب يولي اهتماماً أكبر بالقوة الخشنة، ولا يبدي قناعة كبيرة باستراتيجية القوة الناعمة، أو مزيج القوتين (الخشنة والناعمة) الذي يعرف بالقوة الذكية، وقد نجح بالفعل في استعادة جزء من الهيبة الأمريكية التي تراجعت كثيراً خلال سنوات أوباما، ورهانه على القوة الناعمة واستراتيجيات تجريبية مثل "القيادة من الخلف" وغير ذلك.
في المقابل، ارتفع سقف احتمالات اندلاع حروب عالمية في عهد الرئيس ترامب، ولكن التحليل الدقيق لا يشير إلى أن حرباً عالمية جديدة باتت على الأبواب، فالرئيس ترامب لم يأت من خلفية عسكرية، وهذا يعني أن التلويح باستخدام القوة بالنسبة له ربما يصب في اتجاهات أخرى، مثل زيادة مبيعات الأسلحة الأمريكية وإنعاش خزائن الشركات الدفاعية، التي تتربع الولايات المتحدة على عرشها عالمياً.
إذا أردت أن تعرف الاتجاه الحقيقي للبيت الأبيض فعليك بمتابعة تصريحات جيمس ماتيس وزير الدفاع الأمريكي، باعتبارها "الترمومتر" الذي يقيس مستوى ارتفاع "حرارة" الإدارة الأمريكية، وهي في مجملها تشير إلى أن الولايات المتحدة لم تغير قناعاتها الاستراتيجية بشأن خوض حروب جديدة، فهي لا تزال تفضل الحرب بالوكالة، ولا تزال تتجنب تكرار تجربة فيتنام المريرة، ولكن هذا لا يعني أنها لن تخوض حرباَ بالمرة، لاسيما إذا فرضت عليها صراع من جانب نظام مارق ومتهور مثل كوريا الشمالية.
علينا أن نفكر جيداً في تصريحات المبعوثة الأمريكية لدى الأمم المتحدة خلال اجتماع لمجلس الأمن الدولي لمناقشة التهديدات الكورية الشمالية، حيث قالت نيكي هايلي إن من الضروري اتخاذ "أقوى إجراءات ممكنة" لمعاقبة كوريا الشمالية بعد تجربتها "النووية" الأخيرة، وأضافت هايلي "حان الوقت لاستنفاد كل الطرق الدبلوماسية قبل أن يصبح متأخرا جدا لمعالجة هذه القضية". وهذه التصريحات تشير إلى أن هناك تركيز على السياسة، ولكن هناك أزمة في الخيارات الدبلوماسية للتعامل مع الازمة، لاسيما بعد ان فرض مجلس الأمن حزمة من العقوبات وصفت بأنها "الأقسى" من نوعها، ثم عاد الجميع للبحث عن "عقوبات أقسى" للرد على التهديد الكوري الشمالي.
قد يعتقد البعض أن هذا السلوك الكوري الشمالي يمثل تهديداً للولايات المتحدة وقيادتها للنظام العالمي فقط، ولكن الحقيقة أن هذا السلوك المارق يمثل تهديداً للأمن والاستقرار العالمي بأكمله، فالتهديد المجنون بشن حرب لا يزال يتواصل وتتفاقم خطورته بوتيرة متسارعة في الآونة الأخيرة، ومن الواضح أن النظام الانتحاري في بيونج يانج لا يبدي اهتماماً كبيراً بالعقوبات الدولية، ومن ثم يجب البحث عن سبل جديدة لإجبار هذا النظام على الكف عن ممارساته والالتزام بالأمن السلم الدوليين.
ربما تكون النقطة الإيجابية الوحيدة في الأزمة الكورية الشمالية أن هناك توافق دولي تام على ضرورة الحزم مع الخروقات التي يرتكبها هذا النظام، فليس هناك انقسام دولي حول كيفية التعامل مع هذه الأزمة مثلما تشهد أزمات أخرى كسوريا والتجارب الصاروخية الإيرانية وغير ذلك.
القيادة الأمريكية للعالم لا تختبر إذن في الرد على التهديد الكوري الشمالي بشكل فردي أو لجهة الحلول العسكرية، بل كيفية قيادة العالم إلى تبني ردود دبلوماسية حاسمة تجبر بيونج يانج على الانصياع للإرادة الدولية، وهنا فقط عصب اختبار القيادة الأمريكية، وما يمكن أن تسفر عنه هذه الأزمة سيكون محدداً ـ بشكل كبير ـ لتوازنات القوى الراهنة في العالم، والأوزان النسبية للقوى المنافسة مثل الصين وروسيا وغيرها.
&