تبرز قصة الثورة السورية بثرائها وزخمها في طرائق احتفاء الشعب السوري بالذكرى الأولى للتحرير؛ فمنهم من يصوّر لحظته المجيدة، لحظة إدراكه أن البلد تحرّر من حكم الأسد، وآخرون يروون قصص معاناة الشعب في الاعتقال والحصار والنزوح، أو يذكّرون بجرائم النظام البائد. مراسلون حربيون يعيدون شريط أحداث الأحد عشر يوماً التي شكّلت معركة ردع العدوان الحاسمة. يتشارك معظم السوريين الآن في التعبير عن ملحمتهم الفريدة إنسانياً ووطنياً وشعبياً. بالمقابل، أشدّ ما تتباين وجهات نظرهم حوله هو منجزات الحكومة الانتقالية وانتهاكاتها. وبرأيي، هناك سؤال لا يقلّ أهمية لمستقبل سوريا: هل تلتزم هذه الحكومة بواجباتها في تهيئة السوريين لنظام جديد منتخب، أم أنها تتصرف كحكومة شمولية، وبالتالي يمكننا مساءلتها عن عدم إرساء أسس نظام سياسيّ واقتصاديّ واضح حتى الآن؟
خلق الأسد حالة من الاستعصاء السياسيّ استمرت أربعة عشر عاماً، أسّس لها منذ خطابه الأول بعد الثورة: "لا وجود للرمادي بيننا، إمّا معنا أو علينا"، ما أدّى إلى انقسام حاد في المجتمع بين الموالين والمعارضين، تبعته عزلة دولية لا أمل في أي انفراج بها أو تغيير، وبدأنا نلتهم أنفسنا ونتآكل، بدءاً من أجهزة الدولة وانتهاءً بالقيم الاجتماعية والثقافية، مدركين أننا ننحدر إلى الهاوية دون مقدرة على التوقف. ولم يكن خطابُ الثوار أكثرَ مرونة، إذ انطلقت الثورة عفويةً شعبيةً يتبعها المثقفون والناشطون السياسيون، دون أن تحظى بقائد سياسي شجاع قادر على توجيه الدفة بما يناسب مصلحة البلد. الاندفاع الثوري أوهمهم بالقوة، فأعلنوا رفضهم فكرة تنحّي الأسد ومغادرته دون حساب. منذ البداية تشبّثوا بفكرة معاقبة رئيس البلاد، وهم مجموعات صغيرة ضعيفة لا تملك مواجهة دولة أمنية قمعية ذات جيش نظامي. ما بدا حينها شجاعةً وثباتاً على المبدأ، حصرَ الأسدَ في خيارين لا ثالث لهما: القتال أو الموت، واعتمد الطرفان على دعم خارجيّ متفاوت أطال الحرب وتحكّم بهما، ودفعت سوريا كلها أثماناً باهظةً أكثر مما تطيق. الرئيس هرب في النهاية دون محاكمة كابن علي، بل معه أموال الشعب المسروقة وأعمدة نظامه المجرمين. ليت هذا الهروب حدث قبل أربعة عشر عاماً! لكن لا أحد يعترف بأخطائه، ولا أحد يتعلّم منها.
السويداء اليوم تعيش نفس حالة الاستعصاء السياسي؛ تتمسك برفض حكومة الشرع، وهي لا تملك من جهة عدد السكان والموارد على الأقل تأثيراً كبيراً في القرار السياسي، ويذهب الغلوّ ببعض قادتها إلى إعلان الانفصال والارتماء في أحضان العدو الإسرائيلي، بينما الرئيس الشرع، الذي يحظى بتأييد شعبي واسع ودعم عربي ودولي غير مسبوقين، لا يتوانى عن قبول مبادرة أو إجراءٍ ما لرأب الصدع. وقبلها، عندما حدثت مجازر الساحل وبَدَت سوريا ذاهبة إلى الحرب والتقسيم، أعلن اتفاقاً مبدئياً مع "قسد"، ما يشير إلى ديناميكية وقدرة على المناورة والانفتاح على خيارات متعددة للخروج من الأزمات. الرؤية الواقعية المرنة لا تميّزه فقط عن الأسد وقيادات الثورة والسويداء، وإنما عن معظم الشعب، وهذا ما يجعلنا نتقلّب بين التفاؤل والتشاؤم.
استطاع الشرع اغتنامَ اللحظة التاريخية المناسبة وفجّرَ الاستعصاء الأسدي/الثوريّ. حرّر سوريا من النظام القمعيّ والعزلة الدولية في آنٍ معاً، وهذا منحه شرعية ثورية وفضاءً أوسع من مجرد رئيس انتقالي، لكنّ شرايين البلد المتكلسة تحتاج جهوداً جبّارة لتعود إليها الحياة، فهل يملك مشروعاً واضحاً ومنهجاً متكاملاً وحكومة مؤهّلة لنقل الدولة من السبات والتآكل إلى الفعل والنماء؟
تشير الصيغة التي تمّ بها مؤتمر الحوار والإعلان الدستوري وانتخابات مجلس الشعب إلى اتخاذ الحكومة القرارات مسبقاً، وما ظهر للعيان مجرد إجراءات شكلية تفتقر إلى المشاركة والشفافية، متجاوزة دورها كحكومة انتقالية، وبدل أن تهيّئ الظروف والشعب لنظام يُنتخب بنزاهة، تتصرف كأنها جاءت لتبقى، معتمدة على شرعيتها الثورية، وعلى أنها من أسقط الأسد وحرّر البلد. لكنها بالمقابل لا تفصح عن مشروعها وهويتها بشكل واضح، أو أنّهما لم ينضجا بعد. فرغم نفيها مراراً أن تكون حاملة لمشروع دولة إسلامية، بات معروفاً أن القرار في كل مؤسسة ومديرية يعود إلى "الشيخ"، هذا المنصب الديني الغامض من جهة الكفاءة والصلاحيات الممنوحة له، والذي يقرؤه البعض، مصيباً أو مخطئاً، على أنه مؤشّر لوجود حكومة عميقة تقود البلد في الخفاء. يعرّف الإعلانُ الدستوري هوية الدولة بـ"الجمهورية العربية السورية"، لكنّ مسؤولين كباراً جرّدوها أكثر من مرة من كلمة "العربية"، فلا يعرف أحدٌ أهي زلة لسان أم مقصودة. كذلك يوحي إلغاء عيد الشهداء باضطرابٍ في النظر إلى مفهوم الدولة السورية ككيانٍ مستقل. أمّا إدارة الاقتصاد والمال، فما زالت أقرب إلى الاعتباطية والتجريب: فتح باب الاستيراد، ثم إغلاقه، ثم فتحه ثانية دون أسباب موضوعية تتعلّق بالسوق، ورفع الدعم عن مادة الخبز ليصبح ثمنها عشرة أضعاف، ورفع تسعيرة الكهرباء ستمئة بالمئة، وتسريح الجيش والأمن القديم إلا من استطاع إجراء تسوية مالية أو سياسية، وفصل الكثير من الموظفين المدنيين دون تصفية حقوقهم. كلّ هذا وغيره من القرارات غير المدروسة في بلد طحنته الحرب، خلق بطالة واسعة وتردّياً معيشياً يتناقضان مع شعارات نهضة البلد وازدهارها. فهل نحن أمام نظام إسلامي رأسماليّ مشوّه يمنح التسهيلات لأصحاب الثروة، بينما يعجز عن تأمين حدود الكفاية لقاعدته الشعبية؟ ولكن، هل عامٌ من عمر الدول يكفي للحكم عليها، وهي تواجه تحدياتٍ كبرى كالتدخلات الخارجية والانقسامات المجتمعية والتهديد الوجودي؟
لقد أعاد فينا التحرير طموحاتٍ هائلة بالتغيير. تجرّأنا على الحلم ثانية، ولا نريد لدولتنا التي نشأت في رحم الثورة أن تنمو في الفوضى والغموض والمحاباة. نريد وطناً للجميع، وطناً أضاء وجهُه يوم التحرير كمنارة للقلب والعقل. كلما زادت الاضطرابات والمخاوف، نعود إلى تلك الصورة الملهمة، ونتذكر أننا عشنا لحظة خارقة تمنح العمرَ جدواه ومعناه، فنستعيد اليقينَ بأنّ كلّ تهديد أو استعصاء سيزول.























التعليقات