تمرّ الذكرى السنوية الأولى لسقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول (ديسمبر) 2024 وسط شعور متباين بين السوريين. فبينما كان ذلك اليوم لحظة انتظرها الملايين لما يقارب أربعة عشر عامًا، سرعان ما تلاشت نشوة الانتصار وتحولت إلى تساؤلات ثقيلة: هل تحقق فعلًا ما خرج السوريون من أجله؟ هل سقط النظام أم أنه تغيّر شكله فقط؟ وهل كانت الدماء والدموع والسنوات الطويلة من الانتظار تستحق ما انتهت إليه الأمور؟

لا يمكن تجاهل المشهد الأول الذي شاهده العالم في ذلك اليوم، انهيار سريع لنظامٍ حكم سوريا بقسوة على مدى عقود، وهروب رئيسه الذي اعتُبر رمزًا للبطش والاستبداد. خرج السوريون إلى الشوارع في دمشق وحلب وقامشلو ودرعا وإدلب وعفرين، يرفعون شعارات الحرية التي نادوا بها منذ 2011. المدهش أنّ كثيرًا من مؤيدي النظام أنفسهم استقبلوا سقوطه بشيء من الارتياح، وكأنهم يعترفون ضمنيًا بأن هذا النظام كان قائمًا فقط على الخوف لا على الولاء أو القناعة.

لكن تلك الفرحة العارمة لم تعمّر طويلًا. فخلال أيام، وربما ساعات، بدأت رياح جديدة تهب فوق سوريا، رياح حملت معها ملامح سلطة أخرى تتشكل بسرعة وتستغل لحظة الفراغ. سارعت هيئة تحرير الشام، المعروفة سابقًا باسم جبهة النصرة، إلى تقديم نفسها بوصفها القوة المحرِّرة، معلنة أنها هي من أسقطت النظام، وأنها الأحق بقيادة البلاد في المرحلة المقبلة. ولم يكن مستغربًا أن تجد الهيئة دعمًا من بعض الفصائل العسكرية التي رأت في سقوط النظام فرصة لتثبيت نفوذها، لكن ما كان صادمًا للكثيرين هو السرعة التي حُسمت فيها الأمور، وكأن السيناريو كان معدًا مسبقًا.

عُقد مؤتمر النصر الذي بدا أقرب إلى إجراء شكلي منه إلى مسار وطني جامع. وفي المؤتمر، نُصّب أبو محمد الجولاني قائدًا للسلطة الجديدة، دون أي وجود حقيقي للقوى المدنية أو السياسية أو الثورية التي دفعت الثمن الأكبر على مدار السنوات الماضية. وبعد ذلك، تتابعت سلسلة من الإجراءات التي وُصفت بأنها محاولة لإظهار شرعية الحكم الجديد، لكنها في الحقيقة لم تكن سوى إعادة إنتاج لآليات السلطة القديمة: حكومة كل أعضائها الرئيسيين من الهيئة نفسها، إعلان دستوري هش مليء بالثغرات يمنح الجولاني سلطات واسعة لخمسة أعوام، وانتخابات مجلس شعب أقرب إلى مسرحية لا دور للمواطن فيها إلا كمتفرج.

كان السوريون يأملون أن يقود سقوط النظام إلى مرحلة جديدة تُبنى على العدالة الانتقالية والمحاسبة واحترام حقوق الإنسان، لكن ما حدث كان في كثير من الأحيان نقيضًا لذلك. فقد شهدت البلاد خلال أشهر قليلة مجازر مروّعة استهدفت مدنيين من طوائف مختلفة، بدأت بمجازر الساحل ضد العلويين التي راح ضحيتها نحو سبعة آلاف شخص خلال أربعة أيام فقط، ثم تبعتها مجازر أخرى في السويداء أودت بحياة أكثر من ألفي درزي في يومين. هذه الأحداث لم تُقرأ إلا بوصفها تكريسًا للعنف الطائفي وتذكيرًا مؤلمًا للسوريين بجرائم الحرب التي ارتكبها النظام السابق نفسه.

وتجلّت أساليب الحكم الجديدة أيضًا في خطاب إعلامي متخم بالتحريض والانقسام. فقد أطلقت الهيئة ماكينة دعائية ضخمة ركّزت بشكل يومي على فكرة انتصار الطائفة السنية وتبني خطاب العشائر والفزعات، ما أدى إلى تعميق الانقسامات العمودية بين المكونات السورية. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل جرى استثمار اللحظة لتوجيه الشارع ضد المكوّن الكردي بسبب مطالبته باللامركزية، في استعادة شبه كاملة لسياسات النظام السابق ولكن بجرأة أكبر وعلنية أكثر.

وفي الوقت الذي كانت تُضخ فيه مئات الصور الدعائية للجولاني وهو يلتقي وفودًا أو يفتتح مشاريع أو يطلق برامج جديدة أو يلعب رياضة، كان المواطن السوري يشعر بأن شيئًا لم يتغير على الأرض. الفقر يتزايد، الفساد يستشري، الظلم يتوسع، والمخيمات ما تزال تضيق بآلاف العائلات التي تنتظر معجزة لا تأتي. حتى مذكرات التفاهم التي أعلنتها السلطة الجديدة بالعشرات لم تتجاوز حدود الأوراق واللقطات المعدّة للإعلام. فالمؤسسات لم تُبنَ، والخدمات لم تتحسن، والمساءلة بقيت غائبة بالكامل.

بعد عام كامل، تبدو الصورة أكثر وضوحًا. لا يبدو أن ما حدث في 8 كانون الأول (ديسمبر) كان تحريرًا حقيقيًا، بل أقرب إلى عملية إعادة تدوير لمنظومة الحكم نفسها، بوجوه مختلفة، ولكن بأساليب وممارسات مشابهة: انفراد بالسلطة، تغييب للمجتمع، استثمار للانقسامات، واحتكار لمستقبل البلاد بيد مجموعة واحدة. لقد تغيّر رأس النظام، لكن بنية الاستبداد بقيت قائمة.

هذا الواقع المرير لا يلغيه أي خطاب إعلامي، ولا أي مظهر احتفالي أو رمزي. فالسوريون الذين خرجوا قبل أربعة عشر عامًا لم يثوروا من أجل استبدال دكتاتور بآخر، ولا من أجل إعادة رسم المشهد نفسه بألوان مختلفة. ثاروا من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية، من أجل دولة تحترم جميع أبنائها دون تمييز. وما لم يكن هذا هو الهدف، فإن ما جرى لن يُسمّى تحريرًا، بل سيكون مجرد فصل جديد من فصول إعادة تدوير القمع وتوريث البلاد لمن يحسن استغلال اللحظة.

في ذكرى السقوط الأولى، يبقى السؤال مفتوحًا: هل ما زالت سوريا تملك فرصة للتحرير الحقيقي؟ أم أننا ما زلنا ندور في حلقة مفرغة تُصنع فيها الأنظمة وتُعاد صياغتها بينما يبقى الشعب خارج دائرة القرار؟ الجواب لم يُكتب بعد، لكنه بالتأكيد لن يأتي ما لم يعد السوريون إلى جوهر قضيتهم الأولى: حرية شعب، لا انتصار سلطة.