قيل: إن الدُّنيا دارُ بلاءٍ وابتلاء، وامتحانٍ واختبار، مشحونةٌ بالمتاعب، مملوءةٌ بالمصائب، مشوبةٌ بالرزايا، محفوفةٌ بالبلايا، طافحة بالأحزان، مشبَّعة بالأكدار، فلا يدوم لها حالٌ، ولا يطمئن لها بال، طبيعتُها مكَّارة، وأيامُها غرَّارة.

تكثرُ فيها المصائب، وتطغى فيها المعايب، وتتنوع فيها الابتلاءات، وتتعدد المتباينات، ويُبتلى أهلها بالمتضادات، وتتلوَّن فيها الفتن، وتتباين المحن، وتتداخل الإحن. لَكَمْ ترى من شاكٍ، وكمْ تسمع من باك!

والمصائب محَكٌّ للإنسان؛ إما أن يكون أو لا يكون، إما أن يصبر وإما أن يستسلم، ثم يسخط على حال الدنيا. وقد قال الإمام علي -كرم الله وجهه-: "الرضا بمكروه القضاء أرفعُ درجات اليقين". وفي الحياة أضداد، فقد خلق الله الشيء وخلق ضده، والأضداد وُجدت من أجل معرفة النعم؛ فلولا المرضُ ما عُرِفت نعمة الصحة، ولولا الليلُ ما عُرِف النهار، ولولا النهارُ ما عُرِف الليل، ولولا الحرُّ ما عُرِف البرد.

وهناك من يقول - بفقه الدين والحياة - بأن المصيبة والبلية ما جاءت لتهلكنا، وتقتلنا؛ وإنما لتمتحن صبرنا، فإن ثبت العبد اجتباه ربه، وإن انقلب على وجهه طُرد، وصفع على قفاه، وتضاعفت عليه المصيبة. فالبلاء يجمع بين العبد وربه، والعافية تجمع بين العبد والدنيا، فإذا جاء البلاء اجتمعتَ مع الله، وإذا جاءت الدنيا مُقبلة فلربما انغمسْتَ فيها وانغمسَتْ فيك!

ما يجري اليوم، هو المشهد الأقرب لاختبار البشر، فلا نجد سوى أهل غزة، وهم يصارعون المحن والمصائب في صراعٍ ما بعده صراع، وبعزمٍ يُضرب به المثل، وبصبر ما بعده صبر، وكأننا في مشهد يخلق من المحنة قوة، ومن ضيق الفناء متسعاً للحياة، ومن الشدة انفراجاً، ومن التعاسة سعادة، ومن الشقاء نعيمًا في الدنيا والآخرة. شعب يغرق في دمه، وهو يُردّد عبارةً لم تفارق كبيرَهم ولا صغيرَهم، عبارة "الحمد لله"، كل هذا في ثبات غريب، وصمود رهيب.

الحمد لله،

كانت سلاحاً فتاكاً استخدمه أهل غزة في مواجهة سلاح التدمير والإبادة الجماعية، وكلمةً سحريةً للبقاء على قيد الحياة، مثلما أصبحت عنواناً عريضاً عابراً للقارات، فكانت فاتحةً لمعرفة شعوب العالم حقيقة القضية وعدالتها، وسر صمود شعب "الحمد لله" الذي لا يُهزم ، وثباتهم، وذوْدهم عن ذويهم وبيوتهم.

الحمد لله،

هي التوحيد؛ ففيها توحيد وحمد، وهي أول كلمة قالها آدم -عليه السلام-بعد أن خلقه الله، وأول كلمة في القرآن الكريم، وأفضل الناس يوم القيامة هم الحامدون، وخير الدعاء (الحمد الله)، فكل حامد شاكر، وليس كل شاكر حامداً، والرسول -صلى الله عليه وسلم-يقول: أفضل عباد الله يوم القيامة الحامدون.

الحمد لله،

سلاح الدبابة النفسية الذي يحاربون به أهل غزة في معركة الأرض والبقاء، ومفتاح الثبات الذي يعقبه الفرج، وسط لهيب نار الحرب ومؤامرة الاقتلاع، وسماسرة تجار السياسة والدين للقضية!

شعب جريح يئن من توحُّشِ المحتل ومصاصي الدماء، وقساوة الأوضاع والظلم والاستبداد، وويلات النكبات والتهجير المرير، وظلم وقسوة ذوي القربى، الذين يغرقون إلى الأذقان في الثروات، وقادة أمة لا تتحرك إلا بالريموت كنترول الأجنبي!

الحمد لله،

يقولها الغزّاوي، وسط المحن والنوازل، فلا يُقهر ولا يَقلق، ولا تزيده الابتلاءات وفقد الأحباب وهدم البيوت إلا قوةً وثباتاً؛ فيصرخ بين الأنقاض وهو مضرّج بالدماء، ووسط آليات العدو وصواريخه التي لا تتوقف، وهي تصب جامَ غضبها، ورغم ذلك لا ييأس؛ فيقف صارخاً: الحمد لله على كل حال! وهو كالمعدن الأصيل الذي لا يزيده العرض على النار إلا لمعاناً وبريقاً.

الحمد لله،

يقولها الغزّاوي، وقد راح كلّ الذين كانوا معه في العمارة التي تأويهم. استُشهد كل ساكنيها، ولم يبق منهم إلا أقل القليل، وعندما تم رفعهم من بين الأنقاض، لا يكاد السامع يسمع صراخهم ولا أنين جراحهم إلا ومعها صوت (الحمد الله) على ما وجدوا، وعلى مَن فقدوا، وما رأوْه من مشاهد مأساوية مرعبة للخراب والدم والجثث المتفحمة، والمنصهرة في الكل المحترق.

الحمد لله،

يقولها أطفال غزة، في مشاهد متنوعة تنفطر منها القلوب؛ أطفالٌ فقدوا كل عوائلهم؛ فلا أمّ ولا أب ولا أشقاء ولا بيت يأويهم. وغلام يصرخ في وجه أخته يطلب إليها أن تقول بأعلى صوتها: "الحمد الله"، رغم أن باقي إخوته تحت الركام، وتلك طفلة أخرى فارقت الحياة. وتلك فتاة ثالثة بعمر الورود تبيع لُعبَها لتشتريَ خبزاً كي يقتات منه شقيقها الباقي لها من كل عائلتها!

الحمد لله،

يقولها الجميع بإيمان متوحِّد بالإرادة والتشبث بالأرض؛ هذا نصيبنا في هذه الدنيا، والحمد لله على قضائه وقدَرِه، وكل شيء عنده بمقدار ولأجلٍ مسمى، و(قُل لن يصيبَنا إلا ما كتبَ الله لنا). الحمد لله إن متنا أو بقينا أحياء، هو الذي خلقنا وهو الذي يأخذنا.... الحمد لله على كل حال.

ونسأل: من أي طينة عُجِن هؤلاء؟

من غير الطين الذي صُنعنا منه، ومن غير عالمنا الحالي الذي يسبَح في الماديات، فهم يحمدون الله مليًّا في أكبر المحن؛ بينما لا نحمده نحن في تلك النعم الكثيرة التي نتقلب فيها ليل نهار؛ فهم من غير طينتنا، وهم من غير بيئتنا؛ تلك الملوثة بالفساد والنفاق والخيانة.

إن أثقال الحياة وشواغلها لا يطيقُ حملها الضعاف المهازيل، ولا ينهض بأعبائها إلا العمالقة الصابرون وأولو العزم من الناس، أصحاب الهمم العالية، أمثال أهل غزة. ومن مأثور الحِكَم: إن المصائب كثيرًا ما تكون رحمةً في ثوب عذاب، وهي جلالٌ نجثو أمامه خاضعًين خاشعين، والجزع عند المصيبة مصيبةٌ أخرى.

والشافعي - رحمه الله - يختصر فلسفة الشدائد فيقول: جَزى اللهُ الشدائدَ كلَّ خيرٍ / وإن كانت تُغصّصُني بريقي. وما شكري لها إلا لأنـِّي / عرفت بها عدوِّي من صديقي. ولا أعرف إن كانت غزة سوف تقبل منا براءة ذمة!

الحمد لله،

غزَّاوية بامتياز؛ في النطق، والحق، والصبر، والثبات.