كتب الإعلامي الساخر باسم يوسف في جريدة quot;الجريدةquot; الكويتية مقالاً مؤثراً بعنوان quot;أميquot;، نشر صباح الثلاثاء في جريدة quot;الشروقquot; المصرية.


القاهرة: بكلمات مليئة بالتأثر والشجن كتب الاعلامي الساخر باسم يوسف مقالاً بعنوان quot;أميquot; وهو الأول له بعد وفاة والدته السيدة نادية حمديصالح قبل أيام قليلة، وهذه هي المرة الأولى التي يتحدث فيها عن شأن خاص بعائلته.

وتحدث في رثائه لوالدته عن علاقته بها، وخوفها الدائم عليه، حتى قبل وفاتها بشكل مفاجئ خلال وجودها في الساحل الشمالي، تحدث عن وصيتها ورغبتها في أن لا يراها أحد إذا كبرت في العمر وعانت من أمراض الشيخوخة وأن لا يقوم بزيارتها طلابها حتى تبقى صورتها صورة المرأة القوية في أذهانهم.

وكشف في المقال أن والدته توفيت خلال نومها على سريرها في الساحل الشمالي، بعدما قامت جر لأداء صلاة الفجر، وتحدث عن تكرارها لجملة quot;أنا خايفة عليكquot; لاكثر من مرةمنها عندما قرّر السفر إلى الولايات المتحدة من دون أن يتزوج مثل باقي زملائه.

وكشف للمرة الأولى عن سرّ عدم مقاضته رئيس نادي الزمالك الأسبق مرتضى منصور الذي هاجمه وشتمه هو ووالدته خلال ظهوره في الفضائيات، وأكد أن والدته لم ترغب في بدء إجراءات التقاضي حتى لا تكون طرفاً في قضية تستغرق وقتاً طويلاً ويتردد اسمها فيه بشكل متكرر.

وفيما يلي نص المقال:
laquo;أنا خايفة عليكraquo;

أكثر جملة كانت تقولها أمى فى كل مرة نختلف فيها.

laquo;أنا خايفة عليكraquo;

أكثر جملة قيلت فى كل مرة ثار بيننا خلاف. كانت تكررها كثيرًا حين فضلت ان اسافر بدلاً من ان ابقى فى مصر واتزوج اولاً laquo;زى كل اللى فى سنىraquo;. تأخر بى سن الزواج وكانت أمى لا تهتم إن حصلت على الماجستير أو الدكتوراه أو إن أنجزت أى شىء على المستوى المهنى المهم أن ربنا يهدينى وأتزوج.

laquo;أنا خايفة عليكraquo;

ظننت ان هذه الجملة سوف تتوقف بعد أن أتزوج ولكن جاء دخولى للمجال الاعلامى مصادفة ليزيد خوفها وقلقها. كانت قلقة على ان آرائى ستسبب لى المشاكل فى فترة مضطربة فى وطن مضطرب لا احد فيه يعلم أى شىء الا شىء واحد فقط: ان الكل خائف، الكل مرعوب. وفى فترات الخوف والرعب يختفى المنطق ويتحكم العنف والغضب والعشوائية فى تصرفاتنا.

laquo;أنا خايفة عليكraquo;

قالتها حين هاجمت الاعلام والمجلس العسكرى والاخوان والرئيس.

مع انها كانت تفتخر بى امام اصدقائها الا ان الخوف والقلق كانا ما يحدد علاقتنا دائما.

كأن الأم وجدت فى هذا العالم لتقوم بهذه المهمة فقط: الخوف علينا.

laquo;انا عايزاك تدخلنى على النتraquo;

مع أنها أستاذة جامعة مخضرمة والتعليم هو مجالها الا ان الانترنت كان هو التحدى الاكبر بالنسبة لها. بعد ان قطعنا شوطا كبيرا فى ان تفهم موضوع البريد الالكتروني، قررت بعد الثورة وبعد ان بدأ البرنامج على اليوتيوب ان تتعرف على اليوتيوب ومعه الجانب المظلم من الانترنت: الفيس بوك وتويتر وعالم التعليقات المريع.

laquo;يرضيك أمك تتشتم؟raquo;

لم تصدق كم البذاءات التى كانت تقرأها على الانترنت والتى تبدأ بـ laquo;يا ابن....raquo;

كانت تأخذ هذه الشتائم بشكل شخصى وفشلت محاولاتى فى ان اشرح لها ان عالم تعليقات وشتائم الانترنت ما هو الا مستنقع كبير تتكاثر فيه شخصيات لا حياة لها ولا هم لها الا شتيمة خلق الله. لم تفهم لماذا يشتم الناس بهذه الطريقة ولم تفهم لماذا يسب الناس شخصا بأمه لمجرد أن رأيه لا يعجبهم أو لمجرد أنهم لا يضحكون على ما يقول.

حين انفجرت بالوعة الشتائم فى وجهنا لم أستطع ان افعل شيئا لتهدئة أمى. كانت غاضبة وهذا الشخص الشتام يلف على القنوات لا ليشتمنى ولكن ليشتم أمى لا ليواجه سخرية بسخرية بل ليخوض بدناءة منقطعة النظير فى الاعراض. شخص كل مواهبه الشتيمة والقاء البذاءات على الناس وتكرار كلمة laquo;أمكraquo; كل خمس ثوانٍ لأن هذا هو laquo;تمامهraquo; الذى يترجم عجزه إلى هجوم على أعراض الناس بدلا من مواجهتهم كالرجال.

لم تصدق أمى ان تجتمع صفات مثل الحقارة وقلة الأدب والكذب فى شخص واحد بهذه الطريقة.

laquo;هو بيجيب سيرتى ليه؟raquo;

تساءلت متعجبة وهو يشتم ويفترى ويقول انه كلمها أو يعرفها.

حين قررنا اتخاذ الاجراءات القانونية لمقاضاته بتهمة السب والقذف رفضت أمى وقالت: laquo;انا ست كبيرة، لا اقبل ان أكون محور قضية يذكر فيها اسمى مع هذا الشخص. انت عارف القضايا بتاخد قد ايه. انا مش حمل الهم دهraquo;.

حين حاولنا اقناعها ردت بجملة واحدة: laquo;ربنا حياخدلى حقىraquo;.

نجلس انا واخى فى السيارة التى تقطع بنا الطريق إلى الساحل الشمالى. ابى وحده هناك ينهى الاجراءات فى انتظارنا لنعود به هو وجثمان أمى إلى القاهرة. لا يوجد أى كلام يقال. يحاول كل منا ألا يبكى بصوت عال حتى لا يبدأ الآخر فى البكاء ايضا. كنا نبكى laquo;الى الداخلraquo;.

لاحقا سوف تنفجر كل هذه الدموع.

كلما تكلمت مع أمى فى السياسة تتوتر المكالمة. laquo;مش عايز اتكلم فى السياسةraquo; كانت هى الجملة التى انهى بها المكالمة بعد ان تتوتر.

laquo;انا خايفة عليكraquo;

كان ردها دائما لخوفها ان تجلب آرائى المشاكل. فى اقل من سنتين تم اتهامى بأننى متآمر وخائن واخوانجى وطابور خامس وكافر وماسونى وعميل وتلقيت تهديدات بالقتل والتفجير ومعها يتم شتمها هى بدون ذنب.

توترت مكالماتنا فى الفترة الاخيرة بسبب السياسة التى فرقت بين العائلات والأسر. فى ليلة وفاتها تكلمنا فى كل شىء الا السياسة. تكلمنا فى اليوم العاصف الذى مر عليهم فى الساحل الشمالى وكيف أثر ذلك على شجرة الجهنمية التى زرعتها بيدها. تكلمنا عن نادية الصغيرة وعن شقاوتها. لا اعلم ان كنت سميتها نادية لأننى أحب هذا الاسم أم انها خطة خبيثة لأنال رضاها عنى وعن زوجتى للأبد.

laquo;راجعة امتى القاهرة؟raquo;

laquo;مش راجعة، أرجع ليه؟raquo;

قالتها بحزن وبعفوية بسبب ما تشاهده على التلفاز من قرف سياسى يومى.

أمى لم ترجع فعلا.

منذ سنوات طويلة توفيت جدتى بعد صراع طويل مع المرض والشيخوخة والألزهايمر.

laquo;أوعوا تخلوا حد يشوفنى كدهraquo;

كانت هذه وصيتها لنا فى حالة ان تدهورت صحتها الا يراها أحد. هذه المرأة القوية العنيدة لم تحب ان تظهر ابدا بمظهر ضعف. حتى حين نصحها الاطباء بأن تستخدم عكازا بسبب التهاب الأربطة المزمن فى كاحلها فضلت ان تتحامل على نفسها لأنها اعتبرت ان وقوفها أمام الطلبة بمساعدة عكاز يؤثر على laquo;البرستيجraquo; الذى تحب دائما ان يحيط بها.

تجنبت أمى مصير جدتى، قامت لصلاة الفجر

ثم نامت ولم تستيقظ.

laquo;دى موتة أنبياءraquo;

قالها السائق البسيط ليخفف عنى.

نعم ذهبت أمى بهدوء وسلام ولم تعان كما تمنت بالضبط. كم هو شىء جميل وهادئ لها. كم هو شىء مفاجئ وقاسٍ وصادم وفاجع ومؤلم لنا.

كده؟ تمشى وتبعدى كده؟

ينخرط اهل المتوفى فى طقوس وأفعال كثيرة أثناء الغسل والدفن والعزاء. يؤمنون انهم بذلك يخففون عن الميت ويثبتونه. ولكننا فى الحقيقة نفعل ذلك للتخفيف علينا نحن. ندعو الله ان يثبت الميت عند وفاته ولكن فى داخلنا نريد من الله ان يثبتنا نحن.

الا ندعو له laquo;اللهم بدله أهلا خيرا من أهلهraquo;؟

أى انها الآن فى مكان ومع ناس خير منا ولا تحتاجنا ولا تحتاج لطقوسنا.

نحن من نحتاج اليها.

هى رحلت ولم يعد لجسدها قيمة الا لنا نحن لنتجمع حوله ونمارس طقوسنا وشعائرنا لنوهم أنفسنا بأهميتنا أو ان ما نفعله سيحدث فرقا.

يزداد البكاء للداخل وينفجر على فترات ونتساءل هل لهذا المخزون من الحزن نهاية.

يأتى الناس لتقديم واجب العزاء وتقال نفس الكلمات بطريقة ميكانيكية: laquo;البقاء للهraquo;، laquo;البقية فى حياتكraquo;، laquo;شد حيلكraquo;. نتجاوب بطريقة اكثر ميكانيكية فنردد كلمات بتلقائية laquo;شكراraquo;، الحمد للهraquo;، ان شاء اللهraquo;. أو نصمت أو ننفجر فى البكاء.

هناك أشياء لابد من فعلها، كتابة النعي، اجراءات الجنازة والعزاء.

متى قرر الجنس البشرى أن يغرق نفسه فى تفاصيل دنيوية فى وسط حدث لا يمت للدنيا بصلة؟

يقولون ان الحزن يبقى ولكن تخف وطآته. ولكن ماذا عن الاشياء التى تذكرك بها فيخرج منك كل هذه الدموع التى كنت تبكيها إلى الداخل.

الموضوع أكبر من أماكن وضعت فيها بصماتها الواضحة وأكبر من أشياء كنا نفعلها سويا. فكل شىء حولك هو لها. الآثاث فى المنزل الكبير، الحديقة التى زرعتها بنفسها فى الساحل. نجلس انا وأبى وأخى لنتجاذب اطراف الحديث فنبذل جهدا مضاعفا لنأتى بحديث لا تكون هى محوره. كيف يحدث ذلك وهى كانت كل شىء، كل شىء، هى كانت السبب لكل شىء.

تكتشف انه حتى مع تقدم سنك فإنك تريد ان تفعل أى شىء لتفرح بك أمك. من أول رسمة ساذجة فى المدرسة إلى مقالك أو برنامجك الاسبوعى.

هناك طفل صغير بداخلنا يريد ان يجرى لأمه ليريها ما يفعله.

من سأذهب لها الآن لأخبرها ما فعلت هذا الاسبوع وهى تخفى فرحها لتقول لى جملتها المليئة بالحب والقلق والتوجس:

laquo;أنا خايفة عليكraquo;

يقولون ان الحياة تستمر وانك ستعود تعمل وتجتهد وتبدع فى حياتك.

ربما يحدث ذلك.

ربما نستمر لمجرد اننا نحتاج ان نفعل شيئا ما بحياتنا

لكن بعد أمى لا طعم لكل ذلك.

بعد أمى لا قيمة لكل ذلك.

بعد أمى لا شىء يهم.